عمار علي حسن يكتب: المثابرة على درب الحق والحقيقة

ذات مصر

أظافره التي أكلها زمن الانتظار لا تمنعه من أن يخمش بها صخرة جرداء ملساء، ليحفر لقدميه موضعًا، وهما تصعدان إلى قمة شاهقة، تنيخ عليها النجوم الزاهرات، والكلم الطيب، ولحن يترامى من جوف السماء البعيدة، يعقبه نداء عميق يتهادى فقط لعجوز كادح، لم يتوقف يوما عن المحاولة. 

لا ينتصر الحق ولا الحقيقة في كل وقت، وقد يُهزمان مؤقتًا، فأغلب أيام الناس مع ما هو في بطلان مقيم، لكن ما يمنع الباطل والزيف من التوحش هو وجود الذين يقولون في كل لحظة: 

ـ الحق منتصر.

ليسوا واهمين إذن، لكنهم في حلم هائم يعيشون، دون انفصال عما تلمسه أيديهم وأقدامهم وتراه عيونهم، إنهم الذين يقطفون السحاب العابر، وبين أيديهم يهطل بعض مائه، فيسقى الحرث والنسل. هم الذين لولا وجودهم في حياة الناس لصار كل شيء قبيحا تؤذينا رؤيته، عفنا تضرنا رائحته، خشنا يجرحنا ملمسه، ضائعا تتخبط فيه عقولنا التي أتعبها التفكير والتدبير.

من أين جاء هؤلاء المؤمنين بالحق والصواب بهذا اليقين الذي يخالف ما سار عليه تاريخ الناس؟ إنها الأمنيات التي لم تغرب يوما عن نفوس الآدميين، وإلا انسحق تحت أقدام الأيام التي تندفع بلا هوادة، وماتت كل الأحلام، وانتصرت الكوابيس المفزعة المفجعة.

هذا التمني يُحلِّق فوق رؤوس الكل، فلا يوجد على ظهر الأرض إنسان بلا أمنية حتى لو كانت وهما أو أمرا واهيا أو شيئا صغيرا لا يُرى وقد يذوب في الهواء إلى الفناء. ليست كل أمنية قابلة للتحقق، ومع هذا فإن وجودها هو في حد ذاته تحقق وتحقيق، لأن غيابها يعني مزيدا من البؤس والانحدار والانزالق والتردي والضياع والتيه.

لا يوجد أقسى في هذه الحياة من سؤال الذين يؤمنون بأنهم على حق وصواب، عن جدوى ما يفعلون، بعد أن يكونوا قد عرقوا حتى تعب منهم الجهد، وعرفوا حتى كلَّ منهم الذهن، وأيقنوا حتى وهن منهم الفؤاد، فمثل هذا السؤال الذي تعجز أمامه كل الإجابات، لا يمكن لأحد أو شيء في هذا العالم الغارق في الرذيلة، من أول الخليقة إلى منتهاها، أن يتجاوزه، حتى غلاظ القلوب، الذين يعرفون الصواب وينكرونه، ويدركون الحق ويعطونه ظهورهم، خوفا أو طمعا.

إن الحياة تقسو عليهم، حتى يفر السؤال من بين أصابعهم، وتتوه الإجابات في غيوم تدفعها الريح إلى حيث تنتهي فوق بلاد لا يعرفها الهواء الجامح ولا هم أيضا يعرفونه، لكنهم لا يكفون عن المحاولة، يمدون أصابعهم نحو الأسئلة الطائرة، فلا يمسونها، وهم الذين توهموا أن بوسعهم أن يقبضوا عليها كما يقع اليمام في أفخاخ الصيادين، ويعصروها كما القصب بين تروس تحوله إلى سائل يلذ للشاربين. 

يا سيدي الذي قلت إن الصواب غالب لا محالة، عليك أن تتمهل قليلا، فغلبته قد تتأخر، وتأخذ في طريقها كثيرًا من الرؤوس والآراء والثرثرات التي تطير في الفراغ, إنها تلك التي يطلقها متعجلون، ليسوا أغبياء هم، إنما فرسان عظام، أرادوا أن يقطفوا ثمارا لم تولد بعد، ليس عن غفلة، إنما لأنهم سعوا إلى المسارعة في تبديد القبح الذي يلطخ وجه العالم، وكانت لديهم كل رغبة في أن يدفعوا ثمن ما أرادوا الإقبال عليه.

سمعوا آراء كثيرين ممن يرون تحت أقدامهم، عن السيوف التي تجز الأعناق، والجدران التي تقبض على الأجساد المنهكة، والأيد الغليظة التي تخطف المال والصيت، والمشانق المنصوبة لكل من يقول: لا، والصحراء المفتوحة أمامهم فيتوهون فيها، أو المنافي القلقة خلف البحار التي تتوجس من وجودهم، وقالوا:

ـ أخطأوا التقدير.

بعض هؤلاء اعتقدوا أن كل شيء قابل للمساومة، حتى الكرامة والحرية، وهناك من وقفوا أمام الأسوار الشاهقة المسنونة بحراب تمزق الأجساد والأحلام، وقالوا:

ـ ستزول.

ثم ذرفوا دموعا ساخنة أكلتها الريح المسافرة بين رغباتهم الملحة، وواقع مطمور تحت ركام من ثلج مقيم.

سمعوا ضحكات عارية اقتحمت آذانهم من كل مكان، لكنهم هشوها، وحاولوا متكئين على ما ألفته أقدامهم الحافية من قسوة، ورموا سواعدهم المثخنة بجراج لم تتكيء على وسائد كل الزمن الذي ذهبت أيامه، وبقيت أحكامه، وقالوا:

ـ لا يعرف إلا من يكابد.

كان أغلب الناس قد مروا من هنا، عاشوا هانئين بجهلهم أو تغافلهم أو تنازلهم عن كل ما يجعل الإنسان إنسانا حقا، تطلعوا إلى ستائر سوداء تدلت على أعمارهم العابرة، وقال لهم من تفهموا حالهم، وعركوا ما يجري:

ـ من أصلابكم سيأتي المنتصرون.

لم يكذبوا عليهم، لأنهم عرفوا جيدا أن ما قالوه لم يختلف عما آمنوا به طوال عمرهم المديد، لكنهم كانوا يدركون بما عرفوه عن السنين التي راحت، وتلك التي ألفوها، أن الذي يجري يجرف أمامه كل الأمنيات، وأن القسوة بوسعها أن تبتلع بين أنيابها الحادة كل ما يمد إليها من رغبات أولئك الذين لا يزالون يقفون تحت الرايات العالية التي ترفرف في وجه الأكاذيب والمنافع وقسوة الأيدي الخشنة التي تمتد لتنزل الرايات المجنحة، وتغلق الأفواه الناطقة.

كل هؤلاء لم يتوقفوا طويلا عند حدود الصائب والخاطئ، فالذين سبقوهم على الطريق ثرثروا طويلا عن الحق والباطل، ورسموا ما اعتقدوا أنها معالم الطريق، ليجنوا في النهاية الحسرات، ويتركوا أتباعهم يقفون على رأس الجسور العارية عرايا مثلها، ويسألون بأفواه مقددة من فرط الجوع والخوف والأسى واللهفة والخيرة:

ـ هل يمكن للسماء أن تسمع أنيننًا؟

تقتحم أذنيه ضحكات من جنبات أحد القصور، ويأتيه صوت جهوري يقول:

ـ لا يدرك ما في أفئدة الناس إلا من عرف البيوت الخفيضة، والأبواب المفتوحة بلا حساب.

يضحك لأن الصوت يأتي من هذا المكان، وليس من حارة منسية، أو شارع مترب ضيق، يخنق الناس، لكنه يدرك أن الإنصات أفضل كثيرًا من التجاهل، فيقول:

ـ هل الجوع أسمعنا صوت بطونهم؟

وتأتي الإجابة:

ـ من ملأ بطنه ونسي لا يمكن التعويل عليه، ولا يمكن الثقة في قدرته على أن ينظر في حال الجوعى.