محمد مصطفى موسى يكتب: إبراهيم عيسى.. نجم صحافة "الشعلّقة"

ذات مصر

لم أجد في معاجم العربية الفصيحة، أصلًا للفعل "تشعلَق"، رغم شيوعه في اللهجة المحكية، وأغلب الظن أنه مشتق من الفعل الماضي "تعلَّق"، الأمر الذي يثير السؤال عن السبب الذي حدا باللسان المصري إلى إضافة هذه "الشين" التي تضفي على الموسيقى جَرسًا خشنًا بدرجة ما.

ربما يعود ذلك إلى أن المصريين ينطقون القاف ألِفًا، فعندئذ ستصير الحركات الصوتية لمفردات مثل "علَّق وعَلَقَ وتعلَق" ذات مدلول يفتقر إلى التهذيب، ونحن كما يُعرف عنا، شعب في قمة الذوق والأدب، ولا تخرج العيبة من أفواهنا، ولا نجنح إلى الشتائم الفاحشة، ذلك أن لساننا عفيف يا "...." بصوت الشيخ وجدي غنيم.

على أن هذه الشين الزائدة، تجعل المفردة في ذائقتي اللغوية، كما لو كانت عبرية، هذا إحساس بغير تعليل، كما إنه ليس صحيحًا إذ لم يفضِ بحثي وسؤالي أولي العلم إلى أية علاقة بين المفردة والعبرية.

على أي حال، لعله إيحاء ما، لكوننا نعيش في الزمن العبري، أو لأنّا نتحدث عن إبراهيم عيسى، الذي دأب خصومه "المتخلفون الرجعيون" كما يقول، على إطلاق اسم "إبراهام عيسى" عليه.. خسئوا وساء ما يدعون، إنه الأستاذ الفلتة العبقري الذي أتى بما لم يخطر على بال الأوائل.

تسمية إبراهام ترجع إلى هجومه الضاري على حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، على خلفية عملية "طوفان الأقصى"، فذو الحملات كما يسميه "متخلفون آخرون"، يرفض هذا العمل الهمجي الإرهابي الخسيس الدموي الوحشي الهمجي البربري المتطرف الغادر المنحط القذر الغوغائي الفظ، وبوسعك أن تفتح قوسًا فتكتب من الشتائم ما تشاء.

لكن لماذا يرفض فلتة الزمان أعمال المقاومة؟

لأنه يرى المقاومة إذ اقترفت "طوفان الغضب"، و"اقترفت" ليس من لدن الكاتب، بل من المكتوب عنه، إنما أساءت للقضية الفلسطينية، وتسببت في سحب التعاطف الدولي معها، هذا رغم أن أحدًا لم ير بصيصًا من هذا التعاطف على مدى 75 عامًا، لكن عيسى يأتيه من العلم ما لم يؤت للعوام الغوغائيين.

إنه حكيم الحكماء، وفيلسوف الصحافة الأول، والتقدمي التنويري الحداثي، المعلم الذي يخرج على الناس في برنامج تلفزيوني بالسبورة والطبشور، ليعلمهم تأويل ما لم يأتهم به نبأ، مثله مثل هدهد سيدنا سليمان، أو ربما غراب هابيل وقابيل.

صحيح أن رأي إبراهيم عيسى الآني في "حماس" وفي عمليات المقاومة على العموم، ضد رأيه منذ بضع سنين، إذ كان ينافح ويكافح ويواجه ويجابه ويتشنج ويتشدق في مقالاته، وبرامجه المبكرة على الفضائيات، بالعبارات الفخمة للدفاع عن المقاومة، متشبثًا بأن تفريغ الصراع مع العدو الصهيوني من محتواه الإسلامي يمثل خطرًا على القضية، فإسرائيل دولة دينية طائفية في الأصل، والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا.

الظاهر أن رأيه تغيّر بعد أن عركته الحياة، وخاض التجارب، فصار ناضجًا حصيفًا.. لقد كان غريرًا يا جماعة، وهو الآن "محنك"، و"محنك" هنا ليست ذات أي مدلول سلبي.

ليس مهمًا كيف ولماذا أو "بِكم" تغير رأي إبراهيم من النقيض إلى النقيض؟ 

هذا شأنه الرجل "ساعة يروح وساعة ييجي"، أو قل ساعة إبراهيم وساعة عيسى، والحقيقة أن عبارة "رأي إبراهيم عيسى" هي عبارة قد تستدعي الضحك أكثر من حلقات الـ"ستاند آب كوميدي" التي يقدمها على فضائية مصرية وأخرى أمريكية.

إبراهيم عيسى نوع من البشر صعب أن نقف له على رأي.. أفكاره كما يقول الشاعر "كما تميل الرياح يميل"، هو "متثوّر على نفسه تارةً"، وهو الذي يصف شباب الثورة بـ"المخنثين ثوريًا"، هو الذي يتهم مبارك بقتل المتظاهرين، ثم يبرئ مبارك "هو ذات نفسه" لكونه رئيسًا وطنيا، هو الذي يعنون صفحته الأولى لما كان رئيس تحرير "الدستور": عسكر كاذبون، وهو الذي يؤيد النظام الحالي باعتباره ضرورة حتمية وصيرورة، هو الذي يعتبر جماعة الإخوان فصيلا وطنيًا، وهو الذي يؤكد أنهم إرهابيون مجرمون.

عيسى ليس له رأي.. هو ومفردة رأي "دونت ميكس".

والظاهر أن علة تأرجح عيسى بين الرأي وعكسه، ترجع إلى ما قلناه في الاستهلال، بشأن مفردة "الشعلقة"، فهو "يتشعلق" في كل ذي قيمة، أو ليس ذا قيمة، في أي موضوع يثير جدلًا، وإن لم يجد يخترع هو الجدل، ليس مهمًا جدوى ما يقول، المهم أن "يتشعلق" بما يثير الانتباه، فيغدو تحت الأضواء حتى لو شُتِم ولُعِن، فالمشتوم الملعون خير من المسكوت عنه.

بدايات عيسى الصحفي الناشئ الذي كان يتلمس خطواته في مجلة "روز اليوسف" تؤكد أنه "متشعلق" منذ نعومة أظفاره، أو قل "متشعلق" بالفطرة، خِلقته هكذا، مُيسر للكلام للمعارك التي تثير نقعًا كثيفًا، ولا تصنع وعيًا.

دخل عيسى "روزا" لا نعرف كيف كان شكل كرشه ولغده قبل العز وأكل الوز؟ وقد أضمر "تشعلقًا" بالشيخ محمد متولي الشعراوي، فأخذ يمحص ويفحص ويستقصي ويبحث، حتى خرج على القراء بمعركة جعلته في بؤرة الضوء، إذ وصف الراحل بالمتطرف السلفي المتشدد الذي لا يحترم المرأة إلى آخره.

بوسعك أن تختلف مع الشعراوي أو تتفق، فالرجل ليس يأتيه الوحي، وليس منزهًا عن الأخطاء، وهذا لا يدفعني إلى تصنيفك في خانة الكفار الفجار، بل إنني شخصيًا أختلف معه في فرعيات وعموميات، لكن خلاف عيسى وإياه، لم يكن خلافًا على مرجعية "التنوير"، بل "الشعلقة".

إن "التشعلق" برجل في نجومية الراحل، والهجوم عليه في وقت يكن له غالبية الناس، حبًا استثنائيًا، وإجلالًا فيه درجة من المبالغة في التقديس، سيجعل ذا الحملات تحت الأضواء، وعندئذٍ سيطلع على "وش الفتة" هنيئًا مريئًا.

هذه "شعلقة" كانت لصناعة ضجة تلفت الانتباه، فلا تحدثني عن التنوير والحداثة ونقد التراث، تلك مواضيع مطاطة، ومفردات حمّالة أوجه، ونحن نعلم بالطبع أن عيسى يحب الحمالات.

على المنهاج ذاته، مضى عيسى يصنع نجوميته من سفاسف الأمور، إذا رأى الناس مع المقاومة، فليشتم رموزها، يحقق الأهلي بطولة قارية فليتهم النادي بأنه مفرخة لجماعة الإخوان، ينفي معجزة الإسراء والمعراج، يهجو صحابيًا، يتحدث عن المخاطر الصحية للصيام.. أي كلام والسلام، فهكذا يكون تنويريا.

يُروى أن كاتبنا الكبير عباس محمود العقاد، قابل المنولوجيست محمود شكوكو ذات مرة في ميدان التحرير، فإذا بشكوكو يباهيه بشهرته التي تفوق شهرة الباحث الرصين قائلًا: "لو انتبذت رصيفًا، ووقفت أنت على رصيف، سيتجمع الناس حولي ويتجاهلونك"، فما كان من العقاد إلا أن قال: "لو جئنا براقصة درجة عاشرة على رصيف ثالث لما اهتم بك وبي أحد".

القيمة ليست في أن تكون تحت الأضواء، بل فيما تقدمه للناس، فيما تسديه لوعي الناس، ما دمت تدعي الاستنارة، وتتشدق بالحداثة والنظرة النقدية.

لكن عيسى ليس من ذلك، وذلك ليس منه، إنه آلة كلام.. مثله مثل هاتف مدفوع مقدمًا، وعليه أن يتكلم بحيث "يشتغل بلقمته"، وعليه كلما خفتت عنه الأضواء أن "يتشعلق ثم يتشعلق ويتشعلق" حتى يسقط كمهرج عجوز في سيرك وضيع سقوطًا مدويًا، وبعدئذٍ لن يجد بعده ما "يتشعلق" به، "فالشعلقة" لها حدود، ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس، أما ما يفعله ويمثله إبراهيم عيسى فلا بد أن يذهب جفاء.