الدكتور هشام الحمامي يكتب: إسرائيل و«اليوم الأسود».. لعنة الثمانين!

ذات مصر

أثبتت لنا الأيام السبعة الماضية من يوم 7 أكتوبر 2023م وحتى كتابة هذه السطور أن إسرائيل شأن (غربي) بحت.. ويتصل بالعمق العميق لأمان واستمرار (الحضارة الغربية)، فهل كنا نحتاج إلى هذه المظاهرة الأنجلو/ أمريكية لنتأكد من ذلك؟ بالطبع لا. 

فميلاد (دولة إسرائيل 1948م) محض قرار غربي تلبست فيه الأحداث ببعضها تلبيسا. ستتلبس فيه العقدة اليهودية في التاريخ الأوروبي، مع الصراع الداخلي بين القوميات الأوروبية والحروب النابليونية (1803-1815م) مع قيام الثورة الصناعية/ 1760م) وبداية التاريخ الاستعماري للغرب في الشرق الإسلامي والشرق الأقصى، مع صعود أول (دولة قارية) في التاريخ، دولة بحجم قارة اسمها الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الدولة سيؤول إليها ميراث (الحضارة الغربية) بعد حربين كبيرتين في أوروبا، وستشمل العالم وسيتكون منهما تاريخ جديد، وجغرافيا جديدة.

تقول الحكاية التي ستخرج منها ألف حكاية وحكاية، إنه في عام 1905م دعا حزب المحافظين البريطاني الدول الاستعمارية الكبرى في العالم (بريطانيا فرنسا هولندا بلجيكا إسبانيا إيطاليا) إلى مؤتمر في لندن برعاية رئيس الوزراء البريطاني وقتها هنري كامبل بانرمان (ت1908م).. وهذا الاسم مهم جدا في التاريخ الاستعماري للإمبراطورية التي ستتلألأ عليها الشمس طويلا. 

قال كامبل في افتتاحية المؤتمر: إن الإمبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر إلى حد ما.. ثم تنحل رويداً رويداً.. ثم تزول، والتاريخ مليء بمثل هذه التطورات، وهو شأن ثابت ولا يتغير. 

وألقى في وجوه الحاضرين بسؤاله القنبلة: هل لديكم وسائل يمكن أن تحول دون سقوط الاستعمار الأوروبي وانهياره.. أو حتى تؤخر مصيره؟

لقد بلغنا الآن الذروة، وأصبحت أوروبا قارة قديمة، استنفدت مواردها وشاخت مصالحها، بينما لا يزال العالم الآخر(الشرق) في صرح شبابه، يتطلع إلى المزيد من العلم والتنظيم والرفاهية.. هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها، يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا ومستقبلنا.

تقول الدراسات إن هذا المؤتمر استمر يتداول ويتناقش عامين كاملين حتى عام 1907م! وخرج بتوصيات بالغة الأهمية، عرفت تاريخيا باسم (وثيقة كامبل) التي ستختفي تقريبا من أي مصدر تاريخي يتناول دراسة تلك الحقبة الأخطر (حقبة التحضير للحرب العالمية الأولى 1914-1918م).

وحين ترى هذا (التجهيل الغامض) الواسع أكاديميا وثقافيا، فأعلم أن هناك خطورة تكمن في الموضوع.                  

التجهيل نفسه سنلاحظه بوضوح أشد مع موسوعة الدكتور عبد الوهاب المسيري ت/2008 رحمه الله، اليهود واليهودية والصهيونية).. وكلنا نلاحظ بالطبع (التجاهل الغامض) لموسوعة بهذا الحجم، وبهذه الدقة العلمية والتاريخية الرهيبة.

 ليس من إسرائيل فقط، ولا حتى من العالم العربي فقط! بل العالم الغربي الذي لدية من (المسألة اليهودية) تراكمات تاريخية كثيفة وبالغة التعقيد، ويهتم كثيرا بالدراسات الاجتماعية ذات البعد العميق في تأثيرها واتصال هذا التأثير واستمراره، وهو ما ينطبق على (المسألة اليهودية) على الأقل في جانبها المعرفي، وإن كان جانبها السياسي والاستراتيجي سيضمحل ويقل تأثيره، وهو ما تلوح في الأفق بداياته وبوادره بالفعل. 

لكن في كل الأحوال سيظل (شايلوك) في تاجر البندقية، يمثل حالة تأمل واستغراق في الفكر والسلوك، اللذين أوجدا كائنا هكذا يريد كيلو من لحم أدمى (أنطونيو النبيل)!!!.          ولندع (شكسبير/ت1616م) مبدع شخصية (شايلوك) يرد على وزير الدفاع الإسرائيلي، في ادعائه الكذوب على المناضلين الأبطال في غزة بأنهم (حيوانات بشرية).

سيكون هاما هنا تذكر أن وثيقة كامبل سبقت (وعد بلفور) 1918م، والذي لم يكن سوى تطبيق لأحد أهم مقررات الوثيقة وهو فكرة: إقامة الحاجز البشري الغريب من اليهود على أرض فلسطين.. حاجزا بين الشرق الإسلامي وغربه. 

 لكن السؤال الذي يطل برأسه دائما من كل نافذه استراتيجية (خاصة في أوروبا وأمريكا) يتعلق ببقاء واستمرار هذه الدولة الإسرائيلية، التي تبدو قوية من الخارج، ولكنها(هشة) للغاية في جوهرها بما يثير قلقا غربيا عميقا. 

فلازال الغرب يسير في ركاب اتفاقية (سايكس بيكو/1916م).. التي صنعت الشرق الإسلامي، وليس لديه أي تصور عن بديل لها في صورة الشرق الجديد. 

حركة التاريخ هنا ستسبق حركة البشر، سيتقدم التاريخ وسيقف البشر حائرون.. وسنرى ونشاهد ما يفوق الخيال في تصوراته. 

والخيال هنا سيأخذنا إلى الكاتب الإنجليزي بول ألستر (50 سنة) الذي عاش في إسرائيل لمدة 23 سنة.. من التسعينيات تقريبا. 

ألستر أجرى مقابلات مع طوب الأرض وسأل وسمع الكثير عن المجال العام والخاص الإسرائيلي: السياسي والديني والثقافي.. (جريدة الشروق الإثنين 16 نوفمبر 2020 م). 

يقول: شعرت أن هناك قصة تحتاج إلى سردها حول (مستقبل دولة إسرائيل).. وبالفعل صدرت القصة سنة 2020م بعنوان (العشيرة أم الدولة/ إسرائيل 2048م).

والرواية عبارة عن رحلة (خيالية عبر الزمن) إلى عام 2048 م. بعد أن تم اتفاق سلام بين إسرائيل والقيادة الفلسطينية، وتم دمج جزء من الضفة الغربية في دولة فلسطين الجديدة، وأصبحت القدس الشرقية عاصمتها.. 

أما(غزة) فأصبحت تحت (إشراف دولي)، ووافقت الدول العربية التي كانت تؤوى أحفاد اللاجئين الفلسطينيين على منحهم الجنسية.. 

(الفكرة) في الرواية، هي (الاختلاف العميق) داخل إسرائيل نفسها.. الاختلاف بين التطلعات السياسية، وأسلوب الحياة الدينية للمتطرفين، وعلاقتهم بالعلمانيين.

لقد اتسعت الفجوة إلى درجة الحرب الأهلية ...!! أصبحت(القدس) والمناطق اليهودية المتبقية في الضفة الغربية وعدد من البلدات المجاورة.. دينية متطرفة.

بينما أصبحت أجزاء أخرى من البلاد مع (تل أبيب) علمانية، تعقدت الأمور إلى حدود أن الكنيست قرر إجراء تصويت على استفتاء بتقسيم البلاد إلى (دولتين)، دولة المتطرفين وعاصمتها القدس، ودولة العلمانيين وعاصمتها تل أبيب، وكانت هذه هي بداية النهاية، نهاية إسرائيل. 

إيهود باراك (80 سنة) تحدث عن (لعنة الثمانين) التي تصيب الدول والأنظمة.. فأمريكا نشبت فيها الحرب الأهلية بعد 80 سنة من الاستقلال عن إنجلترا (1776م).. وكذلك انهيار الاتحاد السوفيتي بعد 80 سنة من الثورة الشيوعية (1917م). 

وذهب إلى التاريخ اليهودي واستدعى منه أحد ثوابتهم التاريخية، التي تجزم بعدم استمرار دولة يهودية أكثر من 80 عاما، باستثناء المملكة الأولى بين عامي 586-516 ق.م (مملكة داوود) وفترة(الحشمونائيم) من 140-37 ق.م، وفى الحالتين كانت بدايات التفكك في الثمانين من عمر الدولة. 

ويضيف: تجربة الدولة الصهيونية الحالية هي الثالثة وعلى وشك دخول عقدها الثامن.. وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها.

لقد نزلت بالفعل، وكما يقولون: إنها ليست مسألة كيف ومتى؟ إنها مسألة ماذا بعد؟