ماهر الشيال يكتب: عملية تخدير إسرائيل!

ذات مصر

يرتكب قادة الكيان الصهيوني في كل مرة الخطأ ذاته، مع توقع نتائج مغايرة.. وهو درب من دروب الغباء الذي لا نظير له.. ففور فوزه في الانتخابات الأخيرة ارتمى نتنياهو في أحضان اليمين المتطرف؛ معتمدا سياسة نهب الأراضي الفلسطينية، واتخاذ خطوات علنية لضم الضفة الغربية؛ دون أن يضع في حسبانه أن ذلك سيؤدي حتميا إلى رد فعل فلسطيني قوي وربما مباغت.

لقد أقدم الرجل المتهم بثلاث تُهم تتعلق بالفساد على عمليات تطهير عرقي في الخليل وغور الأردن.. كما شهدت المستوطنات في تلك الفترة توسعا كبيرا.. مع التواجد المستمر والكثيف لليهود في مناطق الحرم القدسي، بالإضافة إلى عمليات الاستفزاز اليومي للمقدسيين، حتى ما روّجت له حكومته من قُرب التوصل إلى اتفاق مع السعوديين.. ألمح إلى أنه لن يكون سبيلا إلى حصول الفلسطينيين على شيء.

كانت "يديعوت أحرونوت" قد أشارت في تقرير لها أن نتنياهو عقد في الأسبوع الماضي، جلسة مع عدد من المسئولين الأمنيين، حول التهديدات المحدقة بإسرائيل من الجبهات المختلفة.. لم يُدعَ إلى هذا اللقاء معظم وزراء المجلس الوزاري المصغر. وقد تمحور اللقاء حول التهديد الإيراني.. ولم يتطرق أي من المجتمعين إلى أية مخاطر مصدرها القطاع. 

بدا نتنياهو مسوقا جيدا لفكرة الخطر الخارجي على الكيان؛ لافتا الانتباه -غير مرة- بعيدا عن الخطر المحدق القادم من القطاع الذي وضعته السياسات المُتّبعة في ظروفٍ بالغة القسوة، كان من الحتمي أن تؤدي إلى الانفجار.. ظهرت مؤشرات ذلك الانفجار في الضفة أيضا نتيجة للممارسات الإجرامية غير المبررة التي ضاعفت من ثقل اليد الحديدية للاحتلال على الفلسطينيين.

"حماس غير معنية بالحرب ولا تستعد لها" حتى الأسبوع الماضي كانت هذه العبارة هي الأكثر ترديدا في المداولات الأمنية بين مسئولين كبار في الجيش، وقادة المؤسسات الأمنية.. في حين صرّح رئيس مجلس الأمن القومي بثقة أنّ "حماس مكبوحة جدا جدا".. كما أضاف أن المظاهرات العنيفة التي بادرت إليها حماس في الأسابيع الماضية، بجانب السياج الحدودي كانت جزءا من "حملة ابتزازية" نفذتها المنظمة وسَعَتْ بواسطتها إلى إقناع إسرائيل بزيادة عدد تصاريح العمل للعمال الغزاويين في إسرائيل، وأشار إلى أن الأمر لا يعدو كونه شأنا داخليا صنعته ضائقة ذات آثار اقتصادية.. على حد تعبيره.

هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن نتنياهو في سبيل تحصين موقفه المُهدد بالاتهامات- سعى إلى إضعاف خصومه، وعلى رأسهم عدد لا بأس به من قادة الجيش.. غاضا الطرف عن تحذيرات شديدة بدأت منذ حوالي ثلاث سنوات بخصوص استعداد حماس لعملية هجومية كبيرة.. لكن الجهود الحثيثة كانت تصب في مسار تبرئة الرجل، والابتعاد به عن الإدانة ومن ثم السجن.. ولا شيء آخر، ولتذهب الدولة إلى الجحيم.. وهو ما حدث بالفعل.

أما سيناريو التبرير فجاهز.. التنصل من المسئولية وإلقاء التهمة على قادة الجيش ورؤساء الأجهزة، الذين صبت تقاريرهم في اتجاه انخفاض احتمالية حدوث حرب في المنطقة الجنوبية.

هذه اللعبة السياسية التي جرّ إليها اليمين الصهيوني أطرافا عدة؛ كان ثمنها فادحا.. أفدح مما كان يتصور نتنياهو في أسوأ كوابيسه.. فقد بدأ الهجوم الكاسح في فجر السابع من أكتوبر وأسفر في ساعاته الأولى عن سقوط مئات القتلى من المستوطنين والجنود في غلاف غزة.. وإصابة أكثر من ألفين وأسر أعداد كبيرة بلغت في بعض التقديرات عدة مئات.

لاشك أن المقدمات التي ذُكرت كان لابد أن تؤدي إلى كارثة بكل المقاييس؛ لكن ما حدث بعد ذلك فاق حدود الكارثة بالنسبة للجميع.. وتوالت مشاهد الانهيار ونتائج الفوضى حتى أن بعض الوقائع وصلت تفاصيلها للأجهزة عبر توثيق نشرته حماس.

الغياب التام للمعلومات الاستخباراتية، وضعت قوات جيش الدفاع في المنطقة الجنوبية في وضع بالغ الصعوبة.. لم يكن عدد الجنود كافيا على أية حال للتصدي لهجوم من هذا النوع؛ استهدف 50 موقعا بالتزامن.. إذ كانت قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية قد سمحت بنقل ثلاث كتائب كانت تعمل في المنطقة إلى الضفة الغربية بهدف تعزيز القوات المتواجدة هناك خلال أيام العيد.. الأغرب من ذلك أن عمليات نقل الجنود شابها بطء مريب؛ وبدا الأمر بالغ الصعوبة في كثير من الأحيان - بعض الجنود انتظروا لساعات في نقاط التجمع- وكان الوصول بعد ذلك لمناطق الهجوم بمثابة اندفاع أعمى نحو الهلاك المُحتّم.

كيف يمكن تفسير هذه الحالة من الغفلة الكاملة؟.. وكيف خُدِّرت إسرائيل بكاملها على هذا النحو؟ وكيف استسلمت بكل سهولة للمذبحة دون أدنى مقاومة؟ وهل لذلك علاقة مباشرة بالتبرير لرد فعل وحشي وجنوني يمحو القطاع من الوجود، بعد تفريغه تماما من أهله؛ على طريق القضاء على حركة المقاومة؟ وهل من الممكن تصوّر أن هذا السيناريو قد أعدَّ سلفا -برغم فداحة الخسائر- ليكون مقدمة لتغيير شامل يطال المنطقة بأسرها، كما أعلن نتنياهو في تصريح له عشية انطلاق المواجهات؟

أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات شافية في وضع بات أقرب إلى الجنون منه إلى التعقل.. فهل كانت عملية تخدير إسرائيل على هذا النحو المكشوف تمهيدا لاستئصال كامل لقوى المقاومة التي أثبتت أن التطور النوعي الذي يقارب التفوق؛ ليس خاضعا لإمكانات التسليح والتقدم التكنولوجي؛ بقدر ما هو متعلق بالأداء القتالي للأفراد والقدرات الإبداعية للمخططين والمتخصصين في مجال التسليح؟

بالتأكيد.. ستحمل الأيام القادمة تفسيرات عديدة لما حدث.. لكن المؤكد أن مغامرة نتنياهو توشك على الانتهاء، وأن مؤسسات الكيان لن تتسامح معه بشأن هزيمة السابع من أكتوبر التي لحقت بهزيمة السادس من أكتوبر في سجلات العار الإسرائيلية.