محمد حماد يكتب: مكان تحت القصف.. ورطة نتنياهو المزدوجة

ذات مصر

بنيامين نتنياهو هو أكثر رئيس وزراء للكيان الصهيوني وجَّه السباب والشتائم وعبارات الاحتقار لعديد من النخب العربية الحاكمة، ما جعل "دار الجليل" التي أصدرت الترجمة العربية لكتابه الشهير "مكان تحت الشمس" تتحرج من فرط ما جاء في الكتاب من إساءات تجرأ من خلالها نتنياهو على التطاول في حق "شخصيات عربية مشهود لها بالأصالة والشرف والوطنية" حسب وصف مقدمة الترجمة.

تحيرت دار النشر بين أمرين أولهما ـ وهو الأسهل ـ أن تحذف الفقرات المسيئة، وهي على كثرتها ستفرغ الكتاب من مضمونه، وثانيهما أن تبقي على الفقرات على حالها اعتمادًا على فطنة القارئ وقدرته على التمييز بين الغث والسمين، واختارت الثاني.

"مكان تحت الشمس" يرسم فيه نتنياهو ملامح الدولة العبرية على أرض إسرائيل الكاملة، دولة تحدوها الثقة، وتعلوها الغطرسة، ويزينها الاستكبار، والكتاب يمثل "مانفيستو" التطرف الصهيوني في نسخته المعدلة، وقد صدر منذ ثلاثة عقود، وبعد صدوره باللغة العبرية بثلاثة أعوام صدرت ترجمته إلى العربية، وأرشحه للقراءة المتأنية لكل من يريد أن يعرف الأساس النظري والرؤية العملية للتطرف اليميني الصهيوني الذي يملأ صفحات الكتاب الذي يقع في 438 صفحة.

**

"مكان تحت الشمس" ليس برنامجًا انتخابيًا حمل نتنياهو إلى كرسي رئاسة الوزراء في الكيان الصهيوني لمدة هي الأكبر من بين كل رؤساء إسرائيل، ولكنه على الحقيقة يرسم أبعاد الفكر الصهيوني في نسخته الحديثة مجسدة في فكر وشخص الرجل الذي حلم بأن يصنع لإسرائيل مكانًا تحت الشمس، فإذا به يجعل شمسها أقرب إلى المغيب وكثير من نخبتها تتعمق لديهم عقدة "العقد الثامن" وسط واحدة من أكبر أزمات الكيان تأثيرًا على مستقبلها.

 إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق قال قبل عام: "على مرّ التاريخ اليهودي، لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة، إلا في فترتي الملك داود والحشمونائيم، وكلتاهما كانتا بداية تفكّكها في العقد الثامن".

تتعمّق "عقدة الثمانين" أكثر فأكثر بعدما جرى في السابع من أكتوبر واتسعت التناقضات وتزايدت المشكلات وظهر المجتمع الإسرائيلي منقسمًا على ذاته أكثر من أي وقت مضى خاصة في ظل تشدد اليمين المتطرّف الذي يحمل منذ وصل العام الماضي إلى سدّة الحكم الكثير من المخطّطات الساعية إلى إحداث العديد من الانقلابات في المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة القضاء.

**

وسط كل هذه الأنواء يجد نتنياهو نفسه بعد أكثر من خمسين يومًا على تدفق مياه طوفان الأقصى في النهر الإسرائيلي في ورطة كبرى، مرشحة لأن تجرفه خارج أي إمكانية للاستمرار في حكم إسرائيل، وتغلق عليه كل أبواب العودة من جديد إلى الكرسي الذي عشقه طوال العقود الثلاثة الأخيرة، ما يعني أنه صار مهددًا بالدخول إلى جوف السجن بتهم تمس كرامته وسمعته وتحقره بين أهله ومواطنيه.

هذه الحقيقة يدركها نتنياهو جيدًا، وورطته الكبيرة تتمثل في أن مصلحته الذاتية تحتم عليه إطالة زمن الحرب على قطاع غزة، لعله يحصل على ما يخفف حكم التاريخ عليه كأفشل رئيس وزراء حكم إسرائيل، ومن ناحية أخرى لم يعد في مقدوره أن يطيل أمد الحرب إلى ما لا نهاية، خاصة بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية جدارتها في مواجهة غير متكافئة مع آلة الحرب الإسرائيلية المدججة بأحدث وأشرس أنواع الأسلحة من المخازن الأمريكية، وكذلك بعد أن تعالت نبرة الرفض الدولي لاستمرار المذبحة العلنية التي ترتكبها قوات العدوان الإسرائيلي على مرأى ومسمع ومتابعة العالم كله.

**

تتضخم ورطة نتنياهو أكثر فأكثر بعد هدنة الأيام الستة التي فرضتها عليه المقاومة لإجراء أول عمليات تبادل للمحتجزين من النساء والأطفال الإسرائيليين لديها مقابل الإفراج عن الأسرى من النساء والأطفال في سجون إسرائيل (بنسبة 1 إلى 3).

إذا ما غامر نتنياهو بقرار عودة دوران عجلة العدوان مجددًا فسيواجه معضلة أن بنك الأهداف أفلس، ولم يعد فيه أي هدف في المتناول، خاصة وأنه لم يعد في غزة "مكان تحت القصف" بعد أن ظلت آلة الحرب تدك كل ما تريد وأكثر مما تريد طوال خمسين يومًا ولم تستطع كل هذه الهمجية أن تحقق لإسرائيل أيًا من أهدافها المعلنة.

كل القرارات الموضوعة على طاولة نتنياهو اليوم هي قرارات صعبة، في أجواء انقسامات حادة بالداخل الإسرائيلي، في الوقت الذي يواجه فيه نتنياهو اختلافًا كبيرًا حوله داخل النخبة الحاكمة كلها، بل وبين حلفائه بالائتلاف الحاكم الذي يترأسه، وأكثر من ذلك من داخل حزبه نفسه.

**

لم تعد أغلبية الإسرائيليين مقتنعة بقدرة نتنياهو على الحفاظ على أمن واستقرار الكيان، الأمر الذي دفع ضابطًا سابقًا في "الموساد" إلى أن يعلن على الملأ أن رئيس الحكومة يتحمل كامل المسؤولية عما حدث في السابع من أكتوبر، وأنه فقد ثقة المجتمع به وبقدرته على التعامل مع الأحداث وإدارة شؤون "الدولة" ويعرب عن عدم اعتقاده بأنه سينجح في ترميم صورته أمام المجتمع، وطالبه بأن يقدم استقالته بأسرع وقت ممكن.

هكذا يجد نتنياهو نفسه في مواجهة حربين متلازمتين، واحدة على جبهة الصراع مع المقاومة الفلسطينية، والأخرى لا تقل شراسة عن الأولى، وهي حربه على جبهة انقاذ حياته السياسية التي باتت تتقدم بسرعة متصاعدة نحو نهايتها.

في كل مؤتمر صحفي يحضره نتنياهو إلى جانب وزير الدفاع يوآف جالانت وزعيم المعارضة بيني جانتس (الذي يعد المنافس الرئيسي لنتنياهو على منصبه الحكومي) يوجه الصحفيون إلى نتنياهو سؤالًا مكررًا عن مسئوليته عن أحداث السابع من أكتوبر الماضي، في صياغات تُحمَله المسئولية أكثر مما تحمله من استفسارات.

**

مشكلة نتنياهو كما هي مشكلة بن جوريون من قبله هي سقوط الفكرة وضياع الهيبة، ما يهدد الوجود الإسرائيلي في العمق.

في حرب السادس من أكتوبر 1973 جاءت أولى التحديات الكبرى لفكرة بن جوريون عن إسرائيل، حين شنت مصر وسوريا هجومًا مباغتًا وجد الجيش الذي لا يقهر نفسه أمام أول وأهم تحدٍّ كشف عن سقوط أوهام القوة في أوحال الفشل الاستخباراتي المريع الذي شكل صدمة هائلة في المجتمع الإسرائيلي، وخسرت الدولة المتغطرسة إحساسها بالمنعة وسقط مع سقوط خط بارليف يقينها بأن جيشها لا يمكن أن يقهر.

في السابع من أكتوبر 2023 ومرة أخرى بعد خمسين سنة جاءت واحدة من أقسى التحديات لفكرة نتنياهو عن الدولة العبرية؛ حيث حققت كتائب القسام وبقية فصائل المقاومة نصرًا معنويًا تاريخيًا حيث منيت إسرائيل "بأكبر فشل عسكري واستخباراتي منذ نصف قرن" كما تحدثت الصحافة العبرية نفسها.

جاء بمقال في يديعوت أحرنوت أن هجوم 7 أكتوبر 2023 هو أكبر فشل تعانيه إسرائيل منذ تأسيسها قبل 75 سنة، وبمقال آخر في جيروزاليم بوست اعتبر الكاتب أن السابع من أكتوبر هو أحد أحلك الأيام في تاريخ البلاد، وختم: "هذا هو 11 سبتمبر في إسرائيل، لن يعود أي شيء كما كان".