في حوار مع «ذات مصر»

عمار علي حسن: الحبل السري بين الثقافة والمجتمع «غليظ».. والمثقف المستقل يعاني منذ القدم في تاريخ العرب

ذات مصر

يتنوع إنتاج عمار علي حسن بين الأدب والعلوم الإنسانية، إذ أن له خمسون كتابا، نصفها أعمال أدبية تتوزع على روايات ومجموعات قصصية وكتب سردية وسيرة ذاتية ومسرحية وديوان شعر. والنصف الآخر كتب في الاجتماع السياسي والتصوف والنقد الثقافي. فضلا عن هذا فقد كتب مئات المقالات السياسية في العديد من الصحف العربية. 

وبحكم أنه قد تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة، ويحمل الدكتوراه في العلوم السياسية، فهو باحث في هذا المجال، قدم كتبا عديدة من أهمها "المجاز السياسي" و"الخيال السياسي" و"التغيير الآمن" و"النص والسلطة والمجتمع .. القيم السياسية في الرواية العربية" و"التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر" و"المجتمع العميق". أما رواياته فمن أهمها "شجرة العابد" و"جبل الطير" و"خبيئة العارف" و"باب رزق" و"سقوط الصمت" و"احتياج خاص". 

حصدت أعمال عمار الأدبية والفكرية العديد من الجوائز المرموقة، وتعد حول رواياته وقصصه عشرون أطروحة جامعية داخل مصر وخارجها، وترجمت بعض كتاباته إلى لغات عدة. 

في عام 2023 أصدر عمار ثلاثة كتب تباعا عبارة عن كتاب نقدي بعنوان "بصيرة حاضرة .. طه حسين من ست زوايا"، وديوان شعر بعنوان "غبار الطريق" وكتاب يقع بين التصوف والأدب بعنوان "قاموس الروح". 

التقيناه للنناقشه ليس في إصداراته الأخيرة فحسب إنما عن مشروعه ورؤيته ومساره الأدبي والفكري برمته. 

أصدرت مؤخرا كتاب "قاموس الروح .. التصوف كما يجب أن نعرفه".. فهل نحن في حاجة إلى قاموس جديد في التصوف؟

تناولت في الكتاب مائة وخمسة وستين مصطلحا صوفيا، مكتوبة بطريقة مختلفة عما ورد قديما. فالقواميس الموجودة، وهي قليلة ونادرة، وطبعاتها تقادمت منذ سنوات، تبدو غامضة، لا يفهمها إلا المختصين.  وأعتقد أن القارئ في حاجة إلى قاموس جديد، وهو عمل له من ينتظره من المتصوفين، ومحبي التصوف. وقد اخترت من هذه المصطلحات ما يدرج تحت العنوان الذي اتخذه الكتاب وهو "قاموس الروح"، فعكفت على تذوق كل ما يمس الروح من كلمات صوفية راسخة، ورتبتها أبجديا، من الألف إلى الياء، محاولا تقريبها إلى الأذهان ـ كما قلت ـ سواء من خلال السرد أو الحوار، وكل منهما سبيل عفي لتحقيق مثل هذا الغرض الضروري.

الكتاب يعبر عن تذوقي الخاص حول مفردات التصوف، وهو ذو نزعة أدبية ليس من خلال الوصف والسرد والتصوير أحيانا، والأهم عبر الحوار الذي أقمته بين شيخ متخيل ومريد متخيل حول كل مصطلح.

عدت إلى الشعر بديوان "غبار الطريق" بعد هجران طويل، فهل هناك ما يدعو؟

بدأت مسيرتي الأدبية شاعرًا، فكتبت قصائد عدة في ميعة الصبا، لم أسع إلى نشرها، وأخذتني القصة القصيرة ثم الرواية من الشعر، وإن كانت روح القصيدة قد حضرت جليًّة بهيًّة في ثنايا سطوري السردية، ولم يفارقني خيال الشاعر وجسارته في سطوري العلمية. 

قبل سننوات أصدرت ديواني "لا أرى جسدي" وقلت إنني أجد أنه قد يكون مفيدًا، على الأقل بالنسبة لي، خروج تجربتي الشعرية البعيدة إلى النور، بعد أن هجرتها، وهو هجران يضنيني؛ لأنني من الذين يعتبرون الشعر أكثر ألوان الأدب رسوخًا ورهافة وصعوبة". لقد كانت قصائد من أغاني الصبا نقلتها من ورق قديم، ونقحتها، دون إخلال بمضمونها، كي تبقى كما كانت ناطقة باسمي في زمن جميل مضى، يجرفني الحنين إليه.

اعتقدت أن المسألة انتهت عند هذا الحد، لكن وجدت الشعر يناديني مرة أخرى، فكتبت ديوان "غبار الطريق"، وهو تجربة مختلفة، إذ إنه قصيدة طويلة ممتدة، تدور حول قطار الصعيد، موزعة على ثمانية نقلات، كل منها تحمل جزءا من الرحلة، وكل جزء تعاد صياغته على تشكيلات شعرية هي التفعيلة والنثر والشعر المسرود. ولذا أراه تجربة مختلفة.

كثيرة هي الكتب عن طه حسين، فهل أتيت بما هو مختلف؟ 

نظر كتابي إلى طه حسين من مختلف الجوانب، إذ لم يكتف بإحضار مشروعه الفكري والأدبي ووضعه تحت مشرط الفحص والدرس والتحليل، بل اقترب من عميد الأدب العربي كإنسان وفاعل اجتماعي، مارس أدواراً عديدة في الحياة، وأدى حاصل جمع نصه وشخصه إلى إنتاج ظاهرة، علا شأنها، ووصل خبرها إلى الشرق والغرب، ولا يزال الاهتمام بها جاريا وساريا.

هضمت إلى حد كبير مختلف أعمال طه حسين، وأغلب ما كُتب عنه، لأراه بشموله وتمامه من زوايا ست هي: المنهج، والنص، والذات، والصورة، والموقف، والأفق، ثم أتيت على ذكر ما نقص مشروع الرجل، ومنه عدم إعطائه التصوف موضعه في الثقافة الإسلامية، وإغفاله دور الموروث أو المأثور الشعبي في بناء مشروع ثقافي، وعدم وضع منتجنا الثقافي الحديث والمعاصر موضع مقارنة مع الغرب، على غرار ما حدث مع تراث العرب الأقدمين. 

وأعتقد أنني ومن خلال هذه الزوايا الست، قد وضعت إطاراً نظرياًـ وحفر مساراً منهجياً متماسكاً، يمكن تطبيقه في أي دراسة عن مفكر أو أديب بارز. 

 

يتوزع إنتاجك بين الأدب وعلم الاجتماع السياسي والتصوف فما هي الجسور الواصلة بين هذين الموضوعين في نظرك؟

الحبل السري بين الثقافة والمجتمع بما فيه السياسة غليظ وسميك ومتين، فمرة تستخدم الثقافة مطية للسياسة، إما عبر استغلال الطاقة الذهنية والفنية للمثقفين في خدمة السلطان، أو باستعمال ما تتيحه الثقافة من مضامين متعددة في إنتاج الخطاب السياسي، أو تبرير القرارات التي تصدرها السلطة، أو تسويق رموزها وشخوصها إلى الناس. ومرة تُقحم السياسة في الثقافة، وترمي عليها حمولات ثقيلة من الأيديولوجيا والتلاعب والمخاتلة والتحايل، فتفسد المنتج الثقافي عامة، والأدبي خاصة. 

وذلك الحبل السري كان محل انشغالي طوال سنوات عديدة، خاصة خلال سنوات دراستي الجامعية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة القاهرة. فقد كنت أدرس العلوم السياسية، وفي الوقت نفسه أقبل على قراءة الأدب بنهم شديد، ثم بدأت في إنتاجه، شعرا في البداية كعادة كثيرين ممن يقرضون القصيد في ميعة الصبا ثم يهجرونه، لأنتقل إلى كتابة القصة القصيرة، ومنها إلى الرواية، بعد أن وجدت أن النثر، وليس الشعر، بوسعه أن يستوعب الرؤى التي تشكلت في ذهني، من حصيلة القراءات والمشاهدات، إلا أنني أبقيت على تواصل مع القصيدة، في الاحتفاء بشاعرية اللغة في بعض المواضع والمناطق النثرية من القصص والروايات التي أصدرتها، حتى أصدرت في السنوات الأخيرة ديواني شعر.

وامتد هذا التواصل إلى العلاقة بين السياسة والأدب، فحاولت، قدر استطاعتي، أن أفهم الجسور العلمية الواصلة بين هذين الحقلين المعرفيين. وأثناء محاولة الفهم هذه كانت تدور في عقلي عدة أفكار وتصورات، لا تزال تشغل حيزا من تفكيري، وقد انعكست هذه العلاقة برمتها في كتابي الموسوم بـ"النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية". 

كيف تتغلب على صعوبة أن تكون باحثا وأديبا في الوقت نفسه؟

بداية فأنا أعتبر البرهان والوجدان متكاملين، وليسا متنافرين، ولا أجد خصومة بين الكتابة الإبداعية وإعداد الدراسات العلمية. فالأولى تعتمد على الوجدان والحدس والتخيل لكنها في الوقت نفسه تتطلب عقلا يقظا. والثانية تعتمد على البرهان لكها تتطلب حدسا عميقا, وهذا ما يفرق بين باحث وآخر. وفي السنوات الأخيرة برز من بين كتاب الرواية علماء وباحثون في مجالات إنسانية عدة، ولدينا أطباء ومهندسون أبدعوا أدبا جميلا. وفي النهاية فأنا أؤمن بأننا أمام علم إنساني واحد ذو فروع متعددة، ولذا أبحث عن التكامل بين الأدب والعلم،. وعموما فقد دربت ذهني منذ سنوات بعيدة على الإنتاج في هذين الرافدين. 

تطلق على نفسك لقب "باحث مهتم بعلاقة الظاهرة السياسية بالأنساق الأدبية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والإعلامية والنفسية"... كيف يمكن الجمع بين كل هذه العلوم في مسار واحد؟ 

 ج: بداية فأنا أؤمن بأن هناك علما إنسانيا واحدا ذا فروع متعددة. وقد ترسخ هذا التصور لديَّ من حصيلة مطالعة بعض ما أنتجه الرعيل الأول من مفكرينا، وما ينتجه مثقفونا الكبار في الوقت الراهن، حيث نجد في أعمالهم مزجا رائقا للعديد من فروع العلم الإنساني، ما يشجع على تنشيط الدراسات "عبر النوعية"، ويعوض ظاهرة تراجع تواجد المثقفين الموسوعيين في حياتنا الفكرية، تارة لكسل عن الإخلاص للمعرفة في حدها الأقصى، الذي يقوم على مبدأ "القراءة بلا حدود وفي أي اتجاه" كما قال نجيب محفوظ يوما، موصيا سامعيه وقارئيه بأن ينهلوا من المعارف والعلوم قدر استطاعتهم، خاصة من أرادوا منهم أن يكونوا كتابا أو باحثين، وطورا نتيجة الاستسلام للاكتفاء بالتخصصات الدقيقة في ظل الانشطار المعرفي الذي نعيشه حاليا، والذي قاد الكثير من مدارس البحث في العلوم الاجتماعية إلى التركيز على ما تسمى "الأبحاث الصغيرة" أو التي تعالج "قضايا نووية" معزولة، أو مسائل فرعية محدودة، قد يعيش الباحث طوال حياته منكبا عليها، غارقا فيها، لا يعرف شيئا غيرها أو خارجها، سادرا في شعور زائف بالاكتفاء، أو مؤمنا بأن العلم يقتضي توزيع البُحاثة على تخصصات صغيرة، يجاور بعضها بعضا، وقد تتلاصق أو تتلاقى لدى مؤسسات معينة، أو عقول بعينها،  يعرفها الباحث الفرعي، ويدرك أن جهده يصب فيها، كما يصب الرافد الصغير في مجرى النهر. 

وهناك حالات كثيرة لا يعرف فيها الباحث الفرعي إلى أين يذهب جهده، وماهية الجهات التي تستفيد منه، فيظل طوال حياته معزولا، ويتحول العلم لديه إلى مجرد مهنة يتعيش منها، شأنها شأن أي حرفة يدوية كالفلاحة والنجارة والحدادة، أو ذهنية كالمحاماة والمحاسبة.

لكن الاهتمام بالفروع أو القضايا العلمية المحددة هو الذي يؤدي إلى تعميق المعرفة في مجال معين أما ما تطرحه فقد لا يؤدي إلى إيجاد هذا العمق، الذي لا غني عنه للمعرفة الإنسانية.

بعض كلامك صحيحا، وأعتقد أن الاهتمام بالفروع ليس شرا محضا، ولا تفاهة خالصة، حين يؤمن أصحابه بروح الجماعة العلمية أو الفريق البحثي، لكن هذا الاهتمام يصير تافها وهامشيا حين يعتقد هؤلاء أن ما يمتلكونه هو العلم من كل أبوابه الواسعة، وأنه ليست هناك حاجة إلى الإلمام بالكل من أجل فهم الجزء، وأن هذا الجزء الصغير يمكن لوجوده أن يستمر ويتطور قدما بمفرده، مستغنيا تماما عن عطاء الفروع الأخرى من العلم، ومكتفيا بحال من الجدل الداخلي الدائم والدائب.

وقد وجدت أن مثل هؤلاء لا يلتفتون كثيرا إلى أمرين أساسيين، الأول هو أن فروع العلوم قد تطورت من خارجها، أو نتيجة لتفاعلها مع فروع علمية أخرى، فهي في هذه الحال تبدو نهيرا صغيرا ينبع من النهر الكبير، أما إن انغلق الفرع على ذاته، أو هكذا فعل به أصحابه والمختصين فيه، فإنه يصير مثل بركة ماء حبيس، أقصى ما يطرأ عليها من تغير إيجابي هو أن تضربها الرياح، فيهتز سطحها، لكن تظل أعماقها راكدة، وتحتاج إلى زلزال كي ترتج وتتموج فلا تتعفن. 

 وفي حقيقة الأمر فقد أدى التفاعل بين الفروع الرئيسة في العلوم إلى إبداع علوم جديدة، فعلم الاجتماع مثلا، نبتت على ضفافه الرحيبة ألوان من العلوم مثل علم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم اجتماع المعرفة، وعلم الاجتماع القانوني ... الخ. وتفاعل علم السياسة مع الاقتصاد فولد الاقتصاد السياسي، ومع علم النفس فأنتج علم النفس السياسي، ومع الجغرافيا، فولدت الجغرافيا السياسية، ومع الفلسفة فتغذت النظرية السياسية والفكر السياسي على حد سواء. وفي العلوم الطبيعية مثلا ولدت الكيمياء العضوية من تفاعل علمي الكيمياء والأحياء، وهكذا.   

أما الأمر الثاني فتفرضه طبيعة العلوم ذاتها، فالإنسانيات مثلا تبدو في نظر كثيرين علما واحدا له فروع عدة، ولذا فإن تفسير أي ظاهرة إنسانية لا يمكن أن نضمن له السلامة والصحة والدقة من دون أن ننظر إليها من شتى جوانبها، مستفيدين من كل ما تتيحه ألوان العلوم الاجتماعية من مؤشرات ونماذج إرشادية وأفكار ... الخ. ففي العلوم الطبيعية نقول في تفسير بعض المعادلات الكيمائية عبارة "مع تثبيت العوامل الأخرى"، لكن مثل هذه العبارة لا تصح في العلوم الإنسانية، لتداخل الأسباب التي تنتج الظاهرة، ولتعقدها إلى أقصى حد.

وحتى تقترب الصورة أكثر فلنفترض أن باحثا معينا مختصا بدراسة القبائل اليمنية، وأنه يسعى بجدية إلى فهم كل شيء يتعلق بها، حتى يكون بوسعه أن يدلي برأي سديد حولها، ويجلي حقائقها. فلو أن هذا الباحث درس هذه القبائل من خلال تاريخها وتركيبها وعاداتها وتقاليدها فقط فلن يكون بوسعه أن يفهمها على الوجه الأكمل، لكنه سيصل إلى هذا الهدف إن درسها في ظل الاستفادة من الأطر والاقترابات المنهجية العامة التي أتاحتها الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم السياسة في تناوله للأطر الاجتماعية التقليدية، وكذلك الأدب الشعبي "الفلكلور"، والنظريات الاقتصادية في حديثها عن أنماط الإنتاج والتوزيع، وعلم القانون في تناوله لدور العرف والتقاليد في الضبط الاجتماعي. 

وهناك باحثون ينأون بأنفسهم عن هذه المسارات الضيقة، فيزاوجون بين الرؤى العامة العميقة والتخصصات الدقيقة، ويتخذون من الأولى إطارا أرحب لفهم الثانية، الأمر الذي قد يهبهم تميزا ملحوظا في مجالهم. وقد وجدت أن هناك من يعلون فوق هذه المسارب الصغيرة، وينهلون من كل خبر بطرف، ويقطفون من كل بستان للمعرفة أجمل ما فيه من أزهار وورود، ويضربون الأفكار والمعلومات والرؤى والاتجاهات على اختلافها في بعضها البعض، فيخرجون بحاصل معرفي جديد. مثل هؤلاء يرتقون الدرجة الأولى للثقافة، ويبقي عليهم أن ينحازوا إلى الناس وقضاياهم، والمجتمع ومشاريعه، مبتعدين عن غواية السلطة، وأن يتمسكوا بالمثل، ولا يستسلموا لرداءة الواقع، حتى يشدوا أمتهم وراءهم على طريق النهضة، ومن ثم يستحقوا أن يحملوا لقب مثقفين.

تتحدث دوما عن بؤس المثقفين، وتكتب في هذا الاتجاه، إلى الدرجة التي يعتقد فيها من يقرأك أو يسمعك أنك تتحدث عن مجموعة إنسانية تعيش على هامش الحياة.

بالطبع هذا لا ينطبق على مثقفي السلطة الذين يتبادلون معها المنافع. أما المثقف المستقل فهو يعش حال بائسة ممتدة منذ القدم في تاريخنا العربي. فلا يمكن لتاريخ الثقافة العربية أن يتجاوز المشهد الذي يجسد حركات ونبضات أبو حيان التوحيدي، وهو يجثو على ركبتيه ليأكل من حشائش الأرض، ويتصاعد خلفه دخان كتبه العميقة علما والمتفجرة إحساسا، بعد أن أحرقها لأنها لم توفر له لُقيمات يقمن صلبه المكدود من عناء البحث النهم عن المعرفة، والسعي الجاد وراء الحقيقة.

هذا المشهد، أعيد إنتاجه بشروط مختلفة في الدرجة، ولأسباب متنوعة، فوخز ضمائر حية، وارتجفت له قلوب رحيمة، ووجد فيه كثيرون دليلا دامغا على بؤس علاقة المثقف بالسلطة، لأن النار التي أحرقت ما أنتجته قريحة التوحيدي المتوقدة، لم تتوقف ألسنتها المشتعلة عن الامتداد في الزمن، لترمز إلى احتجاج لا يتوقف من مثقفين ومبدعين وعلماء جوعى ومرضى، يطيلون النظر في أغلفة كتبهم، أو لوحاتهم البديعة، أو ابتكاراتهم العلمية، من دون أن يمتلك أحدهم شجاعة التوحيدي، ويطعم النيران الورق أو الألوان، وربما لم يجرف أحدهم اليأس إلى تلك الدرجة المتردية، التي يشعر فيها المثقف بعدم جدوى ما يفعله، لا للمجتمع، ولا لنفسه وذويه.

 ففي زماننا هذا تجول الأديب المغربي محمد شكري على القمامة ليلتقط ما يقيم أوده. وبات الشاعر المصري عبد الحميد الديب ليالي طويلة خاوي البطن. وأكل العجز والكساح عبد الحكيم قاسم، من دون أن يلقي له أحد بالا، رغم موهبته المتوحشة وإنتاجه الأدبي الغزير. ولم يجد الروائي الجميل علاء الديب ما يدفعه لعلاج مرض عضال أصاب قلبه، وهو الحاصل على جائزة الدولة التقديرية في مصر. واستشهد فارس الرومانسية الروائي محمد عبد الحليم عبد الله  على يد سائق تاكسي لخلاف على قيام الأخير بزيادة الأجرة بمقدار خمسة قروش فقط. وتشرد الروائي السوري حنا مينة سنوات طويلة في بلاد غريبة بحثا عن بضع ليرات. وحصل خيري شلبي من بيع رواياته للسينما على أقل مما يناله ممثل كومبارس. وكان أمل دنقل ونجيب سرور يهيمان على وجهيهما جوعانين مريضين في شوارع القاهرة المفتوحة على الغربة والضياع. وباع أدباء العراق كتبهم في زمن الحصار. وباع كثيرون ضمائرهم وقناعاتهم تحت ضغط الحاجة الملحة للغذاء والدواء والكساء والإيواء.

وداخل أسوار الجامعات العربية الحبيسة، وفي مراكز الأبحاث المهملة، آلاف العقول المتوقدة، لعلماء أجلاء، قلوبهم عامرة بحب الوطن، وأذهانهم مشغولة بالتجارب والاكتشافات، وجيوبهم خاوية، وأياديهم على أفواههم المقددة، بحثا عن حد الكفاف، في بلاد تنفق على اللهو أضعاف ما يدفع لتطوير البحث العلمي.

إنها مشاهد متناثرة، لا تشكل سوى أمثلة قليلة على هوان المثقف العربي وفقره، وانسحاقه أمام ظروف قاهرة، يضيع جل وقته في ترويضها، أو التحايل عليها، وقد يستسلم لها في خاتمة المطاف. ويمتد هذا التحايل أو ذاك الانسحاق من المواقف السياسية والاجتماعية الكلية إلى المسائل المرتبطة بنشاط المثقف نفسه، أو ما ينتجه من إبداع. 

وما انعكاس هذا البؤس المقنع على مسار الإنتاج الإبداعي نفسه؟ 

سأضرب لك هنا مثلين يكشفان شتى جوانب الصورة. فشعراء العامية، في عالمنا العربي، يهجرون أحيانا، هذا اللون من الأدب، نظرا لعدم إقبال المجلات الثقافية على نشره، ويلجئون لكتابة القصائد الفصحى، سواء كانت نثرية أم عمودية، حتى يحصلوا على أي مقابل مادي لإنتاجهم الأدبي.

 والمثل الثاني ينطبق على القصة القصيرة، فنظرا لاعتبارات المساحة، فإن فرص نشرها تبدو أكبر بكثير من فرص نشر الرواية، ولذا يُقبل الروائيون عليها، أحيانا، طلبا للرزق، ويظلوا ينتجونها رغم ما يقال عن أننا نعيش في "زمن الرواية". 

ويهجر الشعراء والروائيون الكتابة الإبداعية إلى المقال الصحفي السيار، لأنه الأكثر درا للمال، أو الأكثر طلبا عند جماهير تردى الذوق العام لأغلبيتها إلى مستوى مخيف. وفي خاتمة المطاف يتحول كثير من المثقفين إلى "طيور ترتضي أن تعيش حول الطعام المتاح" كما يقول أمل دنقل، بعد أن ارتخت المناشير والمناقير، فتصير الصقور عصافير مهيضة الأجنحة، وتصبح العصافير ذبابا يطن فوق أوطان خربة.

هل أعطى كتاب الناقد الشهير تزفيتيان تود ورف "الأدب في خطر" حجة لما تكتبه أنت دوما حول جدلية الشكل والمضمون، أو ضرورة أن ينطوي النص على حمولات حياتية معينة؟ 

قبل اهتمامي بعوالم الأدب المفتوحة على الوقائع والعلوم بشتى ألوانها، وهناك اقتناع ينمو داخلي باستمرار مفاده أن الشكل والمضمون مرتبطان، ولا انفصال بينهما إلا للدراسة والتدقيق. وبات هذا الاقتناع يقينا داخلي، حين قرأت ذات مرة دراسات حول تحليل الخطاب السياسي، لا تنصب على المضمون فحسب، بل تُعنى بالطريقة أو الأسلوب الذي خرج به الكلام، جنبا إلى جنب مع السياق الذي قيل فيه. ومن الأولى أن ينطبق هذا الفهم على الأدب قبل أن يتماشى مع السياسة، إذ إن فهم الأدب يتطلب تلمس قوانينه الداخلية وأشكاله الجمالية قبل وضعه في إطار خارجى. 

وأنا لا أزال مخلصا لهذه الفكرة، أو تلك الرؤية، وإذا كنت أهتم بالشكل فعلا حين أتصدى لقراءة نقدية لعمل سردي أو شعري، فإن منطق البحث والفحص والدرس في العلوم الاجتماعية يحتم علي أن أنحي "الشكل" جانبا ليس تقليلا من شأنه، أو انتقاصا من دوره في فهم النصوص الأدبية، إنما وجدت في تثبيت الدور الذي يلعبه الشكل في فهم النص يكون مفيدا حين نكون بصدد تناول المعاني السياسية، وتحديدا القيم السياسية، الكامنة في هذا النص، أو ذاك. فالانشغال بالمضمون في هذا المقام أجدى نفعا عند المختصين بعلم اجتماع الأدب، يكافئ ذلك النفع الذي يلعبه رصد الشكل والتشكيل ومواطن الجمال اللغوي عند نقاد الأدب، حيث يساعدهم على فهم وتحليل وعرض العمل الأدبي، أيا كان جنسه. ومع ذلك فإننا يمكن أن نتلمس الشكل في التنقيب عن المعاني الاجتماعية والسياسية. 

وفي رأيي فإن من حق مختلف العلوم أن تنفتح على الأدب، لتدرسه بأدواتها وأساليبها ومناهجها، لكن ليس من حقها أن تصادر على تيار من النقد الأدبي، يسعى إلى كشف جماليات الكتابة وأساليبها، ولا أن تعرض نفسها للناس، بوصفها الوسيلة الوحيدة، أو حتى المثلى في فهم النصوص وتقريبها، أو تشد عربة النقد الأدبي إلى الوراء بعد أن أبحر طويلا مارا بالبنيوية التوليدية والأسلوبية بمختلف تياراتها، ثم التيارات السميولوجية، ومذاهب القراءة والتأويل وعلم النص. فإذا كان الأدب هو تشكيل جمالي للغة، فمن الأولى، إن كنا نريد أن نتذوقه ونفهمه ونقربه من أذهاننا، ألا نهمل النقد الجمالي، ثم تأتي بعد ذلك أدوات العلوم الأخرى، لتساعدنا على فهم الأدب والوقوف على مراميه. وفي كلتا الحالتين لا يجب أن يتحول النقد الأدبي إلى نوع من "سجع الكهان" المستغلق على الفهم.

قد يقودنا البحث عن المضمون عن الانتصار "للمعرفة الإيجابية" لنعيد طرح السؤال القديم حول "الفن للفن" أو "الفن للمجتمع" أو هل كل الأبواب مفتوحة أمام العلم والمعرفة الإنسانية؟ 

إذا كان من الممكن أن نستوعب فكرة "الفن الفن" فإنه لا يمكن أن يقبل عاقل فكرة "العلم للعلم"، فمثل هذا القبول ينزع عن المعرفة دورها في خدمة البشرية، ويحولها إلى قلائد للزينة، أو يجعلها مطية لخدمة الكسالى المتنطعين، الذين يتوسلون بالعلم للتباهي على الآخرين باستعراض المعلومات والمعارف والأفكار، أو يستخدمونه في ممارسة فن الجدل، مثلما كان يفعل السوفسطائيون، الذين اعتنوا بتعليم الناس فن الخطابة والبلاغة، ليس لكي يصلوا إلى الحقيقة، التي كانت عند هؤلاء السوفسطائيين نسبية، لا يمكن بلوغها، أو الوثوق بها، بل ليكون بوسعهم أن ينتصروا على خصومهم في المناقشات العقيمة، التي يستعرضون فيها مهاراتهم اللفظية. وقد حاربهم سقراط حربا لا هوادة فيها، وحذر الناس من تأثيرهم السلبي على الأخلاق والحياة، وفضحهم أفلاطون في محاورات أسماها بأسمائهم. وجاءت الأديان السماوية لتمنع الجدل غير الخلاق، الذي لا يروم تقدما في الفهم، ولا ارتقاء في الإدراك، ولا بحثا عن الحق والحقيقة، وبينت ضرر المراء، الذي يضيع الجهد ويستنزف الطاقة العقلية فيما لا جدوى منه، ويفسد ذات البين، فيؤذي سلامة الجماعة وسكينتها.

إلا أن السوفسطائيين على وضعهم المزري أرحم بكثير من قوم يستغلون العلم في إيذاء الآخرين وتدميرهم، مثل الذي اخترع القنبلة الذرية وأترابه ممن توصلوا إلى الأسلحة الفتاكة، أو مثل الذي يستخدم طرق ومناهج علم النفس في تعذيب السجناء والمعتقلين السياسيين وغسيل أمخاخهم، أو هذا الذي يستغل أساليب الإعلام وطرائقه في تزييف وعي الناس وتضليلهم والدفاع عن الباطل وتزيينه، أو من يستخدم طرق التحليل الاقتصادية في الاستغلال والاحتكار، أو ذلك الذي يستغل علوم الأديان في تبرير عقده النفسية ومصالحه الشخصية، أو لخدمة التوجه السياسي لجماعة معينة، مهما كان في هذا من ضرر بالدين في سموه وجلاله ورسوخ تعاليمه.

ولا يقل بعض علماء اليوم عن السوفسطائيين ضررا بالناس، وخطرا على الحياة، وأقصد هنا بعض علماء الجينات، الذين يريدون أن يذهبوا بنا إلى كارثة محققة تتمثل في استنساخ الإنسان، باسم التجارب العلمية المباحة تماما، من دون أي كابح من دين أو ضمير أو حق اجتماعي، وباسم ضرورة انفتاح العلم على كل الاحتمالات، واقتحامه لكل المناطق والمجالات، مهما كان الثمن. فمثل هذا النوع من العلم، رغم تقدمه التقني الرهيب الذي يثير الإعجاب، سيلحق ضرارا بالغا بالفرد والمجتمع على حد سواء، إذ إنه سيبخس من قيمة الإنسان، ويورثه أمراضا نفسية وعضوية لا أحد يعرف مداها، ويقلل من احترام الحياة الإنسانية، ويفتح الباب على مصراعيه لتحويل الإنسان إلى سلعة رخيصة في سوق نخاسة من نوع جديد، وقد تستغله حكومات مستبدة وعصابات منظمة في أغراض شريرة.

ويقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا رابليه: "إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس". ومستغلو العلم في الشر إن تمادوا في غيهم فإنهم سيؤدون إلي خراب المجتمع، بل خراب العالم برمته، بدءا بإفساد القيم وتشيؤ الإنسان، وانتهاء باستخدام السلاح الذري الفتاك في إهلاك النسل والحرث، وهو السلاح الذي تقيأ مخترعه روبرت أوبنهايمر، حين أدرك حجم الدمار الذي يترتب على استخدام القنابل الذرية، مثلما خجل ألفريد نوبل من نفسه، وأراد أن يكفر عن فعلة اختراع الديناميت الشنعاء، فأوقف جزءا من ماله، ليخصص لمنح جوائز لمن يبدعون ويقدمون أعمالا تنفع البشرية.

ربما تنبع المشكلة هنا من اختلاف النظر إلى المعرفة والعلم أو تعدد محاولات توظيفهما .. أليس كذلك؟

هذا صحيح، فهناك بين الأفراد من يتعامل مع العلم إما بوصفه مجرد وسيلة لتحصيل الرزق، أو تحقيق المكانة الاجتماعية. والدول والحكومات نفسها بدأت تربط التعليم بالمصالح المباشرة، أو بحاجة سوق العمل، كي تجهز كوادر مدربة وماهرة لتلبية احتياجات عملية الإنتاج، في عنصرها البشري. وهذه درجة إيجابية مقبولة، مقارنة بوضع السوفسطائيين ومن يحذو حذوهم، لكنها ليست كافية في حد ذاتها لأن تكون مقصدا أخيرا وغاية نهائية للعلم.

وهناك من ينظر إلى العلم بوصفه رسالة جليلة خالدة، وهو إن استفاد من العلم في تحصيل منفعة مادية أو بلوغ مجد ومكانة بين الناس، فإن هذا لا يجنح به أبدا عن هدفه الأساسي ومقصده الرئيسي، وهو أداء رسالة حيال مجتمعه، باعتبار "العلماء ورثة الأنبياء" وعليهم ما على الرسل من تكليف في هداية الناس إلى الحقيقة والحق والخير والصواب.

وهنا يكون العلم في بعده الأخروي طريقا للبحث عن الحقائق المطلقة والمثل العليا في هذا الكون، وفي جانبه الدنيوي وسيلة لتقدم البشرية وإسعادها، ابتداء من الدفاع عن القيم النبيلة الراسخة، والارتقاء بالسلوك الإنساني ، وانتهاء بالمضي قدما في تطوير المخترعات الحديثة التي تخدم الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل حياتهم أسهل وأيسر.

فلا يمكن أن تكون هناك فلسفة ولا علم يستحق أن يحمل هذا الاسم من دون أن يكون له بعد إنساني جلي، وتعريفات العلم، بشقيه الطبيعي والإنساني، تدل على هذا القصد بوضوح تام، فهو مجموعة المعارف الإنسانية التي من شأنها أن تساعد على زيادة رفاهية الإنسان، أو مساعدته في صراعه من أجل البقاء، أو هو مجموعة الخبرات الإنسانية التي تجعلنا قادرين على فهم الظواهر التي تجري في الكون الفسيح، والتنبؤ بمسارها ومصيرها. وهنا يتجلى العلم في أكمل صوره حين يرتبط بغاية نبيلة، نسعى إلى بلوغها عبر سلوك هادف. 

وقد فطنت امرأة عربية بسيطة في مطلع القرن الثاني الهجري إلى ضرورة التلازم بين العلم والسلوك، وهي أم الفقيه وراوي "الحديث الشريف" سفيان الثوري، إذ أوصته قائلة: "يا بني خذ هذه عشرة دراهم، وتعلم عشرة أحاديث، فإذا وجدتها تغير في جلستك ومشيتك، وكلامك مع الناس، فأقبل عليه، وأنا أعينك بمغزلي هذا وإلا فاتركه، فإني أخشى أن يكون وبالا عليك يوم القيامة". 

ومخالفة هذه النصيحة الغالية أدى إلى حال من الفصام النكد بين المعرفة والسلوك في حياتنا الجارية، فأصبحنا نشهد أساتذة جامعيين وقد تحولوا إلى تجار، لا يعنيهم العلم إلا بمقدار ما يفيدهم في تحصيل المال، ولا تؤرقهم الرغبة في المعرفة والاكتشاف، إلا بقدر ما تمنحهم مزية في منافسة نظرائهم على جلب الزبائن. وصرنا نرى فقهاء وقد تحولوا إلى أبواق لخدمة أصحاب المال والسلطان، فيطوعون النصوص الجليلة لخدمة هذه الأغراض الدنيئة، ولا يهمهم أن ينهضوا بما عليهم من تبعة ومسؤولية حيال مجتمعهم، ولا يضنيهم غضب الله منهم، لأنهم لم يحسنوا استعمال هبة العلم والفقه الذي وهبها لهم، وذللها لأفهامهم وبصائرهم.

 وبتنا نرى إعلاميين يعرفون الحق وينكرونه، ويوظفون ما تعلموه من أساليب الإقناع ومسارات البرهان وأبنية الحجج في الدفاع عمن يدفع لهم، ولمن يخلع عليهم الألقاب، ويمنحهم المناصب والأموال. ونرى كل يوم أطباء وقد صاروا "ملائكة عذاب"، يسرهم انتشار الأمراض، ويتخذون من علمهم مطية للاستفادة من آلام الناس وأوجاعهم في جمع الثروات. ونرى محامين يستعملون علوم القانون وطرائقه في تبرئة الظالم، وعقاب المظلوم، ولا يهز ضمائرهم صوت العدل، الذي أقسموا أن يرفعوه، ولا يضيرهم إعلاء شأن الباطل، الذي أقسموا أن يخسفوا به وبأصحابه الأرض.

كل هذه الصور القبيحة  تفوق في بشاعتها حتى من وظفوا العلم في الجدل العقيم والمتع الذهنية الزائلة ، لأنها نتاج تصور فاسد لا يرى في العلم سوى أنه وسيلة لتحقيق مآرب غير خيرة، وغير شريفة. 

لك كتاب عن "الأيديولوجيا" تنقدها فيه، بل تجلدها أحيانا، لكن في نظرك هل يمكن أن يعيش الإنسان بلا مرجعية أو إطار؟

من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يدعي أي فرد أنه بلا إطار، لكن هذا الإطار لا يجب أن يكون بالضرورة أيديولوجيا. وإذا كان الفرار من الأيديولوجيا صعب، فإن البديل هو تفكيك أبنيتها، بحيث ننزع عنها بعض الأوهام، مثل الحديث عن ارتباطها بالطبيعة البشرية، والادعاء بعلميتها التامة، واستخدامها في  تبرير حتى أكثر الأخطاء فداحة، وجمودها عند نقاط محددة لا تفارقها بدعوى التمسك بالجوهر. عند هذا الحد ستنجلي "الأيديولوجيا" وتتخلص من شوائبها العديدة، لتؤول في النهاية إلى "منظومة" من القيم السياسية، التي تجمع بين العمومية الإنسانية، والخصوصية الحضارية لكل أمة.

  ويبدو أن هذا الاتجاه سيتعزز، بثقة وتمهل، خلال العقود القادمة، بعد أن عجزت الأيديولوجيات والنظريات عن تفسير العديد من الأحداث الكبرى التي شهدها العالم، مثل تفكك إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفيتي، وانتشار التطلعات القومية، والحركات الانفصالية، وصعود حركة الإحياء الديني، ليس في الإسلام فحسب، بل في كثير من الأديان، وتمسك البعض بذاتهم الثقافية في مواجهة العولمة، وانتقال أنظمة سياسية عديدة من التسلطية إلى الديمقراطية.

فأولئك الموزعون بين التمسك بمبادئ تحكم سير حياتهم والاعتراف بما في الأيديولوجيا من مثالب سيجدون ضالتهم في الالتحاف بنسق من القيم، يتكئون عليه في سيرهم، ويستمدون منه تحديد أهدافهم ونسج آمالهم، وهم يضمنون أنهم لا يتخبطون.

إن هناك "ثورة قيمية" تبدو واضحة المعالم، حيث الانتقال من القيم المادية إلى القيم المعنوية، وهو ما يتجلى في الانشغال بموضوع البيئة، ونوعية الحياة التي نعيشها، إلى جانب حركتي الإحياء القومي والديني، وأخيرا الثورة الفكرية التي يمكن لمسها في الانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة.

 وتزامنت هذه الثورة القيمية، مع ثورة في مناهج البحث العلمي بالإنسانيات، رصدت صعود  القيم، بشكل عام، في سلم بعض الرؤى الإنسانية لتصل إلى درجة المثال، وتصبح ضابطا قويا يحكم الكثيرين من البشر، ويحدد تصرفاتهم في مختلف المواقف، ويعين اتجاهاتهم حيال القضايا المطروحة في واقعهم المعيش. 

لكن في الواقع، كيف يمكن بناء منظومة القيم التي تتحدث عنها؟

أمدتنا فلسفة العلوم بإمكانية بناء "منظومة قيم" يمكن قياسها علميا، بوصفها مجموعة من العناصر (القيم) المترابطة، التي يعد التوافق بينها ضروريا لإعادة إنتاج المجموع (نسق قيمي). وقد يّسر التداخل بين هذه القيم المهمة. فعلى سبيل المثال نجد أن قيمة الحرية تتقاطع مع نسيج قيم أخرى، إذ إنه من العسير أن نفصل بين الحرية والمساواة، وأي محاولة للسير في هذا الاتجاه تقود إلى المجهول، لأن هاتين القيمتين يجب أن يرتبطا ويتعايشا جنبا إلى جنب، إن أردنا أن نظفر بمجتمع سليم البنيان. وفي الحقيقة فإن الحرية يجب أن تتضافر مع المساواة، وكذلك العدالة، لتشكل هذه القيم الدعامة الأساسية لنظام الحكم الديمقراطي.

والفصل بين هذه القيم هو في الحقيقة فعل متعسف يرمى إلى الانتصار لأيديولوجيا بعينها، وليس للعمل من أجل مصلحة المجتمع. فالاشتراكيون رفعوا من منزلة "المساواة" لتعلو لديهم على الحرية والعدل القانوني والسياسي، والليبراليون انتصروا لـ" الحرية" على حساب المساواة والعدل، والإسلاميون يؤكدون أن "العدالة" هي جوهر الدين الخاتم، وبذلك تتقدم عندهم على الحرية والمساواة.

لكن التجربة الإنسانية أثبتت أن التركيز على قيمة واحدة وإهمال بقية هذه القيم المحورية (العدالة ـ الحرية ـ المساواة)، يؤدي إلى التدهور الاجتماعي. فحين جعلت الاشتراكية الخبز قبل الحرية، واختزلت الحرية في جانبها المادي فقط، انتهى الحال بالأنظمة التي طبقتها في تعسف إلى السقوط، وبات على المتمسكين بها أن يعيدوا النظر في موقفهم من الحرية والعدل السياسي والقانوني. أما الليبرالية فلم تهمل المساواة والعدل تماما، فقننت "الضمان الاجتماعي" وأعلت من شأن القضاء، وطبقت مبادئ العدل السياسي مع مواطنيها، وكفلت حدا مناسبا من تكافؤ الفرص، وبالتالي تمتعت الليبرالية بقدرة على البقاء، لا يهددها حاليا إلا توحش الرأسمالية، وجبروت العولمة.

ومن المتصور أن التشكيك في موضوعية القيم ورسوخها ستترتب عليه عواقب وخيمة بالنسبة للمجتمعات، الأمر الذي جعل بعض المفكرين يطالبون بأن تكون القيم ملزمة للجميع من أجل حياة محترمة، وذلك رغم أنهم يؤمنون بعدم ثبات القيم، ومن ثم عدم قدرتها على إطلاق أحكام موضوعية. كما أن صفة الثبات نفسها قد تكون سلبية حين تتحول إلى جمود، وهي الآفة التي أصيبت بها العديد من الأيديولوجيات فتنحت جانبا في معترك التاريخ، الذي يسير بلا هوادة.

 كما أن تغير القيم ينطوي على "مرونة" تفتقدها الأيديولوجيات، وفي الوقت نفسه فإن هذه المرونة، مهما كانت درجتها، لا تمنع من التفكير في نسج منظومة قيم، قد تختلف من مجتمع إلى آخر، حسب أوضاعه وظروفه وإرثه الثقافي، لكن وجودها يبقى مهما له كإطار يحكم حركته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وهذه المرونة ستساعد على تجنب الأخطاء العميقة التي تصم بعض السرديات الكبرى meta narratives ، خاصة تلك التي تنطوي على نظرة "تراتبية" تجاه الشعوب والمجتمعات, فتضعها في سلم تنازلي حسب "الأرقى فالأرقي" في صورة قاسية من العنصرية البغيضة, ما ينجلي مثلا في استعمار الرجل الأوروبي الأبيض للشعوب الأخرى, الذي تأسس على قاعدة "تنوير" تلك الشعوب ونقلها إلى درجة حضارية فضلى. وكل ما تمخض عن التراتبية الحضارية, مثل "المركزية الأوروبية" Euro centrism هو في الواقع مادة مصنعة في معامل العنصرية، كما يقول إدوارد سعيد.

 ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك؟

كثيرا ما رددت مقطوعة شعرية رائعة رائقة عميقة، كلما هممت لأكتب شيئا، معتبرا، أو حتى متوهما، أن ممارسة الكتابة، تقربني من التحرر والخلاص، الذي أنشده. وهذه المقطوعة هي: " حريتي أن أوسع زنزانتي" ... التي قالها محمود درويش في إحدى قصائد ديوانه الأثير "هي أغنية"، وكأنه يلخص حال المواطن العربي، الذي يخطفه الحلم إلى حرية مجنحة، فيرده الواقع إلى رغبة فقط في توسيع الزنزانة، أو تحسين شروط الحياة داخل السجن الكبير. 

ومع شعار "تدرجوا  حتى تنضجوا فتنالوا حريتكم" المرفوع في وجه كل من يريد حرية حقيقية "الآن ... وهنا" يرى المتشائمون أنه لم يعد أمام كل منا سوى أن يحمل زنزانته فوق ظهره، فتسير معه أينما حلّ، وليس له أن يتخفف أو يتخلص منها، بل عليه فقط أن يعوّد ظهره على التحمل، أو يتودد إلى الزنزانة فلا تٌثقل من حمولتها فتعجزه عن السير تماما، وهكذا حتى يصل إلى "المحطة الأخيرة" من عمره المترع بالشقاء.

هل يمكن لكل مفكر أو مبدع أن يجد سبيله إلى هدم هذه الزنزانة؟

المشكلة أن الزنزانة متعددة الجدران، فلا يكفي أن نهدم أحدها أو نصنع به كوة كافية لتهريب أجسادنا منها حتى نجد أنفسنا أحرارا طليقين، بل علينا إما أن نمارس لعبة ترويض الوقت، أو أن نبحث عما نزيل به الزنزانة تماما، وعندها علينا أن نتحمل نتيجة المغامرة، فإما التحرر وإما الموت.

 ويقول الخائفون والمترددون منا علينا قبل أن نقرر ما سنفعل أن نقرأ موسوعة الباحث العراقي عبود الشالجي، التي وسمها بـ"موسوعة العذاب" ليسرد في ثمانية مجلدات كاملة طرق تعذيب السجناء والمتمردين على السلاطين الجائرين في التراث العرب، ونضيف إليها ثمانية مجلدات أخرى من صنع خيالنا، أو نتاج لبحثنا أو تجربتنا، عن التعذيب عند العرب المعاصرين. وقد تنفعنا قراءة روايات عبد الرحمن منيف وصنع الله إبراهيم، ويمكن أن نختتم القراءات بروايتين  خفيفتين "العسكري الأسود"  ليوسف إدريس و"السرداب رقم 2" للعراقي يوسف الصائغ.

ويسدى هؤلاء الخائفون النصح إلى من يتهم بعض الباحثين بالانزلاق نحو التحيز والانتقاء المتعمد الذي يحرف الحقائق، وإلى من يعتقد في أن كل ما بالروايات من صنع الخيال، أن يقرأ ما كتبه "الإخوان المسلمين" عن تجربتهم في سجون عبد الناصر، وما كتبه الشيوعيون عن عذابهم المرير في سجون صدام ... وليتجول في السير الذاتية للمناضلين أو الرافضين العرب من المحيط إلى الخليج، سيجد أينما حل زنازين، كما تسمى في مصر، أو مهاجع كما يطلقون عليها في العراق والشام. 

أما المتفائلون ممن لديهم العزم والجرأة على تحدى كل هذا دفعة واحدة، فسيهدمون الجدار الأول في زنازيننا، فتنقص الحمولة الثقيلة الجاثمة فوق ظهورنا، ويكون بوسعنا أن نزيد من تلاحق خطواتنا إلى الحرية، خاصة إن كنا عازمين على هدم الجدار الثاني.

والجدار الثاني صنعه تجار الدين، الذين استغلوا حاجة الناس الروحية وإيمانهم العميق برب السماوات والأرض، وراحوا يشّيدون حائطا عريضا بينهم وبين جلال النصوص ومقاصد الشرع، بتأويلات بشرية، ادعى أصحابها أنها صحيح الدين، وما هي إلا محض اجتهادات تحتمل الصواب والخطأ. 

وإذا تمكنا من هدم هذا الجدار عبر التفريق بين "الإلهي" و"البشري" والوصول مباشرة إلى النص المؤسس، حسب وصف أدونيس في كتابه المثير للجدل "الثابت والمتحول" فسيكون علينا أن نواجه الجدار الثالث المتمثل في ما توارثناه من عادات وتقاليد اجتماعية بالية، مثل تقدير مكانة الشخص بجذوره العائلية وليس بما حقق من إنجاز، واعتبار صاحب المنصب الرسمي، حتى لو كان لصا ومنافقا، أهم مكانة وأرفع وضعا ممن لم يحظ بالمناصب حتى لو كان عالما فذا أو مبدعا موهوبا، أو حتى مجرد مواطن بسيط لكن شريفا ونظيف اليد ومعطاء.

ولا يتسع المقام هنا لأحصي عشرات العادات التي يجب وأدها، وإن كنت أقول أن هناك من التقاليد ما يجب أن نعض عليها بالنواجذ، وكنت أعتقد في أن القديم لا يمكن أن يموت كله، كما يقول عالم الاجتماع الروسي بوريس كاجارليتسكي. وفي الوقت نفسه فهناك من العادات ما يشكل عقبة كبيرة أمام بلوغ سقف كاف من الحرية، حتى تخف حمولة الزنازين التي نحملها فوق ظهورنا.

فإذا تخطينا الجدار الثالث هدما أو عبورا كان علينا أن نواجه الجدار الأكثر ارتفاعا والأكبر سمكا، وهو ما في أنفسنا من قيود، تقفز رقيبا ذاتيا لحظة الكتابة، وتلعثما وقت المجاهرة بالحق والصدق، وقعودا إذا دعا الداعي إلى يوم الحرية الأكبر، ولامبالاة في مواجهة ظاهرة "الفرز العكسي" في مؤسساتنا التي تثيب ضعاف الإمكانيات وتحط من قدر المتمكنين ، لا لشيء سوى لأنهم معتدون بأنفسهم، غيورون على المصلحة العامة. كما يمتشق هذا الجدار الداخلي حين نضعف أمام ملذات الدنيا، فيتحول الإنسان لدينا إلى سلعة، والسلعة إلى قيمة عظمى، وننسى أن الله قد خلق الأشياء لخدمتنا، ولم يخلقنا لخدمتها.

وحين تسقط هذه الجدران الأربعة نكون قد وسعنا الزنازين، بالقدر الذي يجعل أعناقنا بوسعها أن ترى حواف السجن الكبير، لنرفع من سقف شعارنا فيصبح: "حريتنا أن نهدم السجن ونجعل السجان يتسول الغفران". وكلمة الحق الصادقة هي الخطوة الأولى في سبيل تحقيق هذا الشعار.