خالد طه يكتب: تحركات دولة غنية.. الذراع الطويل واستراتيجية تحريك القطع

ذات مصر

في 13 يوليو المنصرم، أعلنت "جمهورية جنوب السودان" مصادقتها على اتفاقية عنتبي الخاصة بشأن تحديث وتنظيم إدارة مياه النيل، في تطور له نتائج هامة بمنطقة حوض النيل،  ويعتبر مؤشرا اول إلى أن "اتفاقية عنتبي" الموقعة في 14 مايو 2010، والمعروفة أيضا باسم (اتفاقية الإطار التعاوني) قد دخلت حيز التنفيذ الذي ظل مقيدا منذ العام 2010 - حين كان جنوب السودان جزءا من السودان الكبير- ذلك التقييد كان بشرط مصادقة ستة دول على الأقل من أصل إحدى عشر دولة معنية بالاتفاقية الموضوعة في مدينة "عنتبي" الأوغندية، بغرض تحديد قواعد جديدة لإدارة موارد المياه المشتركة، وتحسين (التوزيع العادل) للمياه وتعزيز التعاون في مشاريع التنمية وضمان الاستفادة المستدامة، وإلغاء الاتفاقيات السابقة، وهو البند الذي دفع السودان ومصر لرفض الاتفاقية برمتها بحساب أنها تنطوي على إنقاص جزءا مؤثرا من حصة البلدين في مياه النيل ولا تراعي الاستخدامات الحالية، ولم تتضمن محددات لقياس الضرر .

*النصف + 1*

مصادقة جنوب السودان الان، تكمل نصاب الأغلبية البسيطة، وتنهي موقف جوبا محدود الأثر في النقاشات حول "اتفاقية عنتبي" فمنذ إعلان استقلال جنوب السودان في 9 يوليو 2011، لم يتبلور لجوبا موقفا واضحا بشأن قضايا الموارد المائية، ربما لأن الدولة حديثة الاستقلال كانت تعتمد على الترتيبات والاتفاقيات السابقة، والتعاون مع السودان ومصر،  التي كان جنوب السودان جزءا من كليهما في حقب قريبة.          

*دفع و رفض*

دون الخوض في تقييم تفصيلي للاتفاقية، و رغم الفوائد المحتملة من زاوية نظر "جوبا" والمتمثلة في (تعزيز التعاون الإقليمي، وضمان استخدامات المياه، وتحقيق الاستقرار المائي، وفتح المجال أمام المشاريع التنموية)  تواجه مصادقة جنوب السودان  على الاتفاقية تحديات تشمل : التنسيق مع الدول الأخرى في حوض النيل، وتستوجب التفاوض حول التفاصيل، مع وضع ترتيبات درء الاثار  المتوقعة على بعض دول الحوض -مصر مثلا فهي قلقة بشأن تأثر ما تعتبره (حقوق تاريخية) في مياه النيل والسودان الذي بالإضافة إلى تأثر حصته من المياه فهو أيضا لا يقر أن تستغل ظروف الحرب التي يمر بها في فرض سياسات الأمر الواقع- هذا الرفض يملي على جوبا القيام بجهود دبلوماسية إضافية تعفيها من ردود الفعل.

*معادلة جوبا*

في جنوب السودان شهدت عملية المصادقة على "اتفاقية عنتبي" أجواء سياسية معقدة بسبب للظروف المحلية والإقليمية، كانت حكومة جوبا تسعى لتطوير علاقاتها الدولية وترقية دورها في الشؤون الإقليمية، بما في ذلك إدارة المياه، وظلت تعاني من ضغوط إقليمية من إثيوبيا وأوغندا وكينيا، التي دفعت نحو توقيع الاتفاقية لرفع حصتها في مياه النيل، وتأكيد تحكمها في الموارد المائية، وكان لجنوب السودان دوره في هذا السياق، بالسعي للانضمام لتلك الكتلة وتعزيز علاقاته مع الدول المحيطة به جنوبا وشرقا، لكنه ظل لنحو أربعة عشر عاما يلوح بذلك دون الاقدام على القيام بخطوة عملية، وذلك بسبب وتأثير تحفظات قوية لدى الخرطوم والقاهرة، وبحكم ضرورة موازنة علاقاته شمالا، بالإضافة الى عوامل الدفع الداخلية.          

في البداية كان تركيز حكومة سلفا كير، موجه نحو تحقيق قدرا من الاستقرار الداخلي، وتعزيز قدراتها على إدارة الموارد الطبيعية، عبر اتخاذ خطوات تؤكد "استقلال سياساتها" وتمتين "سيادتها" في قضايا حيوية مثل المياه، لذا يمكن ان تعد مصادقة "جوبا"  هذه تعبيراً عن رغبة في تأكيد استقلالها وتعزيز علاقاتها مع بعض دول الجوار، وبناء لسياساتها الخارجية، وتعاملا مع تحديات داخلية في ذات الوقت.

*توقيت مصر*

فيما رحبت اثيوبيا بمصادقة جنوب السودان على الاتفاق المؤجل التنفيذ، واعتبرته (إنجازا تاريخيا) لم يصدر عن مصر والسودان تعليقات رسمية على خطوات التقدم نحو تطبيق الاتفاقية التي يعارضها البلدان بقوة لأنها تؤثر على حصصهما من مياه النيل، وصعوبة التأثير في القرار لان الاتفاقية ثبتت آلية التصويت لاعتماد القرارات، بالرغم من أن دول حوض النيل مصنفة لمجموعتين قد تتقاطع المصالح في أي منها(دول منابع ودول معبرا ومصب) لكن الواضح ان الاتفاق غير ملزم لدولتي العبور والمصب، وأن الموضوع كلها سيأخذ طريقه إلى قنوات الأمم المتحدة ذات الصلة.    

بخصوص مصادقة جوبا، عبر عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عن ان مصر كانت تستبعد مصادقة جنوب السودان، التي كان يمكنها ان توقع فقط مثل ما فعلت "كينيا" التي  سبقت جنوب السودان بالتوقيع على "اتفاقية عنتبي" لكنها لم تصادق عليها فظلت معلقة، إلى أن جاءت مصادقة جوبا لتنقل الاتفاقية الى حيز التنفيذ. وأوضح الخبير المصري ان الفكرة بدأت في مايو 2010 من دول منابع النيل تتقدمهم اثيوبيا، على أساس رفض آلية "مبادرة حوض النيل" التي أنشئت قبل ذلك بعشرة سنوات -بدفع مصري ورعاية دولية- انقضت في سباق بين دول المنابع ودول المصب.

واعتبر د.شراقي في حديث لقناة BBC أن الخطوة جاءت مفاجئة رغم أن حكومة جوبا كانت تلوح بها منذ أكثر من سنتين "خصوصا عندما يطرأ لديهم احتياج ما أو حين يكون هناك طلب يريدونه من مصر" .. 
وكانت مصر ترجح اعتقاد أن جنوب السودان في حاجة إليها وأن المصادقة ليست في مصلحته.      

يبدو أن ما حقق عنصر المفاجأة فعلا هو أن المصادقة تمت اثناء قيام وزير الموارد المائية والري المصري هاني سويلم، بزيارة لجنوب السودان ضمن سلسلة زيارات لافتتاح مشروعات تنموية وخدمية أنشئت بتمويل مصري.

*الاعتراف والتأجيل*

الحديث عن عدم توقع مصر - وهي أكثر الدول المشاطئة لمنابع ومجرى النيل تأثرا بوصول "اتفاقية عنتبي" إلى مرحلة التنفيذ- للخطوة الجنوب سودانية، وقبلها الصبر على استمرار "تمرد" دول منابع النيل على المبادرة لمدة عشر سنوات، ثم ترك أمر الاتفاقية معلقا لنحو أربعة عشر عاما منذ بداياتها، يشير إلى وجود خللا ما في بنية أو تصور التحالفات - داخل وخارج دول حوض النيل، او في أداء مراكز التوقع والاستشعار.       

هناك ثمة احتمال ثالث يرجح ان تكون "مصر" قد اتبعت في تعاملها مع ملف مياه النيل، أسلوب الاعتراف بأزمة عدم التوافق بينها و دول منابع النيل، وقررت التأجيل وعدم تأجيج ذلك الاختلاف، رغم المعرفة المسبقة بكل التفاصيل ذات الصلة؛ أي أنها اختارت إدارة  الأزمة بالطريقة والقدر الذي لا يؤثر على العلاقات مع تلك الأطراف ويسرع بوقوع المتوقع.

*البترودولار مرة أخرى*        

من أهم ما ورد في إفادات الدكتور عباس الشراقي لبرنامج (بتوقيت مصر) على تلفزيون محطة الإذاعة البريطانية، أنه يرجح أن تكون هناك "دولة غنية، في الإقليم، ليست من دول حوض النيل، قدمت (عطاء) لجنوب السودان ودفعته للتوقيع والمصادقة بهدف تقوية الموقف الاثيوبي ومنح اثيوبيا (كرت) تنفيذ اتفاقية عنتبي".

يبدو أن في المشهد تدخل إقليمي مؤثر في الملف الخاص بقضية مياه النيل، كما ان (الجهات الإقليمية الثرية) ذات الصلة باديس ابابا معلومة للجميع، ولم امر سعيها لفك الحصار المتوقع  على إثيوبيا والعمل على إلحاقها بمحيط آمن سرا يذاع،  فقد اتضح ذلك من التحركات الاثيوبية والاماراتية الأخيرة حيال السودان، بالإضافة إلى مساعي تعزيز العلاقات بين جوبا وأديس ابابا، وهرقيسا وأديس ابابا، وإلحاق جوبا بسلسلة نيروبي / كمبالا.

*صمت أم سكوت*        

لكن، بالرغم من عدم إفصاح -الجانبين المصري والسوداني- أو التعليق بما يتيح الكشف عن (الجهة الغنية) التي تدير تلك التدخلات المرجحة لموازين القوة، والتي من شأنها خلق أزمة دولية في المنطقة، يمكن ان يفسر عدم الإفصاح بانه ناتج عن رغبة في تجنب أو تأجيل التصعيد والمواجهة، أو لإتاحة قدر من المرونة في التفاعل مع القضايا الحساسة، أو لتحفيز المراقبين للمزيد من المتابعة والتفكير بشكل جدي في مآلات توسع الأنشطة التي تزيد حدة التوتر في منطقة القرن الافريقي والبحر الأحمر.

وربما يكون "الصمت" عن ذكر اسم تلك الدولة بهدف الالتفاف حول القيود القانونية، لكن يظل هذا التعامل في مجمله من  الطرائق الجيدة للتعاطي الاستراتيجي المرن، حيال قوة إقليمية اعتبرت نفسها ذات "ذراع طويلة" واموال تتيح لها القدرة على التأثير السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني في كل المنطقة،  والتحكم في الأمور بتحريك القطع من مسافة بعيدة، وبالتالي إرساء القدرة على تنفيذ عمليات أو تحقيق أهداف خارج حدود الدولة المعنية.

ولتنفيذ هذه الأهداف والمصالح ليس لدى الدولة الغنية مانع في اللعب بأكثر من حبل، ومع جميع الأطراف في نفس الوقت، لكن الأهم أنه (صمت) وليس (سكوت) وهو ما يجعل للحكاية بقية..