الضمير الإنساني يتنفض

فرسان الأدب الإنساني يدافعون عن القدس التي لن تغيب.. أحمد سراج

ذات مصر

لماذا أقولُ الآنَ فقط

كبيرًا في السن، وبآخر قطرة حبر:

إن القوة النووية إسرائيل خطر على السلام العالمي

الهش بطبيعته؟

لأنه ينبغي أن يُقال،

قبل أن يفوت أوان قوله غدًا

وكذلك لأننا نحن - الألمان - مثقلون بما يكفي

يمكن أن نصبح مزوديِن بجريمة

يمكن توقعها، ولهذا قد لا يمكن التكفير

عن اشتراكنا في الذنب ساعتها

بكل الأعذار المعتادة.

منذ كتب جونترجراس الألماني قصيدته هذه، وحالة من الانكشاف تعتري إسرائيل وحلفاءها، هذه القصيدة التي لا تشبه إلا حجر الطفل الفلسطيني في ديسمبر 1987، وصورة الدرة؛ الأب والابن وهما يموتان معًا أعزلين إلا من يد قصيرة لأب يحاول حماية ابنه، وجسم نحيل يختبئ دون جدوى في جبل أبيه الذي لم يعصمه من مطر شمشون القاتل.

كتب جونترجراس هذه القصيدة وألمانيا تُسلم إسرائيل غواصة نووية، معلنًا أنه لا بد من التطهر قبل فوات الأوان، وأن ألمانيا المجبرة كونها مدرانة في محارق هتلر لليهود، ستصبح مزودة بجريمة لا تغتفر، مهما كانت الأعذار.

وها نحن  في قرن عربي – منذ بلفور الإنجليزي - من التخاذل والضعف ختم بسبع سنوات من التيه، وبتراجع دعم القضية الفلسطينية حد الانحسار؛ ثم يجيئ ترامب الوريث الأمريكي لدور المستعمر الحامي؛ ليعلن القدس عاصمة لإسرائيل، وكيل الاستعمار الدائم التي اختار لها هذا المكان ليعزل الساحل العربي عن داخله، وليمنع فيما بعد أي محاولة للوحدة، وليمارس على مهل سياسة التفريق والتهشيم؛ فقبل ثورة 1952 ووفق كتاب المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل كانت هناك تعليمات من وزير الخارجية الأمريكي إلى وزيره المفوض في القاهرة: ""قل لـ"لنحاس" باشا إنني لم أتحدث مطلقًا عن دولة يهودية في فلسطين" وبعد ثورة يناير 2011 بستة أعوام يقوم ترامب بما تراجع عنه رؤساء أمريكا السابقون.

لكن للتاريخ لعبته ولعنته؛ إذ في بدايات ديسمبر 1987م، أعلنت كاميرات العالم موت القضية الفلسطينية وانتصار الجرافات والمدرعات الإسرائيلية، وفي الثامن من ديسمبر، أعلنت الكاميرات ذاتها أن طفلاً فلسطينيًا هزم الجبروت بحجر الانتفاضة؛ لتعود القضية الفلسطينية للصدارة من جديد، ولتتحرك الدبلوماسية الأمريكية لإنقاذ الكيان الصهيوني، عبر سلسلة من المناورات التي تتوج بأوسلو، ولتضع قضية القدس في مفاوضات الحل النهائي الذي كان مزمعًا أن يكون في 1998، ويمد لعام آخر، ثم يختفي وسط سلسلة من الإرباكات ومنها اغتيال قادة حماس الجماهيريين، واقتحام كنيسة المهد برام الله، وتسميم ياسر عرفات، وبينها حروب العراق، وومؤطرة لها بناء الحركات الإرهابية ودعمها وهدمها، لكن القضية لا تفتقد محاميها العادلين، أعني أولئك الكتاب العالميين الذين تنبأوا وقاوموا أدبيًّا وفكريًّا ما يقوم به الكيان الصهيوني ضد القدس خاصة وفلسطين عامة.

وقبل أن أكمل مرافعات المحامين علي أن أوضح أن الفلسطينيين والمدافعين عن حقوقهم اتفقوا هم وأصحاب المشروع الصهيوني على أن القدس هي بؤرة الصراع؛ لذلك فلا تفرقة على الحقيقة بين القدس وفلسطين؛ لأن أول  مستوطنة (يمين موشيه) أقيمت في عام 1850 خارج أسوار المدينة القديمة في منطقة (جورة العناب)، وكانت القدس نقطة انطلاق المشروع البريطاني لتنفيذ وعد بلفور، عام 1921 بإعادة ترسيم حدود البلدة القديمة في القدس وتوسيعها غربًا مسافة سبعة كيلو مترات، لتضم تجمعات المستوطنين اليهود خارج أسوارها (جرى ضم خمسة تجمعات استيطانية يهودية رئيسية في غرب القدس وهي: (جعبات شاؤول، سكنات مونتفيوري، بيت هاكيرم، شكنات هبوععيم، بيت فجان). بقصد تغيير الواقع السكاني فيها،  ليس هذا فحسب سمحت سلطات الاحتلال البريطاني للمتطرفين من المستوطنين اليهود باتخاذ حائط البراق. ومن هنا أيضًا انطلقت ثورة البراق 23 أغسطس 1929، التي أثمرت تشكيل لجنة دولية برئاسة وزير خارجية السويد (أليل لوفغرن)، وعضوية نائب رئيس محكمة العدل الدولية الأسبق السويسري (شارلز بارد)، وبعد التحقيق واستماع اللجنة إلى وجهتي النظر العربية واليهودية، وضعت تقريرًا في العام 1930 قدمته للأمم المتحدة أيدت فيه حق العرب المسلمين، الذي لا شبهة فيه بملكية حائط البراق.

يُكْتَبُ هذا في روسيا 1877 قبل أول مؤتمر لعالمي لبحث المسألة اليهودية – بازل 1897: "لا أستطيع أن أُصدِّقَ صراخَ اليهودِ الذين يدَّعونَ أنهم مضطهدون ومعذبون ومهانون إلى هذا الحد الذي يزعمونه، وفى رأيي أن الفلاح الروسي، بل أي فرد روسي بشكل عام يتحمل من الأعباء أكثر مما يتحمله اليهودي". هكذا يكتب ديستوفسكي مبكرًا في (المٍسألة اليهودية) موضحًا أن مسألة الاضطهاد أكذوبة مقيتة، بل وأنهم حصلوا داخل روسيا على ما يحصل عليه المواطن الروسي، ومع هذا، فيتوسعون للمطالبة بما هو أكثر من حقهم: " أما فيما يتعلق باليهود، فإن الجميع يرون أن حقهم في اختيار مكان الإقامة قد توسع توسعًا كبيرًا في العشرين عامًا المنصرمة، لقد ظهر اليهود على كل حال في روسيا في المناطق التي لم يرهم فيها أحد من قبل، ومع ذلك فإن اليهود ما زالوا يواصلون شكواهم من الحقد والاضطهاد. ولعل قراءة تعليق هيرتزل بعد مقابلة مصطفى كامل (قبل وعد بلفور بعشر سنوات تقريبًا): سليل الفراعنة الذين اضطهدونا يطلب مساعدتي أنا اليهودي" تكشف ما أوضحه ديستوفسكي، نحن أمام مرض استعماري وتمدد سرطاني لا يريد التوقف، مرض يطالب بأشياء ضد سياق المجتمع، أليس هذا من مضامين كتاب "ماركس" المسألة اليهودية الذي كتب في عام 1843، ونشر في 1844، وفيه يتساءل ماركس في عجب: كيف يطالب اليهود بتحسين أوضاعهم بدلاً من دعم المجتمع الذي يعيشون فيه.

إذن فمن من ديستوفسكي (الروسي) إلى توني موريسون (الأمريكي) مرورًا بيوسا (البيروفي) وجونترجراس (الألماني) وجوزيه ساراماجو (البرتغالي)، و"إريش فريد (النمساوي)، وهارولد بنتر (البريطاني)،   وجوستاف لو كليزيو (الفرنسي)، حتى القارة السوداء عند وول سوينكا (النيجيري)، يرفع الكتاب الإنسانيون راية الاعتراض والبطاقة الحمراء لاغتصاب الإنسانية في فلسطين، محطمين ادعاء اليهود بأنهم مضطهدون، وبأنهم متحضرون، وقبل كل شيء أن القدس مركز ديانتهم.

" ليس في إمكان أحد أن يتهمني بأحكام مسبقة ضد اسرائيل، فلقد دافعت دائماً عن إسرائيل. لكنني شاهدت الأمور بأم عيني وشعرت بالاشمئزاز والتمرد على البؤس الفظيع الذي لا يوصف" ظل يوسا معروفًا وموصومًا ومتباهيا بدعم إسرائيل حتى رأى، وحينها أعلن رأيه الصادم له ولليهود وللآلة الإعلامية التي وجدت نفسها أمام مشكلة لا حل لها: "شاهدت القمع لأناس بلا عمل ولا مستقبل ولا مجال حيوي، يعيشون في مغارات ضيقة لا تُطاق في مخيمات اللاجئين أو في المدن المكتظة المغطاة بالقمامة، حيث تسرح الجرذان على مشهد من المارة الصابرين" من هؤلاء أيها الروائي الإنساني: "إنهم الأسر الفلسطينية المحكوم عليها بالعيش، في انتظار الموت، ليضع حداً لوجود بلا أمل، في انعدام كاملٍ لكل ما هو إنساني".

وفي عام 2006 يخرج ثمانية عشر كاتبًا عالميَّا ليوقعوا رسالة للعالم المتحضر كي يتحرك ليوقف الإبادة الإسرائيلية للفلسطينييين، وتكون أبرزهم الكاتبة توني موريسون التي حاربت لأجل إيقاف التفرقة العنصرية بين السود والبيض؛ لتعلن أن إسرائيل: دولة فصل عنصري".

أما شيخ نوبل الإفريقي وول سوينكا؛ فقد أعلن في وضوح: " إن الأرض ليست من وسائل الترف" نعم فالأرض هي الوجود الذي لا يتبقى بعده سوى العدم، ولا ينبغي لإنسان أن يتقاعس عن دعم الفلسطيني بكل الطرق وأهمها مقاطعة إسرائيل "يجب فعل شيء ما، هناك حاجة لأن نُفهم إسرائيل أن سلوكها مرفوض، وعلى العلماء أن يكونوا في طليعة المطالبين بالمقاطعة الثقافية والرياضية والاقتصادية"

في روايته (النجمة التائهة) نحن أمام لوحة فنية كالجرنيكا تمامًا  لكنها هنا تعرض مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وتكشف خداع إسرائيل لليهود في العالم وإيهامهم بأنها أرض الميعاد، وعلى حين تكتشف  إستير الفرنسية اليهودية التي ذهبت إلى بإسرائيل الأكاذيب تعود إلى بلدها فرنسا، فيما تظل نجمة البطلة الفلسطينية تسكن المخيمات. وبهذه الرواية حصل لوكليزيو وسام الكيان الصهيوني: "كاتب مشبوه ومعاد للسامية" مثل ابن بلده روجيه جارودي صاحب (الأساطير المؤسسة) لكن الكاتب يستمر معلنًا في كل تصريح له: "إن الفلسطينيين ستكون لهم دولتهم في