يرى أن الفن قادر على إصلاح ما أفسدته السياسة

عبد الغني داوود فارس المسرح الشعبي: حاولت حماية السيرة الهلالية بصياغتها مسرحيًّا

المسرحي عبد الغني
المسرحي عبد الغني داوود

"رحل عن عالمنا السبت الموافق 14 من يوليو 2024 أحد أعلام المسرح ونقده في مصر، وتنشر ذات مصر هذا الحوار تحية له، رحمه الله"

يتجلى اهتمامه رغم تعدد اهتماماته في الحفاظ على الثقافة الشعبية باعتبارها جذورًا تقي الإنسان من الضياع وتجعله قادرًا على الدفاع عن أمته، يكتب المسرح والنقد ويترجم فكأنها مرايا لوجه واحد، عبد الغني داوود  ( 3 من ديسمبر عام 1939 – 14 من يوليو 2024) لم تجذبه أضواء القاهرة التي انتقل إليها من قاع الدلتا – بحسب وصفه – ولا نجوم السينما التي عمل فيها وإنما ظل منطلقه الفني يحفزه إلى إكماله فهو يبحث عن لغة مسرحية جديدة في محاولة لتأصيل المسرح المصري والعربي، وعن المادة المسرحية الخام في تراثنا العربي...

تلك رحلة وليست حوارًا مع رجل جعل فنه سيفا ومحراثا وفأسًا من أجل ثقافتنا الشعبية، وفيا قد يجد القارئ ما يتعارض مع ما اطمأن إليه من أسطورية أبي زيد مثلاً، أو ازدهار مسرح الستينيات.. وهذا أصل الحوار فهو زيادة ونقصان.. 

القارئ للنصوص المسرحية المعتمدة على السيرة الهلالية يلحظ أولا اعتناءك بالهموم التي تحيط بالإنسان ففي السفيرة عزيزة يتجلى مفهوم الحب في مواجهة الحرب، وفي غريب في بلبيس يبقى الوفاء مواجها للخوف.. أترى أن الفن قادر على إصلاح ما أفسدته السياسة والاقتصاد والحروب؟

المأمول دائما أن الفن قادر على إصلاح ما أفسدته السياسة، لكن على مدار السنوات الماضية فشل الفن في القيام بهذه المهمة الربط بين الشعوب العربية، وحت السيرة الهلالية رغم انتشارها بين العرب فإنها لا تمثل الواقع المعاصر الذي ابتلعته التقنيات الكونية.

الفضل في بقاء السيرة الهلالية مدة كبيرة، وأنها ما تزال تمارس، ولها مستمعوها ولها عشاقها، بسبب شعراء السيرة الهلالين في الوجهين البحري والقبلي.

اسمح  لي، لماذا فشل الفن؟

السياسة التي تفرق ولا توحد، فلدينا انقسامات وتحزبات، وكأننا في عصر القبائل البدائية التي تغير على بعضها البعض، وحب الزعامة والسيطرة على الجيران.. فإذا كان هناك صراع بين الحكام فكيف سيوحد الفن؟  نعم حاول  الفنانون لكن فشلوا.. 

فالسياسة الآن ضد الوحدة العربية، في يوم من الأيام كنا عالمًا عربيا واحدًا، لكن انقسام الدول جعل كل دول قبيلة.. وكل قبيلة تبحث عن سطوة وهيمنة.

خمسة نصوص مسرحية تسبح في بحر السيرة الهلالية المائج.. لماذا ذهبت إلى هناك؟ هل بحثت عن جمهور جاهز؟ أم محتوى قريب؟ ثم ألم تخف من مقارنة مسرحياتك مع السيرة بشعرائها وجمهورها وصورتها الذهنية؟

أولا حمايتها من الانقراض الآن، لكنني كنت في صغري، وأنا من أبناء قاع الدلتا أسهر مع شاعرها حتى الفجر، وأجدها تلبي احتياجاتي، السيرة كانت دائما مهددة بالانقراض، لولا شعراء السيرة يتوارثونها شفاهة، اما أجيالنا فلا تعرف عنها شيئًا، لا تعرف عن أبطالها أبوزيد والزناتي ودياب.

كما كان التعامل مع السيرة نوعا من التخفي وراء قناع فني للتعبير على ما يجري حولنا؛ فقد اكتشفت أن السيرة وأحداثها تنعكس على أحداثنا وظروفنا، إضافة إلى عشقي للغتها وأسلوبها وجمالياتها.

ألم تخف من مقارنة نصوصك بالسيرة؟

لا، إطلاقًا،  مسرحياتي شكل حديث غير السيرة الهلالية القائمة على الشاعر الفرد والحكي والغناء وسرد الفرد، أما أعمالي فهي لغة مسرحية تقوم على تقنيات المسرح التي تتجسد في الشخصيات والاحداث وفي استنباط الدلالات العصرية لأحداث هذه السيرة.

في مسرحيتك "غريب في بلاد المغارب" رسمت صورة متناقضة لخفاجي الفارس من جهة وللهلالية من جهة أخرى؛ فهم إن انتصر حقدوا عليه، وإن انكسر تركوه ينازع الموت وانفضوا لشؤونهم.. هل كان ذلك في السيرة ولهذا أوردته؟ أم أن لك هدفا آخر؟

هذا يعكس الحزازات والبغضاء بين القبائل العربية، فغيرة بني هلال من فروسية عامر جعلت منه ضحية لهذه الشهامة والجرأة والاستبسال ثمنا للدفاع عن بني هلال  وهم رمز لوجه آخر من وجوه العروبة، فهذه الحزازات والأطماع ليست صفة لصيقة بالهلاليين وإنما دلالة على ما يوجد في العرب أنفسهم.

 لماذا أصررت في نصوصك على نزع القداسة عن أبوزيد الهلالي؛ فهو في غريب في بلبيس يرحل تاركا ابن أخته ومن حاولوا مساعدته، وفي الجازية يظهر عاجزا ومهزومًا؟

حاولت أنسنة الملحمة، أي تحويل الأبطال ذوي القدرات الخارقة إلى أشخاص حقيقيين؛ فأبوزيد نبيل وفارس وعاشق للحيلة لكنه بشر يمتلك مخاوف البشر، حتى امتلاكه لجراب الحيلة يرمز لحالة الوعي؛ وفي مسرحياتي دائما ينهزم أبو زيد أمام الواقع المرير، هو صوت العقل لهذه الأمة الضائعة المتشرذمة.

هناك مقارنة موجعة في غريب في بلبيس، فهو يقول لهم إنه شاعر معتقدًا أنهم سيسارعون إلى إكرامه، لكنه يكتشف أن التاجر يلزمه بدفع المال مقابل العيش الموزون.. لكل رأي وجاهته منطق العرب في صحاريهم ومنطق المصريين في مدنهم.. فما وراء هذه المقارنة؟

"بلد تبيع العيش بالميزان والمش في الفنجان" بهذا عبر الهلالي عن استغرابه لما لاقاه في بلبيس.. لكن هنا ليست المدنية أن يبخل أهل بلبيس على شعراء جوالين بالزاد وهنا استشاط أبو زيد غضبا فهو لا يتصور أن توجد في الدنيا هذه الحالة، هو بحث عن المثل والأخلاقيات.. المشكلة ليست التخلف في مواجهة التحضر.. بل مشكلة المثل.

لكنه بدا كأراجوز فلم صورته هكذا؟

السياق صوره كذلك، صوره كدون كيشوت، فقد اكتشف أنه في بلد جبان، وقد كتبته في الستينيات إسقاطًا على شعوب لا تعرف للشهامة ولا للرجولة معنى، وأن هذه البلد كلها منساقة كالعبيد؛ عبيد الروح، لذلك أحس أبوزيد أنه أمام عبيد.

المرأة في مسرحك دور فاعل وقد تكون بطلاً أساسيا.. وهذا موجود في الثقافة الشعبية فهل وصلت لدور المرأة من ثقافتك الشعبية أو من مصدر آخر؟

السيرة الهلالية مليئة بالشخصيات النسائية منذ ديوان المواليد "خضرة الشريفة – ناعسة العجاجية – الجازية، والجازية شديدة الجمال وشديدة الذكاء وواسعة الحيلة، وحاولت تخليص القبائل في تغريبتهم من مآزق كثيرة، ولها هيبة الرئاسة والزعامة؛ فقد كان لها ثلث الشورى.

ولا أعرف هل هناك علاقة بين العمود المثبت في الأرض الذي تلف حوله دائرة الساقية وبين بطلة السيرة الهلالية؟ هذا العمود يشبه العمود الفقري للإنسان، ويسميه الفلاحون الجازية. حتى شخصيات تونس؛ فسعدى أشبه بالمتنبئة وهي مشيرة على أبيها الزناتي، وحين تحكي لأبيها حلمها بمقتله فهي تصور شيئًا بديعًا ببراعة.

ألا ترى أن السيرة الهلالية ظلمت نساء تونس فجعلتهن مطيعات للقلب على حساب الواجب؛ فعزيزة لخاطر حبها ليونس تسعى لتحريره، وسعدى لحبها لمرعي تفعل ما هو أكثر، وتهرب الترياق لأبي زيد.. فيما نجد الجازية تغلب الواجب فتترك زوجها وبنيها؟

الجازية امرأة تغلب الواجب مهما فعلت ودليلك أنها غازلت بواب تونس بما هو أقرب لأسلوب الغوازي، أما نساء تونس فهو عشق إنساني لا فكاك منه، أما في مسرحي فقد أضفت خيانة عزيزة بالذهاب إلى مضارب الهلالية.. لكن الحقيقة أن نساء تونس لسن لاهيات، ومسألة الحب لم تكن مقصورة على النساء بل هناك العلام الذي كان يتمنى الزواج من عزيزة وأبوها الذي منعها من الزواج وحاول الزواج منها.

"كأنك يا أبوزيد لا رحت ولاجيت" هكذا يقول المثل الشعبي.. وانت في نصك تبينه على أنه صوت ضائع في الخلاء فهل رأيته صوت العرب؟

ليس أبو زيد فقط، بل الزناتي وإن كان على مستوى أضيق؛ فأبوزيد رمز للوعي رمز للمستقبل، ويكاد هو والزناتي يكملان صورة العربي؛ فأحدهما يهاجم ومعه مجموعة من الطامعين الذين تحركهم الأطماع، والزناتي يدافع ومن حوله منخذلون.. لهذا هزم كلاهما.

كسرت السيرة الهلالية إلى قصص كما جرى مع الإلياذة والأديسا فلم لم يكن للزناتي نص.. ألانه بطل ضد.. هل خفت من الثقافة الشعبية؟

الزناتي لم يكن بطل ضد، والسيرة قدمته بوصفه بطلا عظيمًا، وقد بين ذلك الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي.. ولم أقم عمل مسرحية لأنه كان حاضرًا بشكل دائم في كل نصوصي، وإن كان بشكل ظالم في غريب في بلبيس. 

بأمانة كان خارج مشروعي أن أفرد له نصًّا، رغم أنه كان بطلا تراجيديًّا بامتياز.. لأنني كنت مهمومًا بقضايا أكبر  في وقتها.

قمت بعملين يبدوان متعارضين، فقد تعاملت مع السيرة الشعبية، ثم ذهبت إلى التاريخ الرسمي لثورة عرابي ولمعركة دير الجماجم.. فلماذا؟

في هاتين المسرحتين لم يعنني سوى الإنسان الشعبي البسيط؛ واعتمدت على السيرة المحكية؛ ففي اللعنة من فوق المنبر كان عبدالله المواطن البسيط، المولود في مكان فقير جدا وما يجري له  فهو خادم، وويله وهمه أنه لا حيلة له في هذا الصراع وليس ما جرى بين الحجاج بين يوسف وعبدالرحمن بن الأشعث وسعيد بن جبير، وفي نص "هوجة عرابي وخيانة الولس"  الحاضر هو المواطن العادي، وليس الزعيم والضابط ذا الرتبة الكبيرة.. هذا ما يعنيني الخواء الذي ينجم عن غياب دور الإنسان البسيط الذي يدفع الثمن دون أي جريمة.

مع ما يجري الآن هل تنهار فكرة المخلص الأوحد؟

أولا هي فكرة باطلة حتى في السيرة الهلالية؛ فأبوزيد إنسان عادي يخطئ ويصيب، وقد انتشرت هذه الفكرة في مسرح الستينيات وهي فكرة تجلب الهزيمة وتكرس للقمع فالانتصار بالجمع وليس بالفرد؛ لذلك فيجب أن تنهار.

انتصارك للجماعة الشعبية جاء في عدة مناحي منها كتاب "حفريات في المادة المسرحية الخام" والثاني: "كتابك عن بيرم التونسي والثالث كتاباك عن الأداء السياسي.. فكيف يمكن تفسير هذا؟

كل النماذج التي تعاملت معها هي نماذج تطبيقية لنصوص وعروض عربية أغلبها قائم على موضوعات شعبية ذات جذور عربية، ومن هنا كان اهتمامي بالسير الشعبية وهي عشرات السير.

أما بيرم التونسي فهو ملهم كبير لي؛ فقد استطعت أن أستشف لغة بين جماليات العربية وجماليات العامية، وكانت محاولتي لامتلاك هذه اللغة. أما كتابي "بيرم التونسي شاعر الشعب" فاهتمامه بالشعب في كل نصوصه الشعرية والمسرحية والأوبريتات، إضافة إلى أنه ممثل للهوية العربية بشكل كامل، أعني هنا التماسك والتجانس لا القومية العربية وهي فكرة يمكن أن تكون مصنوعة ويمكن أن تكون استعمارية، أما الوحدة العربية وعدم التشرذم هو الخط الأساسي.

عشت ارتباط الجمهور المصري بالسرح حد التعلق في الستينيات، وعشت إحجامه حتى التجاهل الفترات الماضية.. ما أسباب هذا وذاك؟

أنا متشكك تماما مسرح الستينيات وإقبال الناس عليه أكذوبة، وهذا ما بينته في كتابي الأداء السياسي في مسرح الستينيات،  فمسرح الستينيات كان بوقًا للدولة وكان يعمل لتبرير شعاراتها وأفعالها

لكن السلطان الحائر ومأساة الحلاج.. كيف يمكن تبرير اصطدامهما؟

اصطدام بعيد وفلسفي أو صوفي؛ ففي السلطان الحائر يعود السلطان إلى ملكه الذي لم يغادره حقيقة على يد وفي مأساة الحلاج هناك بطانة فاسدة وسلطان غائب.

متى كان الازدهار الحقيقي إذن؟

الازدهار الحقيقي كان في الأربعينيات الفرق فيها حرية مثل الريحاني ورمسيس والكسار ، والناس تذهب من أجل المسرح الحقيقي، كانت في الفرق الشعبية قبل ذلك فرقة الريحاني، والفرقة القومية (المسرح القومي) كانت 1935 ترعاه الدولة ولا تتدخل فيها، وأنشئت فرق لرواد المسرح مثل فرقتي زكي طليمات "المسرح الحديث" الفرقة المصرية الحديثة" وكانت تقدم كل أشكال المسرح.. مع تبني الدولة المسرح ليكون بوقًا لها، فكان الدخول بثمن رخيص لكن الحصاد لا شيء.

ما يزال المسرح وارثًا لنظام الدولة؛ فمن يدخل دهاليزها ويقترب منها تعرض مسرحياته، لذلك تقدم مسرحيات وتنتهي دون أن يسمع عنها أحد، وهي نصوص مصنعة ومفبركة.

روشتة العلاج أن يتحرر المسرح من المنظومة التي تمسك بتلابيبه وتتحكم فيه، مع منع الهبوط بالباراشوت والمجاملات والمحسوبيات.

الثقافة الشعبية مهمة جدا. فكيف يمكن الحفاظ عليها من خلال تجربتك العريضة؟

هذه هي أصول أي شعب وجذوره؛ لأن الشعوب التي لا تملك ثقافة شعبية هي شعوب هائمة وضائعة. مثل الأجيال الموجودة الآن وهذا له خطر أن يصبح الشخص مجوفًا بلا ملامح.. سهل الاختراق.. سهل الوقوع في أي أخطاء.

ورغم وجود المراكز الحكومية فإنها فشلت، والحل في تضامن المثقفين لحماية هذا الوعي، وترويج الاهتمام بهذا التراث الشعبي ليكون على كل لسان، وفي كل مكان.