ماهر الشيال يكتب: المتدثرون بأوهام التعقُّل

ذات مصر

حجم الادعاء في ما يسوّقه المُتعقّلون من مبررات التنظير الواقعي للأحداث الدامية في الأرض المحتلة- كبير كما أنه يدعو إلى الرثاء.. يلقون بالتبعة على المقاومين؛ وكأن الاحتلال كفَّ يوما واحدا عن ممارساته الإجرامية تجاه الشعب الفلسطيني، وكأن نهج سلطة أوسلو دفع الأمور في اتجاه الحل أو دفع الكيان المغتصب إلى التهدئة.. وكأن العدو توقف ساعة عن ضم الأراضي وبناء المستوطنات! ماذا عن الثمن الباهظ الذي يدفعه الأبرياء الذين لا ذنب لهم؟ سؤال خبيث جدا لكنه -في الحقيقة- يأتي في غير سياق؛ فهو لا ينتمي إلى فكرة الحق الفلسطيني، ولا إلى مبدأ تحرير الأرض من غاصبيها، ولا إلى ضرورة إنهاء الوضع المأساوي للقطاع المحاصر بالفعل منذ سنوات، ولا إلى تخفيف الضغط الصهيوني الرهيب على الضفة الغربية، ولا نصرة المقدسات التي دأب العدو على تدنيسها.. مع إحسان الظن بهؤلاء نذهب إلى أنهم متدثرون بالأوهام مخاصمون للحقائق على الأرض، مدّعون للتعقّل والحكمة في غير موضع.. أما إذا أسأنا الظن بهم - وهذا مطروح أيضا- فسنضعهم في مكان يندى جبين الحر من التواجد قُربه.. لأن ما يروّجون له من تُرّهات لا يصبُّ إلا في مصلحة الكيان المؤقت.

بلغ البؤس بهؤلاء أن يزعموا أنَّ ما حدث صباح السابع من أكتوبر كان متفقا عليه لتبرير محو غزة من الوجود؛ وتهجير أهلها إلى سيناء.. ذلك المُخطط الذي أشير إليه غير مرّة واسموه "صفقة القرن" إلا أن كل المعطيات على الأرض تضع هذه الفكرة البائسة في باب الاستحالة فلسطينيا ومصريا.. تحدّث هؤلاء أيضا عن علاقة جمعت بين حماس وحكومة نتنياهو تفاوض خلالها الطرفان حول تصاريح العمل الممنوحة لأهل القطاع في الداخل المُحتل والتي وصلت إلى 20ألف تصريح في عهد الحكومة الحالية، وهو رقم لم تصل إليه من قبل.. وكأن ذلك يكفي مبررا لتعاون الطرفين في أمور على هذه الدرجة من الخطورة.

يغض هؤلاء المناورون الطرف عن حجم الخسائر الصهيونية التي لم يعرفها الكيان منذ خمسين سنة، ويذهبون إلى مبالغات - متفق عليها بين الجانبين- في تقدير الخسائر في صفوف المحتل.. تبريرا للجرائم ضد الإنسانية التي يمارسها جيش الاحتلال منذ أفاقوا على صوت تلك الصفعة المفاجئة.

والحقيقية - في نظرنا- أن الصراع في جوهره ينطوي على حسابات الألم والإيلام.. ووفق العقيدة يحتسب أهل الحق آلامهم - وإن عظمت- عند الله تعالى الذي أمرهم بجهاد أهل الباطل، وكسر شوكتهم.. لكن هذا الحديث أيضا لا يحظى بأي درجة من القبول لدى هذا "الطابور" الذي يبدو في واقعيته المدّعاة أكثر "تَعَلْمُنًا" من القادة الصهاينة أنفسهم.. حتى "الميديا" المعادية التي تغذي آلة الحرب القذرة لا تفعل ذلك.. إذ نراها في أشهر صفحاتها الموجهة للعرب، لا تستنكف عن استخدام الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، في محاولات بائسة لتلبيس الأمر على الجهلاء.

والحقيقة أن درجة الوعي العربي في هذا الحدث قد جاوزت التوقعات نضجا وإدراكا.. وكان من دلائل ذلك الاستجابة السريعة والواسعة لدعوات المقاطعة للشركات المتواطئة مع الكيان الصهيوني، وكذلك حجم التظاهرات التي عمّت العواصم العربية منذ اليوم الأول للحرب وحتى صلاة "جمعة" الثالث عشر من أكتوبر.

يغض هؤلاء "المتكلمة" أنظارهم عن حجم المكاسب الذي تحقق بالفعل، ولم يعد امام المحتل أية وسائل لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر.. من انكشاف حقيقة الضعف المذري وانعدام كفاءة الأجهزة الاستخباراتية للعدو.. وهو ضعف وزراية تمتد إلى الأمريكي الذي يتعاون ويقدم الدعم دون حساب.. كما وضعت الحرب الأنظمة العربية المهرولة نحو التطبيع مع العدو في أسوأ وضع مع شعوبها التي أظهرت دعمها المطلق للشعب الفلسطيني في وقفته البطولية.. بالإضافة إلى إحباط ملف التطبيع السعودي بشكل شبه نهائي -أو حتى إشعار آخر- كما يؤكد الخبراء بالشأن الداخلي لدولة الكيان عدم قدرة المجتمع "الهش" على تحمل خسائر بشرية بهذا القدر، إضافة إلى أن إطالة أمد الحرب أمرٌ لا يتحمله الصهاينة الذي يمثل الجنود الاحتياطيون ما يتجاوز الـ 60% من قوام جيشهم. 

مغامرة الاجتياح البري التي يفكّر قادة جيش الاحتلال في الإقدام عليها؛ ذرا للرماد في العيون، ودون حساب العواقب؛ ستكون عالية التكلفة.. فقد أثبتت المواجهات على الأرض أكثر من مرة خطأ هذا الخيار العسكري بالنسبة للكيان.. لكن يبدو أن غباءهم هذه المرة بلا نظير.

.. من أهم مكاسب هذه الحرب الظافرة أيضا أن الفلسطينيين حسموا أمرهم بمناصرة المقاومة والانحياز لخيارها، بعد أن كشفت سلطة أوسلو عن وجهها القبيح؛ بممارسات أقل ما توصف به أنها فاضحة لحجم التواطؤ والخضوع للعدو.. في مقابل ما يعف الأحرار عن أخذه من مغانم قليلة.

جسّدت الحرب أيضا اكتمال الفشل الأمريكي في إجبار الأنظمة العربية على إدانة الفعل المقاوم، وهذا يضاف إلى فشل إدارة بايدن دوليا في أكثر من ملف.. أهمها ملف الحرب الروسية الاوكرانية.

أخيرا كلمة للخبراء الاستراتيجيين من دعاة التعقل.. ليس هكذا تورد الإبل..ابحثوا عن طرق أخرى أكثر إقناعا وخبثا وإلا فالصمت لكم أجدى وأنفع.. وإن جرّ ذلك على البعض انقطاع الأجر؛ فلعله يؤجر من باب آخر إذا "نقّطنا بسكاته".