محمد مصطفى موسى يكتب: شهداء "الدحدوح" يحكون الحكاية

ذات مصر

منذ انطلاق عملية "السيوف الحديدية"، من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ردًا على "طوفان الأقصى" سقط 22 صحفيًا، بواقع 19 شهيدًا عربيًا، 18 منهم فلسطينيون، ولبناني، بالإضافة إلى ثلاثة إسرائيليين.

استهداف الصحفيين ليس أمرًا جديدًا على الاحتلال، فالجريمة تسلسلية وموغلة في الزمن، وقد بدأت باغتيال غسان كنفاني، فبل نحو نصف قرن، عبر تفخيخ سيارته بواسطة جهاز الاستخبارات "موساد"، إذ كان في بيروت، لكن الجديد أن نطاق الاستهداف اتسع، فلم يعد الصحفي بذاته هو المستهدف، بل صار ذووه كذلك على قوائم الاغتيال، كما رأينا في جريمة قصف منزل مراسل قناة "الجزيرة" القطرية، في قطاع غزة وائل الدحدوح.

في تمعن تفاصيل المذبحة الإجرامية، ما يرجح ارتكابها مع سبق الإصرار والترصد، بمعنى أن هناك ما يوحي بدرجة ما من التخطيط المسبق والتدبير، وهناك تبييت للنية، وتجهيز لمسرح وأداة الجريمة.

أولًا إن القصف الذي أودى بحياة زوجة وابن وابنة وحفيد "الدحدوح" قد وقع في مخيم النصيرات، شمالي قطاع غزة، وذلك رغم أن جيش الاحتلال كان حدد تلك المنطقة منطقةً آمنة، ومن ثم انتقل إليها أفراد الأسرة المكلومة، لكن القصف لحق بهم.

ثانيًا إن "الدحدوح" لم ينف احتمالية أن تكون دوافع الجريمة انتقامية منه شخصيًا، نظرًا لأن الاحتلال أبدى تبرمًا وضجرًا بتغطية قناة "الجزيرة" لما يقترفه من جرائم ضد المدنيين في غزة.

ثالثًا إنه من المنطقي أن تُغضب قناة "الجزيرة" الاحتلال، ذلك أنها الصوت الصحفي الوحيد الذي لا يتبنى مقولاته بشيطنة المقاومة، بعد سيطرته على الشبكات الإخبارية العربية التابعة لعواصم التطبيع، والعالمية الخاضعة لـ"اللوبي الصهيوني"، إلى درجة أن أبرزها على الإطلاق، "سي إن إن" لم تتحقق من صحة ادعاء مدلس، بأن مقاتلي كتائب القسام، ذبحوا 40 طفلًا إسرائيليًا، إبان اقتحامهم المستوطنات في غلاف غزة.

صحيح أن الشبكة سرعان ما اعتذرت عن الخبر، لكن ما حدث سيبقى فضيحة مهنية تصمها إما بعدم المهنية، إما بالتدليس أيضًا مع سبق الإصرار والترصد.

رابعًا أن وائل الدحدوح شخصيًا، قد لمع نجمه، كمراسل محترف، وشعلة نشاط بدرجة مذهلة، منذ العدوان على غزة، وتقاريره المصوّرة صارت مصدرًا للحقيقة المجرّدة، لمن لا يريد أن يكتفي بالأكاذيب الإسرائيلية.

هذه في المجمل مؤشرات على التورط عن عمد في الجريمة، والحقيقة أن إدانة الاحتلال باقتراف كل الخطايا، وكل الحقارات ليس مما يثير العجب، بل إن ذلك أقرب إلى منطق الأشياء، فالجيش الذي يقصف مستشفى، ويمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، ويقصف دور العبادة، ويقطع إمدادات الطاقة، لن يتورع عن اغتيال أفراد أسرة "الدحدوح" ليقصم ظهر الرجل الذي يفضح جرائمه، ويعري سوءاته أمام العالم.

واللافت للنظر أن العدوان على قطاع غزة، منذ اندلاعه في السابع من أكتوبر الجاري، لم يتوخَ ولم تحدوه إلا نوازع الانتقام والبطش، وممارسة التصفية العرقية، وهو الأمر الذي يستلزم على وجه اليقين، تعتيمًا إعلاميًا، وقطعًا للألسنة، وتكميمًا للأفواه، والظاهر من تمعن مسارات الحرب وأساليبها، أن جيش الاحتلال يفتقر إلى أدنى درجات الحصافة والعقلانية، إذ يتصرف على غرار الفتوات الأفظاظ في روايات نجيب محفوظ، أولئك الذين صورهم الأديب الراحل نماذج للقوة الغاشمة، حين تخلو من العقل والرحمة.

هنا ليس منطقيًا عدم التوقف، أمام مقولات كتاب ومحللين وخبراء عسكريين إسرائيليين، يدفعون بأن الائتلاف الحكومي المتطرف، بقيادة بنيامين نتنياهو، مشوش التفكير، وعاجز على اتخاذ القرارات اللوجستية والسياسية المناسبة، في هذه المرحلة الملتبسة، إذ يترنح إثر "طوفان الأقصى" الذي أسقط هيبة الاحتلال جيشًا وحكومة ومجتمعًا يتشكل من جنود الاحتياط.

التشوش الإسرائيلي يُفتضح جليًا إزاء قرار اجتياح قطاع غزة بريًا، إذ لا يجد الاحتلال مبررًا حاسمًا يمكن الاطمئنان إليه، لإرجاء الأمر مرة تلو الأخرى، فإذا به يدفع بأن التأجيل يرجع إلى التنسيق مع الولايات المتحدة لنشر قواتها في المنطقة، وإذا به تارة يقول إن هناك مفاوضات لتحرير الرهائن، والأفضل أن يبدأ الاجتياح بعدها، وإذا به في تعليل آخر يدعي أن القادة العسكريين قرروا تكثيف القصف الجوي، لتحطيم كتائب القسام، وشل قدراتها القتالية، بحيث تكون خسائر العملية البرية في أدنى مستوياتها.

بل إن جريمة اغتيال ذوي "الدحدوح" أسفرت عن فضح الاحتلال وإرهابه الممنهج، من حيث أرادت أن تغطي على ذلك، فإذا بالعالم يشاهد متألمًا متعاطفًا يملؤه الأسى، مراسل "الجزيرة" إذ يرثي أولي الرحم، وهو يتمتم: "الحمد لله، إن مكانًا واحدًا في غزة ليس آمنًا، نحن جميعًا في مرمى النيران، لا أحد في أمان، فليخسأ جيش الاحتلال، وليخسأ نتنياهو" ومن ثم سخر من وصف الاحتلال لجيشه بأنه "جيش أخلاقي".

أي ذريعة يا ترى سيتبناها داعمو إسرائيل في البيت الأبيض بعد هذه الجريمة المسجلة صوتًا وصورة؟

هل بإمكانهم أن يقولوا بأن "الدحدوح" قتل ذويه كما ادعوا أن "حماس" قصفت المستشفى المعمداني؟

ماذا سيقول المطبعون العرب الذين لا يستنكفون ولا يخجلون من إدانة المقاومة الفلسطينية واجترار المقولات الإسرائيلية بأن "حماس" تنظيم إرهابي؟

هل تبددت الحقيقة بعد اغتيال أفراد أسرة "الدحدوح" أم إنها غدت أوضح من أي وقت مضى؟

هذه أسئلة تثيرها دموع "الدحدوح" ودماء الشهداء من أولي القربى إليه، والمؤكد أن الأجوبة كلها تفضي إلى أن الدماء التي أريقت، قد كشفت بجلاء عن الحقيقة، وبددت ضباب الأكاذيب الإسرائيلية، وأكدت أن الخبر الصادق قد يكون فادح الثمن، خاصةً حينما يراد جلبه تحت وطأة احتلال إجرامي.

صفوة القول، سواءً خططت إسرائيل للمذبحة أو لم تخطط، فإن "الدحدوح" الذي طالما أماط اللثام عن زيف ادعاءاتها، وزور مقولاتها، وإفك أحاديثها، في رسائله اليومية، مضى على النهج ذاته، إذ كان ينعي شهادئه: "الحمد لله رب العالمين، هذا هو جيش الاحتلال، وهذه هي الدموع الإنسانية وليست دموع الخوف والانهيار والجبن، ونحن لن نغادر أرضنا، وسننقل للعالم الحقيقة مهما كان الثمن، وأيما تكن التضحيات".

.