محمد مصطفى موسى يكتب: حين تصير المسافة صفرًا

ذات مصر

 


لم تبدأ الحرب البرية في غزة بعد، أو بالأحرى لم تبدأ بصورة شاملة، لكنها ستبدأ ما بين طرفة عين وانتباهها، في أية لحظة، هي حتمية، ليس بوسع الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التراجع عنها، بعد أن رفعت السقف إلى أعلى ما يمكن، وأخذت تُناغي القاعدة الشعبية اليمينية، بأن سحق حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، قاب قوسين أو أدنى من ذلك.
الحال كذلك، ثمة مناوشات عسكرية على الأرض، لا تزال مقتصرة على عمليات توغل محدودة، أشبه بالدقائق الأولى من مباريات كرة القدم، إذ يلجأ الفريقان إلى "جس النبض"، لفهم مفاتيح اللعب، أو تحينًا للحظة تراخٍ يُقتنص خلالها هدف مبكر، يُسهِّل مهمة المتقدم، ويُصعِّب مهمة المتأخرـ 
أغلب الظن أن الجيش الإسرائيلي، يخشى "اللعب المفتوح"، إذ يعاني "فوبيا" بعد أن أظهرت المواجهات مع مقاتلي "القسام" ضعف دفاعاته، بما أسفر عن هزيمة مذلة في "نكسة السابع من أكتوبر"، المتعارف عليها إعلاميًا باسم "طوفان الأقصى".. لذلك فإنه لم يقاتل حتى الآن، وإنما يقتل، والفرق بين القتال والقتل، هو كالفرق بين ما هو فلسطيني، وما هو صهيوني.
القنابل المحرمة دوليًا، وقصف المستشفيات، ودور العبادة، والبنايات السكنية، وكذلك شن الغارات على المناطق الآمنة، وقتل الفلسطينيين جماعيًا، ليس من أعمال القتال، بل هي تصفية عرقية، تقضي القوانين الدولية، بمحاكمة مقترفيها باعتبارهم مجرمي حرب، كما إن هذه الأعمال لا يمكن أن تحسم صراعًا شديد التعقيد مع "حماس".
صحيح أن دولة الاحتلال فوق القانون الدولي، والعجرفة التي رأيناها في تطاول مندوبها لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان على الأمين العام، أنطونيو غوتيريش، بعبارات تصل إلى السب والقذف: "لقد فقد بوصلته، ويعاني تعفنًا أخلاقيًا"، لمجرد أن الرجل قال الحقيقة: "هجوم حماس في السابع من أكتوبر لم يأتِ من فراغ".. هذه العجرفة الوقحة لا تحتاج تعليقًا ولا تحليلًا، الحكاية على بلاطة، أن إسرائيل كيان "بلطجي"، مجرم بالفطرة، ولا غرابة في ذلك، فقد خرج من رحم عصابات الهاجاناه وشتيرن والأرجون، والأصل غلّاب.
أيما يكن، الواضح إذن أن الحرب البرية على وشك الاندلاع، فاستراتيجية "اقتل ولا تقاتل" قد تجاوزتها اللحظة، ذلك أن استمرارية القصف الجوي، لم تعد مجدية لتسكين غضبة الرأي العام الإسرائيلي الداخلي، الذي يتبرم من ثبات المشهد، ويريد أن يفي رئيس الائتلاف الحكومي، بنيامين نتنياهو والذين معه، بما قطعوه على أنفسهم من تعهدات بنصر يجتث المقاومة، وهناك معارضة تتربص بالائتلاف الحاكم الدوائر، وقد صار صوتها أعلى وأكثر تأثيرًا بعد "طوفان الأقصى".
بعبارة أوضح، إن نتنياهو يقف الآن في مفترق طريق، فإما أن يتقهقر للوراء، فيبدأ مفاوضات لتحرير الأسرى، وفق الشروط الحمساوية، وإما أن يعلن بدء عملية برية في غزة.
في الحالتين "سيلبس البيجاما"، وهو تعبير من العامية المصرية، يطلق على أصحاب النفوذ والشخصيات العامة والمشاهير، حين تدول دولتهم، وتدور عليهم الدوائر، فيُسلبون الوظيفة والسلطة والسلطان والهيلمان، فيُدفنون تحت تراب النسيان.
عدم اتخاذ قرار الحرب سيؤكد لقاعدة نتنياهو الشعبية، وهي بالمناسبة القاعدة الأكثر يمينية، أن "هذا الرجل يجب أن يرحل"، وفق ما يقول يائير لابيد زعيم المعارضة اليسارية، في حين سيسحب قرار الغزو البري الجيش الإسرائيلي، إلى رمال غزة المتحركة، وأنفاقها تحت الأرض، وأزقتها الضيقة الملتوية.
عندئذٍ سيتربص الموت بالجنود، من فوقهم ومن تحتهم، برصاصة قناص فوق سطح عمارة، أو عبوة بدائية تنسف دبابة، فتحرقها بمن يختبئ داخلها، وهكذا سيكون مقاومو كتائب القسام قد نفذوا ما يريدون، إذ غيروا نسب المعادلة، بعيدًا عن استراتيجية "قتل بغير قتال".
القول إن هذا التغيير سيؤدي إلى تحقيق "حماس" نصرًا ساحقًا، فيه مبالغة غير موضوعية، لكن المؤكد أن فاتورة الخسائر البشرية الإسرائيلية، سترتفع إلى حدود قد تكون فوق طاقة جيش الاحتلال، وكذلك فوق طاقة الحكومة المغضوب عليها شعبيًا، فالتجربة أثبتت أن المقاومة تحقق ما يشبه المعجزات، حين تصير المسافة صفرًا.