عمار علي حسن يكتب: إعلاء الكرامة الإنسانية كشرط أساسي للحياة

ذات مصر

تعد الكرامة هي القيمة الأسمى في المسيرة التي يقطعها الإنسان في سبيل التحقق والإنجاز، إذ تقع منهما موقع القلب من الجسد، وأحيانا تكون بمثابة القدمين اللذين يسير بهما هذا الجسد في مختلف الاتجاهات، متنقلا نحو مقاصده وغاياته. فمن الكرامة تولد الحرية والهيبة واحترام الذات واستحسان التعزيز الإيجابي والثناء، وهي قيم وأحوال نفسية ضرورية لبناء شخصية الآدمي عامة، وتحديد مسيرته ومصيره، وشخصية المناضل على وجه الخصوص، وترسيخ اختياراته وانحيازاته. 

والكرامة ليست كلمة تلوكها الألسن باستمرار، من دون إدراك معناها ومغزاها، أو العمل من أجل تحصيلها والتمتع بحضورها ووجودها، بل هي قيمة تتحقق حين تتوافر الشروط التي تؤدي إليها، وينتظم السلوك المترتب عليها، ويكتمل الشعور بها لدى الفرد والجماعة. ولا تحل الكرامة بمجرد تكرار اللفظ الدال عليها، أو المفاهيم المنبثقة منها، ولا بمجرد الإلحاح على ضرورة الشعور بها، بل تأتي طواعية، مرتبطة بأفعال لا تتحقق من دونها، ثم تنمو داخل النفس الإنسانية، حتى تلتصق بها، وتتوحد معها، إلى الدرجة التي يعتقد فيها الإنسان أن الكرامة هي التي تحدد ما يقبله وما يرفضه، وما يروق له ويحبه، وما يلفظه ويكرهه، كما تحدد نظرة الجماعة إليه، وموقعه في سلم الإنسانية، إلى حد يؤمن عنده بأن الموت أفضل من حياة بلا كرامة.

لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن صورة وحال: "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"، وكرمه على سائر المخلوقات: " ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". 

وهذا التكريم يتوجب أن يحصل عليه الإنسان لإنسانيته، بغض النظر عن دينه وعرقه ولغته وأيديولوجيته ووضعه الطبقي ولون بشرته، فالآية القرآنية واضحة في هذا الشأن ولا تحتاج إلى أي تأويلات معوجة، فهي تتحدث عن "تكريم بني آدم"، وتساوي ب ين أبناء البشر في ذاتيتهم الإنسانية. ومن ثم فإن أي مقولات تسعى إلى تجزئة كرامة البشر التي منحها الله إياهم، أو تحاول أن تخصها في أتباع ديانة بعينها، أو في المؤمنين من دون غيرهم.

وترتبط كرامة الإنسان في القرآن بثلاثة أمو مهمة الأول هو أن الإسلام يقر خلافة الإنسان لله: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (البقرة ـ 30) والثاني هو أن الإنسان يحمل الأمانة من قبل الله سبحانه وتعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا" (الأحزاب ـ 72 ). أما الثالث فيتعلق بعدم وجود أي حائل بين الإنسان وربه في الإسلام، فهو دين لا يعرف وساطة بين الأرض والسماء، ولا يعرف الكهنوت، ويقر بوجود رباط وثيق بين الله وبين الإنسان، وهو ما تعبر عنه الآية الكريمة: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين" (الأعراف ـ 172).

ويرى محمد عبد الله دراز أن الكرامة التي يقرها الإسلام للإنسان ليست كرامة مفردة، إنما هي كرامة ذات أبعاد ثلاثة، فهي أولا عصمة وحماية، وعزة وسيادة، واستحقاق وجدارة، وهي ثانيا مستمدة من طبيعة الإنسان، تتغذى من عقيدته: "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"   (المنافقون ـ 8)  ، وهي ثالثا كرامة يستوجبها الإنسان بسعيه وعمله وجهده واجتهاده: "ولكل درجات مما عملوا" (الأحقاف ـ 19).

ويقول دراز في معرض تأكيده رؤية الإسلام للكرامة الإنسانية: "إنها قبل كل شيء سياج من الصيانة والحصانة، هي ظل ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد من البشر، ذكرا أو أنثى، أبيض أو أسود، ضعيفا أو قويا، فقيرا أو غنيا، من أي ملة أو نحلة .. إنها ظل ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد يصون به دمه دون أن يسفك، وعرضه دون أن ينتهك، وماله دون أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكم فيه قسرا، أو تعطل حريته خداعا ومكرا".

وبهذا التكريم تكتمل الإنسانية، وبتلك الكرامة تتحقق الآدمية، ويجد الإنسان متكئا قويا وعريضا لنيل كل ما له من حقوق للمواطنة. فالإنسان يتميز عن الحيوان بالكرامة أكثر من تميزه بالتفكير. فكل الحيوانات تمتلك قدرا من التفكير والذكاء، يؤهلها لمواجهة أعباء الحياة. وبعض الحيوانات الذكية نسبيا، مثل الشامبنزي تبدو أحيانا أكثر ذكاء من بعض المعاقين ذهنيا من البشر، ممن يعانون من تخلف عقلي حاد. لكن لا يوجد حيوان مهتم بكرامته، أو يتصرف على أساس الحفاظ عليها وصيانتها، لأنها غالبا غير موجودة، ربما باستثناء الجمل الذي لا يضاجع أنثاه إلا بعيدا عن الأعين وفي ظلام دامس، ويحتقن من صاحبه إن بالغ في الإساءة إليه، وقد ينتقم منه حين تحين له الفرصة. 

وتقدر الأغلبية الكاسحة في الشرق والغرب معا حرص أي إنسان على كرامته، الأمر الذي تجلى في قول شكسبير على لسان ياجو، أحد أبطال مسرحيته الأثيرة (عطيل) : إني احتقر الإنسان المطيع الذليل، الذي يحني ركبته استخذاء، ذلك الذي يقضي عمره منكبا على عبوديته، معتزا بذله. إنه أشبه ما يكون بحمار سيده، لا يعيش لشيء سوى العلف". وتجلى أيضا في تفضيل  الشنفرى، أحد الشعراء العرب الصعاليك، أن يأكل التراب عن أن يسأل الناس صدقة، ما عبر عنه في بيت بديع من الشعر يقول: "وأسف تراب الأرض حتى لا يرى ...  على من الطول امرؤ متطول".

وقد أجملت مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي رأى النور عام 1948، النظرة العالمية لكرامة الإنسان، حين نصت على "الاعتراف بكرامة جميع أفراد العائلة الإنسانية، وبحقوقهم المتساوية، وغير القابلة للمساومة"، وحين شددت على أن "جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق"، وهو ما يمثل "أساس الحرية والعدالة والسلم في العالم". وإمعانا في ترسيخ الاهتمام العالمي بالكرامة الإنسانية، نشأ "مشروع الكرامة الإنسانية العالمية" في رحاب المنتدى الاقتصادي العالمي 2020، وهو يرمي إلى العمل من أجل توفير حياة مادية فضلى. 

لكن الكرامة الإنسانية لا تقتصر فقط على توفير حد الكفاية للناس من غذاء وكساء ودواء وإيواء وترفيه، حسبما يقصد هذا المشروع، بل تمتد إلى تحرير الإنسان من الخوف، وصيانته ضد كل أصناف القهر والإذلال، وإقرار حقوقه السياسية والاجتماعية والروحية، وكل ما يجعله يحيا عزيزا مهابا. 

فالكرامة تعني أن "الإنسان فوق كل ثمن"، أي لا يمكن بيعه بأي سعر. فكل ما له ثمن سلعة أو وسيلة، والإنسان ليس سلعة تباع وتشتري، وليس وسيلة إلى أي شيء، إنما هو غاية متفردة. وما كان يجري أيام العبودية والرق كان يخرج الإنسان من آدميته، ويجور على كرامته، ولذا حرمته الأديان السماوية، والمذاهب الفلسفية المنصفة، والقوانين والقواعد الدولية الحديثة والمعاصرة لحقوق الإنسان. كما أن تشيؤ الإنسان وتنميطه في ظل توحش الرأسمالية، وضخامة أسواقها، ومحاولتها تسليع أي شيء وأي قيمة، يجرح الكرامة الإنسانية، ولذا يواجه هذا المسلك الخاطئ صدا وردا، ونقدا وجرحا، من قبل الأديان التي تدافع عن كرامة البشر، والجماعات والتنظيمات المناهضة للعولمة، والفلسفات الإنسانية، والنزعات الروحانية، التي راحت تنتفض ضد تسليع الإنسان، أو تحويله إلى آلة، أو مجرد رقم في حساب لا ينتهي. 

لكن البشرية عانت طيلة عهود طويلة من انتشار أفكار وتصورات نالت من الكرامة الإنسانية بطريقة جارحة وقاسية على خلفيات أيديولوجية مستمدة من أديان أو مذاهب أو أعراق أو أيديولوجيات متطرفة. وقد وصل انتهاك الكرامة مداه مع من يؤمنون بحتميات أيديولوجية لأسباب بيولوجية، مثل النازيين والفاشيين الذين زعموا أن عرقهم أرقى من بقية الأعراق، وحاولوا أن يقدموا أدلة علمية على هذا تعود إلى التكوين الوراثي الذي تحمله الجينات، مما لا يقبل التغيير. ولا تزال هناك رؤى وتصورات عنصرية تحط من شأن البعض على خلفيات الانتماءات الأولية أو الطبيعية، لكن البشر يكافحون على الدوام من أجل إنهاء هذه المشاعر وتلك السلوكيات البغيضة. 
وعلى وجه العموم فإننا لا يمكن أن نطرح مسألة الكرامة الإنسانية بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي يحيط بالفرد، ويعمل فيه. فاحترام هذه الكرامة أو انتهاكها يعتمد في جانب كبير منه على القواعد العامة المرعية للسلوك في أي مجتمع. ولا يمكن فصل ما تحمله الجماعة من قيم وما يبدر عنها من تصرف عن الوضع السياسي القائم، وذلك من منطلق أن السلطة يجب عليها أن تحرس الفضائل الاجتماعية وتعمل بجد على مقاومة الرذائل، أو الحد منها عبر توظيف القانون، وتشجيع الخطاب الديني الذي يحض على الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي.

إلا أن رشد السلطة وعقلانيتها ليس هو العامل الوحيد المسؤول عن حفظ كرامة الأشخاص، فالجماعة نفسها عليها واجب كبير في هذا الشأن. فقبل أن يكون هناك احترام لحقوق الأشخاص، يجب أن يتوافر حس بالترابط الاجتماعي مع هؤلاء الذين نعترف بحقوقهم، ونؤمن بضرورة أن يعيشوا حياة تليق بآدميتهم، باعتبارهم بشر مثلنا. وهنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات المعنية بحقوق الإنسان لتساند شروط الاحترام الفعال للحقوق الإنسانية. 
ولا يكتفي البشر بعيش الحياة، لكنهم يجدون أنفسهم في حاجة ماسة إلى تقييم وجودهم، وتحديد ما إذا كانوا يحيون حياة كريمة أم حياة بشعة رخيصة، وهم دوما يسعون إلى الحكم على قيمة الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، والغايات العريضة الكامنة وراء ما ينهضون به من أفعال. ويريد البشر دوما معرفة ما إذا كان مسلكهم حسنا أم رديئا، منصفا أم ظالما، معقولا أم ينطوي على حماقة وجنون، لأنهم يريدون تبرئة ساحتهم في نظر أنفسهم أولا، ويتيقنوا من أن أسلوب المعيشة الذي اختاروه، يتصف بالخيرية، ويتم على أساس صائب أخلاقيا.

ويقود الشعور بالكرامة إلى ميلاد اتجاهات وقيم سياسية إيجابية، لا غنى عنها لأي مشروع وطني يقوم على الممانعة والمقاومة. فهذه القيم وتلك الاتجاهات والتوجهات تحصن الإنسان نفسيا وعقليا ضد العناصر التي تعمل على تآكل روحه وتداعي قدرته على الصمود، وهي تسهم بطريقة جلية وملموسة في صنع الإطار العام الذي يحكم نظرة الإنسان إلى الأمور، وحكمه على المواقف والأحداث والشخصيات والأفكار. وكلما كان هذا الإطار متماسكا منيعا، تضاعفت إمكانيات التصدي لـ"الآخر المٌعادي"، سواء كان العدوان متجسدا في جيوش وعروش، أو متمثلا في أفكار ورؤى، أو متضمنا في استراتيجيات وخطط وحيل ومكائد. 

وأول الاتجاهات التي يصنعها شعور الإنسان بالكرامة هي حيازته "الاقتدار السياسي"، الذي يبدأ بتقدير الذات Self Esteem ، وهو يقوم  على حكم الفرد على أهميته الشخصية، فإن رفع من قدرها، واعتز بها، امتلأ شعورا بأهميته، وجدارته بالاحترام والتقدير، وامتلأ ثقة في صحة أفكاره وميوله. وعلى العكس من ذلك فهو أن أبخس نفسه، وحط من منزلتها، فسيتضاءل شعوره بقيمة شخصية، وسيصاب بإحساس بأن الآخرين يلفظونه، وأنه عاجز عن فعل ما يريد. والحاجة إلى التقدير تشير إلى معنيين رئيسيين الأول هو الحاجة إلى القوة والإنجاز والكفاية والتمكن، والثاني هو الحاجة إلى السمعة والمكانة والشهرة والفخر والأهمية، فإن أشبع الإنسان هذه الحاجات امتلك الشعور بالثقة، وأحس بأن له قيمة في الحياة، وليس مجرد رقم في طابور طويل لا ينتهي، أو عالة على الدنيا.

وحيازة الاقتدار والثقة السياسية تؤدي بالإنسان إلى "المشاركة السياسية"، أي انخراطه في الأنشطة التطوعية التي يهتم بها مجتمعه المتعلقة باختيار الحكام، وصياغة السياسة العامة، وذلك ابتداء من البحث عن المعلومات، والمساهمة في الجدل العام القائم، وانتهاء بالانخراط في حزب أو تيار سياسي معين أو الترشح للانتخابات، مرورا بحضور الاجتماعات والتبرع بالمال، والتواصل مع الشخصيات السياسية، والمشاركة في الحملات الانتخابية. وهذا الصنف من المشاركة له خصائص تتمثل في "الفعل"  الذي يعني حركة الجماعة حيال تحقيق أهدافها ومقاصدها العامة، و"التطوع" الذي ينجم عن شعور الفرد بالمسؤولية الاجتماعية تجاه هذه الأهداف، و"الاختيار" الذي يضمن للفرد أن يساند الفريق السياسي الذي يحقق مصالحه، وصالح الوطن.
 وتعد المشاركة على هذا النحو نوعا من "المقاومة الإيجابية" لأنها تصب في التيار العام الذي يرفض الاستبداد، من خلال التمسك بمباشرة الحقوق السياسية. والفرد المشارك إيجابيا، أو المنتمي، يكون متهيئا للانخراط في صفوف المقاومة والدفاع عن الوطن، إن تعرض لغزو أو اعتداء خارجي.

أما ثاني هذا الاتجاهات فتتمثل فيما يؤديه الشعور بالكرامة إلى نزوع الفرد نحو التحرر والحرية، فالكفاح من أجل الكرامة يشترك في كثير من الجوانب مع النضال من أجل الحرية. وإعلاء قيمة الحرية يقود الفرد إلى مقاومة التسلط، فالإنسان المقهور يسعى لحل مأزقه الوجودي والتخفف من انعدام الشعور بالأمن، والتبخيس الذاتي الذي يلحق به، جراء وضعية الرضوخ، عبر التماهي بالمتسلط والذوبان في عالمه ونظامه، وتمثل عدوانيته وطغيانه ونمط حياته وقيمه المعيشية، ورفع مكانته، وتثمين كل ما يمت إليه بصلة، وذلك في ظل هروب واسع من الذات، وتنكر فاضح لها، وتهرب من الجماعة، وتنصل من الانتماء إليها.

فالمقاتل الذي يحمل السلاح قد يتردى من النضال إلى ممارسة ما كان يقوم به المتسلطون عليه، وبدلا من أن يعامل الناس بروح الأخوة، ويرى نفسه حارسا أمينا على حريتهم واستقلالهم، يتعالى عليهم، ويتباهى مختالا باستعراض قوته، متمسكا بالمظاهر، بشكل يتنافى مع الروح النضالية الحقة، التي تفرض على المقاوم أن يتطامن ويتواضع حيال الجماهير. 

وكما يقول سكينز في كتابه "تكنولوجيا السلوك الإنساني"، فشيوع التماهي بالمتسلط سلوكيا ونفسيا عند المقاتلين والمسلحين، يحمل أشد الأخطار على عملية التغيير والتحرير. فبدلا من تقويض العلاقات السابقة (السيد والتابع ـ المتسلط والراضخ) وإخلال الإخاء محلها، نلاحظ بروزا لسادة جدد، ومتسلطين جدد، يشتطون بقدر حاجتهم للتعويض عن دونيتهم المزمنة.. وإذا بالممارسة المسلحة تتعرض للتزييف والتحوير والوقوع فيما قامت أصلا لتغييره.
وحين يصل المقاوم إلى الحد الذي يمارس فيه نوعا من "السادية" على من محيطه الاجتماعي، يكون قد انزلق إلى الضعف الكامل. وكما يقول أريك فروم: "ليست الشهوة للقوة كامنة في الاقتدار، بل في الضعف، إنها عجز النفس الفردية عن أن تطيق الوحدة، وتظل حية. إنها المحاولة اليائسة لكسب اقتدار ثانوي، حيث ينقص الاقتدار الأصيل".

والنزوع إلى الحرية، القائم على الشعور بالكرامة، يحمي المقاوم من الوقوع في فخ التسلط على الناس، والانزلاق إلى أعمال وممارسات استعراضية. فالكريم يحترم الآخرين، عن اقتناع بأن هذا هو المسلك الصائب في الحياة، وعن رغبة في أن يقابل منهم باحترام شديد، لأن الإهانة في نظره أقسى من أن يتحملها، وإن جرت وتكررت فهي تمس كيانه ووجوده، وهو أمر فوق طاقة المقاوم والمناضل الحقيقي. 

وثالث هذه الاتجاهات يتمثل في إعلاء الممتلئ شعورا بالكرامة للوجود الإنساني أو "الكينونة"، مفضلا إياها عن التملك، الذي يدور حول الغرائز، التي إن انصاع الإنسان لها، ورضخ لإلحاحها، صار أقرب إلى الحيوان. أما الكينونة فتسلك طريقا مختلفة، تتعبد فوق الحاجة إلى الانتماء والتعالي أو التجاوز، والحاجة إلى الارتباط بالجذور والهوية، والحاجة إلى إطار توجيهي، يحكم الفهم والسلوك والميل إلى الكينونة أو الوجود يحمي الإنسان من التردي في الجشع والحسد والعدوان، والانسحاق أمام المادة ومنطق السوق المتوحشة، ويمده بمتعة التجربة المشتركة، والتحلي بالقيم الإنسانية السامية، وهي حالات وأمور غاية في الأهمية والحيوية بالنسبة للمقاوم، الذي يجب أن يكون مستعدا في أي وقت لأن يدفع روحه ثمنا للدفاع عن القضية التي يؤمن بها.
 

وهنا يأتي الاتجاه الرابع الذي يرسبه الشعور بالكرامة في نفس المقاوم وعقله، ألا وهو "الولاء"، الذي يعني الارتباط وعيا وسعيا بمجموع الشعب، والميل إلى ما يتبناه من قيم وأفكار، وما يصبو إليه من أهداف ومصالح. ويعني كذلك الروابط والعواطف المعنوية والقانونية التي تربط الفرد بجماعة أو مؤسسة أو وطن. 

ومثل هذا الشعور يبلغ مكانة من المقاومة تماثل تلك التي يبلغها الدم من حياة الإنسان، فلا مقاومة من دون ولاء، فالمنتمي فقط هو الذي يحوز استعدادا للدفاع عن المعتقدات والمعاني والأفكار التي يؤمن بها، والذود عن الشخصيات الاعتبارية والإنسانية التي يرتبط بها.