هشام الحمامي يكتب: «كلمة الرجل.. شرف الرجل» (من دار بن لقمان لأردوغان)

ذات مصر

يقولون إن الشرف والمنفعة لا يجتمعان في كيس واحد، وكثيرون للأسف في هذا العالم يريدون أن يكونوا شرفاء ونصابين في نفس الوقت. لكن الرئيس التركي رجب أردوغان ليس كذلك فيما نظن؛ هو أحد أكثر الرؤساء المعاصرين إدراكًا ومعرفة وفهمًا لتعقيدات السياسة الدولية، وارتباطها الوثيق بالاقتصاد والمصالح المباشرة للشعوب، وأيضًا، وهو الأهم: ارتباطها الأوثق بالتاريخ.

السياسة والمصالح متغيرة كالليل والنهار، لكن التاريخ ثابت لا يتغير؛ في مجراه ومسراه هو الأمس الذي صنع اليوم، وهو الغد الذي سيأتي من الاثنين.

وإذا رجعنا بنهر التاريخ الحديث والمعاصر (ما حدث وكان زمنه قريبًا وأيضًا الذي ما زلنا نعيش أحداثه حتى الآن)، إذا رجعنا إلى منابعه التي كونته، ونظرنا إلى عالم الشرق والغرب ودنيا السياسات الدولية المعقدة ومصالحها، سنجد أننا لا زلنا في بدايات القرن الـ19!!! حيث أوروبا وروسيا تتصارعان على "عالم الإسلام"... نعم.

وهذه حقيقة الحقائق التي لا مفر من الإقرار بها.. ولذلك أسباب عميقة وقديمة، ومن أراد المزيد في ذلك يعود إلى كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" للعلامة علي عزت بيغوفيتش رحمه الله.

وقد رأينا فرنسا كيف عبرت عن أعماق مكنوناتها في هذه العلاقة، وهي تعلم أن المقصود بكل ما قدمت به نفسها للعالم كله من خلال افتتاح الأولمبياد هو "الشرق"، مهد السيد المسيح ورسالة الإسلام إلى العالم.. الذي ما زال يجسد كل معاني الرحمة والحب والغفران بحضوره الحي في ثقافة الإسلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).

وهو الشرق الذي يهتز العالم كله الآن ليعرف ما هو هذا "الإيمان" الذي أخرج وأنتج هؤلاء "الأبطال" في الأنفاق، وهؤلاء الصابرين الصامدين... أهل الأنوار في المخيمات والملاجئ في ثبات ورباط لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث.

صدق بالفعل من قال: إذا عطست فرنسا فإن أوروبا تصاب بالزكام. لا، الأمر يبدو أكثر من عطسة، وأكثر من زكام...

الموضوع داخل في جلطات رئوية حادة ومزمنة، وارتشاح رئوي، وفشل تنفسي، وفشل احتقاني في القلب... إلخ، والعهدة في ذلك طبيًا وفكريًا أيضًا على الأستاذ الدكتور عبد المتعال فودة، أحد أروع وأجمل وجوه مصر في الطب، فهمًا وتعليمًا.

وهو على ما يبدو حفيد رجالات المنصورة العظام الذين سحبوا لويس التاسع من (قفاه) وأودعوه دار بن لقمان (1250م).

وعلى قدر ما كان عليه "بن لقمان" من طهر وشجاعة، كانت تعكس وجه مصر كلها في هذا التوقيت رغم ما كان، على قدر ما كان عليه "لويس التاسع" من نجاسة ونذالة وخيبة، كانت تعكس كل قاذورات الحالة الفرنسية التي اشتهرت بالعطور الصارخة لأسباب تتعلق بالروائح النتنة.

وأيضًا، وبالنذالة والخيبة تاريخًا وسلوكًا وأفعالًا مخزية للبشر، سواء حين هربوا من هتلر في الأربعينيات وتركوا له باريسهم بكل ما فيها من قصور ومتاحف، أو حين فعلوا ما فعلوه في أفريقيا طوال القرون الخمسة السابقة، أو حتى حين قدموا ما قدموه في افتتاح الأولمبياد من كفر بواح واستهزاء بالدين والمتدينين في كل دين.

ويبدو أنه بالفعل: (كما بدأت ستبقى...) كما قال لنا عالم الجينات الراحل شارجاف إيروين (ت2002م)، وترجمها لنا العالم الراحل د/ أحمد مستجير رحمه الله.

لكن هذا في الحقيقة يختلف تمامًا مع ما نؤمن به ونعتقده، في أرقى وأعظم صفات الإنسان (مخلوق الله المختار)، بوصف أستاذنا الكبير فهمي هويدي حفظه الله...

الإنسان الذي يمتلك أهم ضرورة من ضرورات وجوده وهي "الإرادة الحرة".

وعودة إلى الرئيس أردوغان، الذي قال في تصريح له ما يشير إلى احتمال تدخله في غزة ضد إسرائيل كما تدخل في أذربيجان وليبيا.

قد يكون ذلك محصلة لقائه من عدة أيام قليلة مع المفكر والفيلسوف الكبير صاحب "روح الدين... من ضيق العلمانية إلى سعة الأمانة" الدكتور طه عبد الرحمن.

ولماذا لا؟ وهو أحد أهم المفكرين العالميين الكبار الذين يعلنون التحدي لمواجهة حالة "تسفل الإنسان"، التي بلغت ذروتها فيما يحدث في غزة من مذابح الليل والنهار وعلى مرأى من كل البشر.

الحاصل أن الرئيس أردوغان قال تلك التصريحات المهمة للغاية، والمنطقة بأكملها قد تنفجر فيها الأوضاع يومًا ما، بل في ساعة ما... وقال نصًا: كما دخلنا قره باغ وليبيا، يمكننا فعل الشيء نفسه مع هؤلاء (يقصد إسرائيل). فلا يوجد شيء يمنع ذلك، فقط علينا أن نكون أقوياء حتى نقدم على هذه الخطوات.

قد يكون ما قاله حزنا وأسفًا وكمداً على هزيمة "الحامية العثمانية" للقدس حين دخلها اللورد اللنبي سنة 1917م، وأن هناك بعض المسؤولية التاريخية تقع على عاتق من يحمل إرثهم وامتدادهم.

لكن الحاصل أن المنطقة بأكملها حرفيًا عرضة لأن تنفجر فيها الأوضاع ساعة ما، وذلك ليس ببعيد أبداً. خذ تصريحات أردوغان وضعها في أي سياق، وقسها على أي مسطرة، وسترى أن النار بالفعل على الأعتاب... وهو إن شاء الله ما قد يحدث قريبًا جدًا... كيف ومتى؟ هذا هو ما لا يعلمه إلا الله وحده، ثم من يشاء من أوليائه الصالحين، الذين قاموا بما لم تقم به جيوش العرب مجتمعة ومنفردة على مدار سبعين سنة...

كل ما بين أيدينا من مقدمات ودلالات يقول أن ذلك قد يحدث... بكل حسابات الواقع المجرد قد يحدث... بحسابات أهل الاستراتيجيات والمستقبليات قد يحدث... بحسابات أهل الإشراق والأنوار... إن شاء الله سيحدث.

وزير خارجية إسرائيل (كاتس)، الروماني الأصل وصاحب فكرة إنشاء جزيرة صناعية أمام سواحل غزة وتهجير الفلسطينيين إليها!!! نعم، قال هذا بعد 7 أكتوبر.

قال تعليقًا على ما صرح به الرئيس التركي: إن أردوغان يسير على خطى صدام حسين وعليه أن يتذكر كيف انتهى الأمر...

يا نهار باباك أبيض! أنت لا زلت تعيش في زمن دحلان والرجوب وعبده السروجى (غريب الدار على احتار...)!

بتهدد أردوغان بمصير صدام حسين؟ صدام مين يا أبو صدام؟ أنت الآن في "الساعة الخامسة والعشرين"، على اسم الرواية الجميلة التي كتبها أحد أجدادك الرومانيين سنة 1949م (قسطنطين جورجيو)، رواية الخوف والوداع كما يقولون...

ألا تعلم يا كاتس أنك تعيش الآن زمن "القسام"... زمن "المسافة صفر" زمن "ولعت وفجًر... فجًر"... زمن المقاوم البطل الذي يقول: "زهقنا آليات، نريد أفرادًا فقط"... زمن "الشهيد" وأهل الشهيد الذين يقولون ويصدحون كل ساعة وكل يوم في غزة: "إنا إلى الله راغبون".

قد يصدق الرئيس أردوغان في كلمته التي قالها وهو يعلم جيدًا ما تعنيه وإلى ما تشير، وكيف سيستقبلها أصدقاؤه في الناتو وفي روسيا والصين أيضًا، ولن نقول يكفيه أنه قالها.

لكن الموقف من 7 أكتوبر تجاوز الجميع، وهو يسير في طريقه الذي يراه الله ويرعاه... طريق "البطل" الذي يحمل روحه ومدفعه في يده، قدمه على الأرض، وقلبه في السماء، ويطيح بكل الأساطير الكاذبة التي أسس لها النظام العربي طويلاً.

ليس هذا فقط، بل يعلنها للدنيا كلها كل يوم: "أليس الله بكاف عبده".