عمار علي حسن يكتب: أدبيات حسن البنا السياسية (3/3)

ذات مصر

استكمالًا لما بدأناه في الحلقات السابقة، من حكايات جماعة الإخوان، كان البنا يسعى إلى ما يسميه "أستاذية العالم"، والتي تعني سيطرة الإخوان على السلطان في الأـرض، وتحدث بعض تابعيه عن "دولة الفكرة" التي تقوم على مبدأ "أينما كانت فكرتنا كانت دولتنا"، بينما يقول الإخوان دوما أن أحد دوافع قيام جماعتهم هو سقوط الخلافة الإسلامية، وبذا تكون استعادتها من أهدافهم الكبرى. ولأنهم يؤمنون بالتدرج فإن مؤسسهم لم يجد غضاضة في الحديث عن الوطنية والقومية ثم الوحدة الإسلامية بوصفها دوائر متلاحقة ومتكاملة بشرط أن تكون العقيدة الإسلامية أساس الوطنية، وتمتد إلى أي تصور لتنسيق أو تعاون إقليمي وصولا إلى توحد المسلمين قاطبة. فالإسلام في نظر البنا، كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسية؟ ومن هنا فإن العقيدة أساس الوطنية عند الإخوان، ويبقى المواطن، الذي له الحقوق كافة وعليه الواجبات كافة، هو المسلم، أما غير المسلم فتبقى حقوقه الدنيوية منقوصة.

وميوعة فكرة الوطنية جعلت كثيرين ينتقدون الإخوان نقدا لاذعا، الأمر الذي جعل البنا معنيا بالرد في مواضع كثيرة، مدافعا عن موقفه، وها هو يقول، في هذه الناحية، بعد أن يعدد ما يريد من خلاله أن ينفي عن الإخوان عدم الإيمان بمصر: "أفرأيت بعد هذا كيف أننا متفقون مع أشد الناس علوا في الوطنية في حب الخير للبلاد، والجهاد في سبيل تخليصها وخيرها وارتقائها، ونعمل ونؤيد كل من يسعى في ذلك بإخلاص، بل أحب أن تعلم أم مهمتهم إن كانت تنتهي بتحرير الوطن، واسترداد مجده، فإن ذلك عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة، ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض، ويخفق لواء المصحف في كل مكان". 

وفي رسالته إلى المؤتمر الخامس يقول البنا: “إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فى أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام فى دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر فى شأنها على النظر فى تجهيز النبى صلى الله عليه وسلم ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها. والأحاديث التى وردت فى وجوب نصب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها، لا تدع مجالاً للشك فى أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير فى أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها، ثم ألغيت بتاتًا إلى الآن. والإخوان المسلمون يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التى لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات: لابد من تعاون تام ثقافى واجتماعى واقتصادى بين الشعوب الإسلامية كلها، يلى ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، وإن المؤتمر البرلمانى الإسلامى لقضية فلسطين، ودعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب فى الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان، وخطوتان واسعتان فى هذا السبيل، ثم يلى ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا استوثق ذلك للمسلمين كان عنه الاجتماع على (الإمام) الذى هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله فى الأرض”.

مثل هذا القول يجعل من "الخلافة" هي الوطن الحقيقي للإخوان، ومع هذا فليست هي الغاية القصوى، إنما بلوغ "أستاذية العالم"، وهي آراء استمر الإخوان في تريديها لتعبئة الشباب حول الجماعة، مع أن قادتها يدركون أن هذا أمر بعيد المنال، ويطالعون الانتقادات التي وجهت إليهم وبينت أن الخلافة لم تكن فريضة ولا ركنا من أركان الإسلام أو الإيمان، إنما هي نظام حكم اجتهد بعض الصحابة بعد وفاة الرسول في وضعه وتطبيقه، وأنها انتهت في أواخر عهدها إلى نظام سياسي واجتماعي بائس صار عالة على العالم الإسلامي باسره، وأطلق الأوروبيون عليه "الرجل المريض". وقد استمرت الجماعة مؤمنة، بدولة الفكرة، وهي إن كانت تتشابه مع بعض التيارات الأخرى في حديثها عن دوائر الانتماء المتتابعة، فإنها تشترط أن تكون الدائرة القطرية مجرد مرحلة، أو إجراء في الطريق إلى "الأممية" التي يجب أن تقوم على الاعتقاد، غير عابئة بما تفرضة حقوق المواطنة للمختلفين عقديا.

وقد امتدت قضية الهوية إلى مسألة الخصوصية المجتمعية عند البنا وتجسدت في دعوته إلى "مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون والتشديد فى ذلك بخاصة على المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ومن فى حكمهن .. وإعادة النظر فى مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان فى كثير من مراحل التعليم .. ومنع الاختلاط بين الطلبة والطالبات واعتبار خلوة أى رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان بها"، وكذلك مطالبته بـ "مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد فى اختيار الروايات والأشرطة .. وتهذيب الأغانى واختيارها ومراقبتها والتشديد فى ذلك" وأيضا مناداته بتطبيق الحسبة و"مؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شيء من تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه، كالإفطار فى رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشؤون .. وتوجيه الصحافة توجيها صالحا وتشجيع المؤلفين والكاتبين على طرق الموضوعات الإسلامية الشرقية".

رابعا: الآخر

لم يتحدث البنا عن الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين واليهود، ولا حتى بين أتباع الديانتين الأوليين، ومع هذا كان يحرص على أن يصطحب معه شخصا مسيحيا اسمه (نصيف ميخائيل) في مؤتمراته الشعبية. فإن أتى على ذكر الوحدة الوطنية فكان يقصد بها توحيد صف المسلمين الذين تفرقوا شيعا وأحزابا.

وبالطبع فإن البنا لم يكن فكره السياسي يرتقي إلى الإيمان بفكرة "المواطنة" إنما يقف بالقطع عند حدود الذمية، فلا التصور الذي ينحاز إليه، ولا الزمن الذي عاش فيه كانا يرجحان انتقاله بعيدا عن "عهد الذمية" للآخر الديني، الذي أقصى ما يقدمه له الإخوان هو عبارتهم الشهيرة التي يتلفظون بها دوما حين يسألهم الناس عن حقوق المسيحيين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، لكن في الممارسة العملية لا يلتزمون بشيء من هذا.

ولا يلغي هذا حرص الجماعة، طيلة تاريخها، على تقريب بعض أشخاص من المسيحيين إليها كنوع من الدعاية السياسية أمام الرأي العام، وليس عن اقتناع بمشاركتهم في إدارة السياسات العليا للبلاد. ففيما يتعلق بالحكم والإدارة فإن البنا نفسه يقول:"لا بأس أن تستعين الحكومة بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي".

أما الآخر الغربي فقد نقده البنا من أربعة وجوه: الأول يتعلق بالجانب الديني والحضاري، وهنا وصف الغرب بأنه إباحي وإلحادي ومتهافت على اللذة، وراح يهاجم كل من ينظرون إلى النموذج الثقافي الغربي نظرة تقدير أو إنبهار أو حتى نظرة موضوعية تعلي من قيمة الحرية والتعددية. ويمكن في هذا المقام أن نضرب مثلا بالهجوم الذي شنه على طه حسين عقب إصدار كتابه المهم "مستقبل الثقافة في مصر"، حيث يقول له، وكأنه يخاطب كل من يسيرون في الاتجاه نفسه: "ألستم مسلمين، أيها الناس ؟ ألا ترضون الإسلام حكما؟ فإذا كنتم ترون هذه الأصول في حياة أوروبا حقائق لا تقبل النقض، فاعلموا أنها لا تتفق مع الإسلام، وأنكم بذلك تصطدمون بإسلامكم .. فكونوا شجعانا في إعلان الخروج عن تعاليم الإسلام حتى لا تخدعوا أنفسكم، وتخدعوا الناس".

والثاني أن البنا كان يرفض بصيغة شاملة وقاطعة نمط الحياة الغربية، بل يبذل كل جهد مستطاع في سبيل منع انتشاره في مصر والعالم الإسلامي، ويجعل من هذا أحد الأهداف الأساسية لجماعة الإخوان. والثالث يتعلق برفض البنا للغرب من جانب آخر، حيث نظر إليه على أنه "الغرب الصليبي" الذي يبعث إرسالياته التبشيرية إلى بلاد المسلمين وهو ما وصفه بأنه "حرب صلبية جديدة"، بل إن بعض الإخوان يضعون من دوافع قيام جماعتهم محاربة التبشير المسيحي في تلك الآونة.

كما كان البنا يرفض استعمال مصطلح "الاستعمار" ويطلق عليه "الاستخراب"، لكن على مستوى الممارسات تعاون مع الإنجليز، الذين ساعدوه بمساعدة مالية سخية لحظة انطلاق جماعته، وكان الإخوان يتصدون أحيانا لمظاهرات طلابية وجماهيرية تنادي برحيل الاحتلال الإنجليزي عن مصر.

ولم يقبل البنا من الغرب سوى التكنولوجيا، حيث العلم والكشف والاختراع، لكنه دعا المسلمين إلى عدم الانبهار بهذا، إنما محاولة امتلاك مثيل له، مع الأخذ في الاعتبار أن التقدم التقني الغربي يعاني من غياب عنصر مهم وأساسي وهو "الإيمان". 

وبوسعنا في هذا المقام أن نتحدث عن الآخر المسلم، فالبنا وإن كان يدعو إلى التقريب بين المذاهب، فإنه طالما حض أتباعه على أن يجتهدوا كي يكونوا هم ممثلو الإسلام وليست أي جماعة أخرى. ورغم أن هناك من بين الإخوان من يقول إنهم "جماعة من المسلمين" وليسوا "جماعة المسلمين"xxii على النقيض من بعض الجماعات الدينية المتطرفة الأخرى، فإن الممارسة العملية للإخوان أظهرت أنهم ينظرون إلى كل من ليس في جماعتهم، حتى لو كان مسلما سنيا ورعا، باعتباره "آخر"، بل إنهم يفرقون داخل الجماعة نفسها بين الأعضاء العاملين والآخرين المنتسبين لها أو المتعاطفين معها. وقد لبست هذه الممارسة لبوس أفكار سيد قطب الذي تحدث عن "الجاهلية المعاصرة" وطالب بـ "العزلة الشعورية" عن "الأغيار" من المسلمين، بل دعا إلى مناهضتهم.