محمد مصطفى موسى يكتب: "أنت مش بيومي فؤاد وأنت جعان"

ذات مصر

لا أعرف على وجه اليقين، ما الذي دفع بيومي فؤاد، إلى تأدية تلك "النمرة" على خشبة المسرح، في مهرجان الرياض؟

ولماذا لجأ إلى هذا الأداء التمثيلي المفتعل وتلك النبرة الصوتية الانفجارية الأشبه بحشرجة طلوع الروح؟

ذهب بيومي فؤاد إلى المملكة، ليعرض مسرحية، ربنا يفتح عليه، هو حر، لم يسأله أحد أن "يُنصّص" وإياه الأجر، ولم يستعلم أحد عما كسب، ولا ما كسب غيره من الفنانين الذين هرعوا إلى السعودية، "أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا، والله سريع الحساب".

هذا شأنه، صحيح أن قطاعًا كبيرًا من الجمهور، ارتأى أن الوقت غير مناسب، وما من مسوغ أخلاقي وإنساني يبرر الاشتراك في مهرجان فني، بينما القنابل المحرمة دوليًا تنهمر على الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر.

لكن بيومي ليس بطلًا ثوريًا، ولم يظهر لنا رافعًا شعار القومية العربية، ولم يلق الخطب العصماء عن النضال والكفاح، فالرجل يعرف حجمه، وبسم الله ما شاء الله، حجمه كبير، بقدر كرشه الذي يتهدل ويتثنى حتى يطمر "لا مؤاخذة" وهو أمر خطير صحيًا، وله تداعيات صحية سلبية على الذكورة، ولا أقول الرجولة.

لكن بيومي الذي لم ينبس ببنت شفة عن مأساة فلسطين، "بان على  أصله" في السعودية، إنه خطيب جامد، يملك أدواته جيدًا، يعرف كيفية تلوين الصوت، والتحكم فيه علوًا وانخفاضًا، حتى يستدر الدموع من المآقي، ويستحث الأكف على التصفيق الحار.

لم يطلب أحد فيما أظن من بيومي هذه الخطبة العصماء، لقد تبرع بها، فهل كان يحلل السبوبة؟ أم أنه يحس غضبًا، من الذين سلقوه بألسنتهم سلقًا، لاشتراكه في المهرجان.

الإجابة في بطن بيومي فؤاد طبعًا، وإذا كانت كذلك، فقابلني لو وصلت إليها، فالواضح أن بطنه تطحن الزلط طحنًا، ولعله ذهب إلى السعودية ليس رغبة في الفلوس، بل لأن نفسه اشتهت الكبسة بلحم الضأن، بالهناء والشفاء، فبيومي إذا جاع، وفق زملائه الفنانين، لا يكون هو بيومي الشبعان.

في كلمته الزاعقة هتف بيومي: "احنا مش بتوع فلوس"، والحقيقة أن أحدًا لا يعرف "بيومي بتاع ايه"؟

جدتي لأمي التي كانت تجاوزت الثمانين، كانت تحب محشي الكرنب حبًا جمًا، وتطهوه عدة مرات أسبوعيًا، ما يدفعني إلى الهرب من البيت، كوني أكره هذا النوع من الخضروات في شتى صوره، ولا أطيق رائحته النفاذة، حين يُسلق، وكانت متى أعدته في الشتاء، تلتهم منه كميات كبيرة، ومن ثم تصيبها انتفاخات بحكم وهن الجهاز الهضمي، فتتلوى وتتألم: "سأتوب عن أكلك يا بتاع الكلب".

وكنت في شبابي المبكر العابث، أُحمِّل الكلمة معنىً إباحيًا، فأضحك من "بتاع الكلب" هذا الذي تأكله رحمها الله، وأشاكسها "بلاش بتاع الكلب يا تيتا"، فتكشر عن فم بغير أنياب وأسنان.

"بتاع الكلب" هذا تذكرته إذ سمعت صرخة بيومي: "احنا مش بتوع فلوس"، من دون أن أجد علاقة بين "بتاع الفلوس" و"بتاع الكلب"، ما علينا، لا نريد أن ندخل في محظورات رقابية، كما إنني أخشى أن يرفع بيومي على الفقير إلى الله كاتب السطور، دعوى قضائية بتعويض، يعلم الله أني لا أستطيع إليه سبيلًا، ومن ثم يهتف في قاعة المحكمة بعد صدور حكم يقصم ظهري: "احنا مش بتوع فلوس".

أعود إذن إلى السؤال: إذا كان بيومي فؤاد مش بتاع فلوس.. فما هو البتاع الذي هو بتاعه؟

المتعارف عليه أن صاحب الحرفة يمارسها رغبة في المال، حتى إن فنانًا كبيرًا مثل محمود حميده، لا يخفي ذلك فيقول في لقاءاته التلفزيونية: "أنا جاي عشان الفلوس"، ولو عُرِض دور عليّ وكان يعجبني، في حين أن الأجر غير مناسب فإنني أرفض العمل بغير تردد.

حتى كاتب هذه السطور، يمارس "الصحافة" بمزاج الهواة، وعقلية المحترفين، فلا كتابة مجانية، ذلك أن هناك مجهودًا يبذل، ووقتًا يُنفق، وهناك مثل أمريكي فحواه أن قيمة الوقت تقدر بالمال.

الأمر لا يعبر عن نظرة مادية بحتة للأشياء، هناك دائمًا معايير أخلاقية ومهنية لا ينبغي تجاوزها، فمثلًا ليس ممكنًا أن يكتب صحفي عربي في الصحافة الصهيونية، طمعًا في الأجر مهما تضخم وزاد، في حين قد يكتب في مطبوعة أو موقع إلكتروني بأجر بسيط، كونه مؤمنًا بتجربة مهنية، ويريد أن يكون جزءًا منها.

أما "أبو بلاش"، و"احنا مش بتوع فلوس" فلا محل له في أي عمل احترافي.. والغريب أن بيومي حين جعّر صارخًا، بدا كما لو كان تحت ضغط نفسي، حتى شعرت أن دموعه ستفيض أنهارًا، وسيكبر حزنه حتى يصبح أشجارًا.

كذلك فإن لغة الجسد أوحت بذلك، إن نسبة الأدرنالين تبدو في حدودها القصوى، حتى إنه رغم وزن بيومي الثقيل، لوحظ أن في خطواته رشاقة، وفي فمه طلاقة، إذ لم يخل حديثه من عبارات براقة، حين سال الدمع من أحداقه.

أيما يكن.. لم يكن بيومي فؤاد في حاجة لهذه الكلمة المرتجلة التي أثارت عليه ثائرة الناس، وأظهرته "حاشا لله" في مظهر المستجدي المستعطف، وهذا ضد قيمة الفنان والفن، التي أخذ يصرخ مدافعًا منافحًا عنها: "احنا بنتعب.. احنا بنقدم فن".

مجددًا هو حر، إنه لا يمثل إلا نفسه، في حين يمثل محمد سلام الوجدان الشعبي، رغم طنطنة بيومي، وهجومه غير المفهوم عليه، وهو هجوم بدا أن محركه "الحقد الغلاوي"، إزاء رجل اختار موقعه من قضايا الإنسانية، ورجل آخر صرخ: "احنا مش بتوع فلوس".

لست خبيرًا بلغة الجسد، لكن هذا انطباع ليس حاسمًا، لكني فيما أظن خبير بمفردات الشحاذين، ومنها: "حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة"، وهذه لم يقلها بيومي، ومنها "هنيا لك يا فاعل الخير" وهذه أيضًا لم يقلها، و"كثر خيركم" وهذه قالها ثلاثًا.