إبراهيم عبد المجيد يكتب: الماركسية في مصر

ذات مصر

هذا كتاب عظيم في موضوعه. ليس مجرد تاريخ للحركة الماركسية في مصر، لكنه أيضا تحليل لمؤلفات تيار فكري مما يقع في مجال سوسيولوجيا المعرفة والفلسفة، وكيف وصلت إلى مصر، وكيف تجسدت كتابة وعملا في أحزاب علنية وسرية، معها تعرف كيف كان الصراع من أجل النهضة المصرية وتجلياته المختلفة. الكتاب كان أطروحة الدكتوراة لأنور مغيث في فرنسا. 

ترجمه عاصم عبد ربه حسين رحمه الله، الذي أيضا عاش في فرنسا، وله كتب عديدة هامة سبق له ترجمتها أو ألفها مثل " جرائم المعلوماتية"و" الدولة العثمانية من الخلافة إلى الانقلابات العسكرية"و" تحولات المثقف من الأدب إلى الدين- سيد قطب نموذجا" وغيرها كثير ألحقها أنور مغيث بالكتاب يمكن الرجوع اليها. أما أنور مغيث الكاتب والمترجم صاحب الكتب الرائعة مثل " السان سيمونيون في مصر" لفيليب رينيه ، والذي شغل مناصب عدة في مصر منها مدير المركز القومي للترجمة، والأستاذ للفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان، والذي حصل على أكثر من وسام وجائزة منها وسام الفارس الأكاديمي من الجمهورية الفرنسية عام 2006 وجائزة بن خلدون – سنجور في الترجمة من المنظمة الدولية للفرانكوفونية واليونيسكو العربي عام 2017 وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية عام 2020 وله مؤلفات غير مترجمة مثل " في الدولة المدنية" وكلها مذكورة في آخر الكتاب. 

الكتاب صادر عن دار المحروسة هذا العام، ويقع في أربعمائة صفحة من القطع الكبير. أعرف عن هذا الكتاب منذ قابلت أنور مغيث في فرنسا في أوائل التسعينات وهو يعد البحث للحصول على الدكتوراة. وجاء الزمن لأقرأه في شغف مترجما إلى العربية.

 يمكن إيجاز طريقة البحث في أن المؤلف يعتبر أو يؤمن بأن تاريخ الأفكار ونقد الإيديولوجية من ضمن المهام الرئيسية للفلسفة. في المقدمة نعرف كيف لعب الفكر الماركسي منذ نشأته دورا هاما في المشهد السياسي والثقافي الدولي، وكيف استخدم تعبير " ماركسي" لوصف حركات اجتماعية عديدة، وتنظيمات سياسية ونقابية مختلفة، وكذلك الإشارة إلى بعض التيارات الفكرية في كثير من تخصصات العلوم الإنسانية. 

لكن في قلب ذلك لا يتخذ الفكر الماركسي دوما شكلا واحدا، فهو في إيطاليا غيره في أميركا اللاتينية أو اليابان أو أفريقيا في المستعمرات الفرنسية أو في العالم العربي، وناله ما نال الفكر الغربي من نقد أيضا. يقوم أنور مغيث بدراسة تلقي الفكر الماركسي بوصفه جزءا من تلقٍ اكثر اتساعا، وهو تلقي الفكر الغربي بصورة عامة، وهكذا ندخل في تاريخ الفكر الماركسي في مصر قبل تكوين أو انتشار النشاط الشيوعي في مصر وتأسيس أول حزب اشتراكي شيوعي عام 1921 وما جرى بعدها حتى الآن.

الجزء الأول يحمل عنوان "الإرهاصات" وفي فصله الأول حديث ضافي عن مفكري النهضة والإشتراكية. بالطبع يبدأ برفاعة الطهطاوي مؤسس النهضة في الفكر العربي المعاصر، رغم أن الطهطاوي لم يذكر الاشتراكية والحركات الاجتماعية في أوربا في كتاباته. لقد قام في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" بتجميع انطباعاته عن الحياة الباريسية التي رآها مثلا يجب الاقتداء به في تنظيم الحياة الاجتماعية، فتحدث بجرأة عن الديموقراطية ومجانية التعيم وحرية المرأة. هنا يحاول أنور مغيث تحديد المعايير التي اختار الطهطاوي على أساسها النصوص التي قام بترجمتها، أو التعليق عليها من أجل تقديمها للقراء المصريين. 

أول هذه المعايير القرآن والسنة، فالدستور الفرنسي لم يأتِ من القرآن والسنة، لكن ذلك لا يقلل من محتواه ولا جدواه، فالعقل يقول أن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك. العقل هنا هو الأصل. 

المعيار الثاني هو الإرث التاريخي للحضارة المصرية القديمة، وتاريخ المفكرين العرب في العصور الوسطي، وكيف كانت الحرية التي يفخر بها الفرنسيون، هي الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للعرب، ففي جريدة الوقائع المصرية التي تولي الطهطاوي تحريرها كان يضع كتابات ابن خلدون وغيره مجاورة للنصوص المترجمة عن الفرنسية. المعيار الثالث هو الإصلاح الإجتماعي الكامن وراء الفائدة في قراءة الأدب الغربي وأمثلة علي ذلك. ثم حديث عن الطهطاوي والإشتراكية، ففي بداية كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" نجد افتراضا أن للمجتمع هدفين هما إنفاذ مشيئة الله، وتحقيق الرفاهية في هذا العالم . 

وللرفاهية مرتكزان هما الأخلاق الإنسانية والنشاط الإقتصادي الذي يؤدي إلى ازدهار وتحسين حياة كل الناس. كيف كان ذلك سببا في اعتباره رائدا للإشتراكية في مصر عند بعض الكتاب مثل لويس عوض وأنور عبد الملك، أما رفعت السعيد فاعتبره عاش سنوات مخفيا الإشتراكية في قلبه. 

حديث عن النقد الذي وجهه الطهطاوي للمجتمع الرأسمالي الذي يتلخص في ثلاث نقاط هي، هيمنة المال وتحويله إلى هدف في حد ذاته، ثم عبادة المال الذي يستنزف وقت الإنسان، ثم الجشع الذي صار سلوكا مقبولا بدلا من كونه رذيلة مزمومة. كان العمل بالنسبة إليه هو أساس الغنى والسعادة، وهو الأصل الأول للملة والأمة، معارضا من يعتبرون الشغل مجرد وسيط والأرض أصل الثروة. انتقد الأنانية الإقطاعية رغم أنه كان من كبار الملاك، ويساوي بين الحرية والعدل والإنصاف. المؤلف يري بذلك أنه كان مؤثرا في الأجيال التالية من الإشتراكيين المصريين. 

ننتقل إلى الضفة الأخرى مع جمال الدين الافغاني الذي وصل مصر عام 1871 في عهد الخديوي إسماعيل. 

كيف كان تأثيره بصفة خاصة على الأعيان والمثقفين والأزهريين، وكيف تميز أسلوبه بالتحريض أكثر من التحليل والتأمل، فلقد تميز خطابه بالطابع الثوري والطابع النشط الذي يدعو إلى عمل فوري ضد المستغلين، والطابع الديني فهدفه هو نهضة وتقدم العالم الإسلامي، لخلق إسلام متطور ومتكيف مع العصر. كان مناهضا للاستعمار لكنه أيضا تميز بالعداء للعلم والنظريات الغربية خاصة الإشتراكية، ففي رسالته "الرد على الدهريين" هاجم الاشتراكية، فهناك ارتباط بين المادية وبين كوميونة باريس، ومذهب الكوميون هو الإشتراكية. 

لقد حدد الأفغاني ثلاث فئات داخل الاشتراكيين هم السوسياليست والنهليست و الكوميونيست الذين زينوا أنفسهم أنهم مع الضعفاء لكنهم دهريون – ملحدون – غايتهم رفع الامتيازات الإنسانية كافة، وإباحة الكل للكل وإشراك الكل للكل" حتى مفكرو الثورة الفرنسية كانوا محل انتقاد منه. 

لم يكن يحلل أفكارهم، بل يخلق نفورا وكراهية تجاههم، وحديث طويل عن تجليات أفكاره. ثم نتقل إلى أديب اسحق الذي توفي مبكرا في التاسعة والعشرين من عمره، ودور كتاباته في توجيه ثورة عرابي رغم أن له تحفظات عليها . 

كيف تناول الفكر التقليدي بالنقد والحياة من حوله؟ 

كان يرى الثورة دون أساس نظري تؤدي إلى استبداد جديد والحرية والعلم ليسا غريبين عن الشرق، لكن لقد رسخ في أذهان العامة وخصوصا أهل الإسلام، أن تغيير النظام مخالف لأحكام الشريعة. 

كيف كان يري أن التعليم أكثر فاعلية من الجيش والشرطة في الدفاع عن مصالح الأغنياء أيضا؟

خلاصة القول أنه رأي وأدرك أن تطور البورجوازية يجب أن تصاحبه واجبات اجتماعية مثل التعليم المجاني وتحرير المرأة. 

يأتي بعده شبلي شميل الذي لن نستطيع إيجاز الحديث عنه في سطور. قام بانتقاد الدين وآمن بنظرية التطور لداروين، وكان دفاعه عن الإشتراكية طوال ربع قرن، غيرمنفصل عن نظرية التطور. لا يمكن فصل اشتراكية شبلي شميل عن الثورة، فالثورة ضرورة عالمية لا تخص المصريين فقط أو الشرق فقط، بل تخص كل الشعوب. 

ربما كان شميل أول من قام بنشر مفهوم السوسياليزم وتفاصيل رأيه في الإشتراكية والأناركية وغير ذلك، رغم أن هوسه بالعلم والتكونولوجيا جعل منه مشايعا للإستعمار في مصر البلد التي صارت أفضل تحت السيادة البريطانية، فكان من المعترضين على المناهضين لبيع أسهم قناة السويس إلى البلدان الأوربية. 

نصل إلى السان سيمونيين الذين وصلوا لمصر مع محمد علي لتطوير الانتاج في إطار تصورهم الخاص عن الإشتراكية. ثم ننتقل إلى دور الصحافة في نهاية القرن التاسع عشر في نشر اشتراكية مبسطة، ويناقش شيئا مما نشرته مجلات مثل الهلال والمقتطف عن الموضوع.

في الفصل الثاني من الجزء الأول يناقش ويحلل الإشارات الأولي لماركس والماركسية مابين هجوم وحفاوة، وأمثلة علي بعض الكتاب أيضا مثل فرح أطون كاتب الروايات والمسرحيات وناقد الرأسمالية، وكيف كانت كتاباته خطوة إلى الأمام في معرفة الاشتراكية في العالم العربي. 

فرح أنطون كان يرى الإشتراكية أفضل ابتكار في القرن التاسع عشر لتجنب مآسي الرأسمالية. والإشتراكية في رأيه لا تعني أوربا  فقط لكن الشرق أيضا، فأثناء أول إضراب قام به عمال التبغ في مصر عام 1899 أيد المضربون بينما انتشرت مقالات تتهمهم بالتقليد الأعمي للغرب. من المهم الإشارة إلي طلب فتوي من الشيخ محمد عبده  في الإضراب فجاءت فتواه تؤيد الإضراب وتدين استغلال العمال. ثم يأتي سلامة موسى والحديث عنه طويل. من أين جاء تأييده للاشتراكية أثناء دراسته في باريس أو لندن وكتبه وتفاصيل رائعة.

كتابه الأول عن الاشتراكية بنفس العنوان عام 1913 وغيره من الكتب والمقالات، ثم نقف عن كاتب هام سأقف عنده أكثر لأنه ليس في شهرة من ذكرتهم وإن كان لا يقل أهمية، هو مصطفي حسنين المنصوري الذي كان مصريا وطنيا يعمل مفتشا في المدارس المصرية. 

كتب كتابا بعنوان" تاريخ المذاهب الاشتراكية" عام 1915 وهو أول كتاب يوضح الفروق بين اتجاهاتها. 

وضّح في كتابه الملامح الأساسية لفكر ماركس. وتحدث لا عن تاريخ الإشتراكية فقط، لكن كيف وجدت في الجغرافيا تغيرا من بلد إلي بلد. تبنى الداروينة وقدم نقدا لرجال الدين لا الدين من فضلك، وحاول تبرئة الداروينية من الإلحاد، وحديثه عن فوضي النظام الاجتماعي في مصر، فهذه الأمة تنقسم إلى جزئين. 

جزء يتصف بظلم نظامه الاجتماعي وهو فريق الأغنياء، وفريق الفقراء الذين لا يسعون إلا إلى الانتقام من الأغنياء، وكلاهما ضحية نظام تجاوزه الزمن في حب المال. يقدم برنامجا للإصلاحات فيطالب مثلا بمجلس تشريعي، وعلى الصعيد الاقتصادي يطالب بزيادة الأجور وزيادة الضرائب على الأغنياء، وضمان تعليم النساء وتقييد الطلاق وتحريم تعدد الزوجات ومجانية التعليم وغير ذلك. ماحدث مع كتابه ومعه وعداء الأزهر له بسبب مطالبته بتحريم تعدد الزوجات وفرض قيود على الطلاق. 

كيف ساهم المنصوري عام 1921 في الاجتماعات التأسيسية للحزب الاشتراكي، وكيف كان وضعه الوظيفي لا يسمح بذلك فهو ليس صحفيا حرا مثلا، وحين قام بترجمة كتاب ماكس نوردو من الإنجليزية" الأكاذيب التقليدية لحضارتنا" رفضته الرقابة، وفي عام 1930 وقع خلاف بينه وبين رئيس المجلس المحلي لمدينة الفيوم، فجمع الأخير شهادات من بعض المعلمين يتهمونه فيها بالتحرش والإلحاد وفصلته حكومة الوفد، بينما هو من البداية لا يتغافل عن إلحاد ماركس وباكونين وسان سيمون الذي لا يجد له أي مبرر، لكنه يري أنه لا علاقة للإلحاد بالإشتراكية. لقد رأي أن طعن بعض الاشتراكيين في الدين أو الأسرة خطأ، فالإشتراكية تسعي لحياة أسرية أكثر سعادة. ويختتم أنور مغيث هذا الجزء بحديث ضافٍ عن الوضع السياسي الذي ظهرت فيه أفكار هؤلاء المفكرين في مصر منذ رفاعة الطهطاوي حتي حسنين المنصوري .

 ننتقل إلى الجزء الثاني عن ترسيخ الفكر الإشتراكي. في الفصل الأول من هذا الجزء يبدأ الحديث عن المحاولات الأولى للتوطيد. كيف جري تصور الإشتراكية التي نشرها الكتاب الاشتراكيون باعتبارها مجرد إصلاح سياسي، وجرى اختزالها لمجموعة من المثل العليا. كيف مال المثقفون الإشتراكيون كلهم إلي الاعتدال. 

كيف اعتمدوا على قانون التطور للإشادة باشتراكية تدريجية، وبرغم أنهم لم يعلنوا أنهم ماركسيون، فإن دخول الإشتراكية إلى الحركة السياسية كان متأثرا بماركس. يبدأ في الحديث عن الحركات الثلاث الأولى التي ظهرت مابين الحربين الأولى والثانية، وهي الحزب الإشتراكي، ثم دعاية المثقفين لماركسية معتدلة، ثم الحركة السيريالية. يأخذه الحديث عن الحزب الإشتراكي إلي بداية إضرابات العمال في معامل التبغ الذي ذكرناه من قبل. 

كيف دفعت ظروف العمل للإضراب. 

يوم عمل يمتد إلى خمس عشرة ساعة وأجر ستة قروش في اليوم. بعد أول إضراب لعمال التبغ عام 1889 ، يأتي عام 1908 وتمس الإضرابات قطاعات اقتصادية أكثر أهمية، مثل إضراب عمال السكة الحديد والترام. 

في عام 1911 وصلت الإضرابات لكل القطاعات تقريبا، وفي عام 1914 تحولت إلى مظاهرات شارك فيها الشعب. 

كان لحركة الإضرابات أثر على المجال السياسي فبدأت الأحزاب السياسية في الاهتمام بالإصلاحات الإجتماعية. ثم قراءة لحال العمال الذين كان أكثرهم في المدن من الأجانب بينما بقية الشعب من الفلاحين. مسيرة النشاط الحزبي داخل الجاليات الأجنبية، فظهرت خلايا ماركسية إيطالية ويونانية ومن الأرمن كانت امتدادا لأحزاب في أوطانهم الأصلية.

انتشرت الخلايا الاشتراكية أثناء ثورة 1919 ووزعت في المدن الكبري منشورات تحمل الطابع الاشتراكي. تمشي مع المسيرة حتي تأسيس الحزب الإشتراكي المصري عام 1921 ومؤسسوه والخلاف بين مثقفي القاهرة والإسكندرية التي كان بها الأجانب أكثر. تمشي بدقة رائعة مع تطورات الحزب وقياداته والخلافات بينهم وعلاقته سلبا وايجابا مع الكومنترن أو الأممية التي طلبت تغيير أسمه إلي الشيوعي المصري، ثم كيف تم قمع الحزب من الدولة، وكانت الكومنترن تعتقد أن الحزب الشيوعي المصري مخترق من الأمن من خلال بعض أعضائه. 

كيف مال الحزب إلى الإنتليجنسيا، والصراعات والتطورات وكيف كان الموقف معتدلا من الدين وكتابات المفكرين الشيوعيين في ذلك، لكن الدولة منعت الحزب. مسيرة مع من واصلوا العمل لنشر الفكر الاشتراكي مثل حسني العرابي السكرتير السابق للحزب الشيوعي المصري وعصام الدين حفني ناصف الناشط القديم في الحزب الوطني والدكتور عبد الفتاح القاضي طبيب الأطفال العائد بعد الدراسة في ألمانيا، وهي الخطوة الثانية بعد إلغاء أول حزب، فأسسوا جريدة أسبوعية بعنوان " روح العصر" لنشر الفكر الاشتراكي المعتدل. 

رحلة رائعة مع عصام الدين حفني ناصف ومقالاته وكتبه مثل كتاب" مبادئ الإشتراكية" الذي صدر عام 1933 وخاصة بعد منع جريدة "روح العصر"، والمحاولات لتكوين أحزاب تنتهي دائما بالمنع والمصادرة والقبض على أعضائها. ثم يأتي الحديث عن الحركة السوريالية في الفنون وكيف لم تنفصل عن الماركسية، والتمهيد لها بمجلات مثل "مصر الجديدة" التي ناقش فيها نشطاء الحزب الشيوعي المصري الفرانكفونيين مثل أنطون مارون وروزينتال وجولدبرج، دور النخبة المصرية في مصر، ووجهوا نقدا لحزب الوفد وإلى معاداته للوجود الأجنبي في مصر، كما قدمت المجلة نقدا نظريا للملكية الخاصة وحق الميراث . 

في نهاية العشرينيات أسس ليون كاسترو جماعة " المحاولين.  Les Essayistes

في مجلتهم  نشر جورج حنين مقالاته الأولي عام 1933. مسيرة السيرياليين مع الفن المغامر وكيف تأسست جماعة "الفن  والحياة" والخلافات بينهم والتوقف ثم جماعة "الخبز والحرية" التي أسسها انور كامل مع أسعد حليم عام 1942. مسيرة السيرياللين حتي محاولتهم السياسية الأخيرة تأسيس الجبهة الإشتراكية بدعم المرشح اليساري فتحي الرملي. في النهاية لم يحققوا ما يبغون فعادوا إلي لغتهم الفرنسية، بينما انصرف جورج حنين إلى النقد الأدبي والفني في المجلات الجديدة التي أسسها ومعه رمسيس يونان حتي غادرا إلى فرنسا. كان الفكر الماركسي حاضرا في كتابات السورياليين لكنهم لم ينهمكوا في شرح وتبسيط أفكارهم . كان فكرهم خاليا من الشعبوية التي نجدها في كتابات الاشتراكيين الإصلاحيين.  

 ننتقل إلى الفصل الثاني من الجزء الثاني بعنوان "تلقي اللينينية" . حديث عن النزعة القومية كما رآها ماركس، وكيف أنها عقبة أمام التحرر الإنساني الحقيقي، لأن القومية تنتمي إلي العالم البورجوازي . كيف بعد ذلك وبعد أن انخرط في الصراع السياسي، أخذ الخصوصية القومية في الإعتبار، وكيف أبرز برنامج عصبة الشيوعيين ضرورة مزدوجة، هي تطوير النضال الثوري في كل سياق قومي خاص، وكذلك ضرورة تجميع الطبقة العاملة عالميا ضد الرأسمالية العالمية. لقد أظهر ماركس بالإضافة إلى ذلك تعاطفا تجاه المطالب القومية لشعب إيرلندا وبولندا. من خلال الموقف من القومية لم يكن انجلز مباليا بالثورة العرابية، لكنه أيضا رأى أن حكم البورجوازيه لا يكون دون استقلال وطني ومن ثم تمهيد للإشتراكية. ثم بعيدا عن أوربا ننتقل إلى الكتابات الصحفية المصرية التي رأت في روسيا خصوصية بالنسبة إلى دول أوربا. كيف رأى لينين حياة الفلاحين المصريين في بؤسها مثل حياة الفلاحين الروس في تعليقه على ماجاء في كتاب جوزيف نحاس المنشور بالفرنسية عام 1901 بعنوان" الوضع الإقتصادي والإجتماعي للفلاح المصري" ثم حديث عن رؤية لينين للمثقفين في كتابه " ما العمل" وكيف جاءت الأفكار الإشتراكية من كتابات المفكرين والفلاسفة البورجوازيين بطريق مستقل تماما عن الطبقة العاملة، ومن ثم فإبراز دور الانتلجينسيا لابد أن يكون محل ترحيب. ثم يتوالى الحديث عن رأيه في ثورة الشيوعيين فلا طريق أمام البروليتاريا والفلاحين نحو الحرية الحقيقية إلا طريق الحرية البورجوازية والتقدم البورجوازي كما جاء في كتابه" خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية"  كذلك تحليل ظاهرة الإستعمار في كتابه " الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار" وكيف كان هذا الكتاب هو الوحيد في مصر الذي استقبل بترحيب خارج الدوائر الماركسية، لكن القمع للحركات الشيوعية في مصر أخَّر تلقي اللينينية عشرين عاما. كانت الصحافة المصرية لا تتوقف منذ عام 1927عن الحديث عن البلشفية، إلا أنها استخدمت المصطلح للإشارة إلى التطرف أو المنهج الثوري، دون توسع في معرفة أساسها الإيديولوجي، وأسباب ذلك التي منها عجز الحركة الوطنية عن تحقيق كل الأماني الشعبية وغيرها. في الحرب العالمية الثانية أثار انتصار السوفييت على الألمان في معركة ستالينجراد حماسا شعبيا في مصر رغم وجود من رحبوا بالألمان للخلاص من الانجليز مثل الاخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة. بعدها انتصرت الشيوعية في الصين. كان من دوافع استقبال اللينينة في مصر أيضا تغلب القضية الوطنية حتي بعد الإستقلال الشكلي عام 1922 وظهور إتحاد الصناعات في مصر في مواجهة سيطرة  الأجانب علي الإقتصاد. إتحاد الصناعات جاء بأفكار الرأسماليين الأجانب والمصريين. ثم حديث عن وضع الفلاحين والعمال والحركة الطلابية ومسيرة الماركسية في الأربعينات واللجنة الوطنية للعمال والطلبة. ننتقل إلى ما بعد حركة الجيش 1952 وتقلب علاقة الشيوعيين بعبد الناصر. تفاصيل هذه التقلبات والانقسامات بينهم حتي أدخلهم عبد الناصر بلا تفرقة سجونه ومعتقلاته. سرية الحركة الشيوعية بعد ذلك وأسماء الأحزاب الشيوعية والفارق بينها. كيف رغم أي شيئ ساهم الشيوعيون في الوعي السياسي والحياة الثقافية وآراء المفكرين في ذلك. 

نصل إلى الجزء الثالث الذي يحمل عنوان "مراجعة نقدية للنصوص الماركسية " فيلقي أنور مغيث ضوءا بتفصيل أكبر على الكتب التي ترجمت والمقالات وما تم تأليفه. يقف عند كتّاب مثل أحمد رفعت مترجم كتاب "الدولة والثورة" للينين الذي صدر عام 1922بعنوان" مذكرات لينين عن الحرب الأوربية"  يحدثك عن أحمد رفعت وأعماله مابين ترجمة وتأليف ورواية، ويناقش ترجمة الكتاب وما أهمله أحمد رفعت أو غيّر فيه اعتمادا على المقارنة مع النص الأصلي للكتاب، ويناقش المصطلحات المختلفة مثل الثورة والطبقة والبرجوازية والبورجوازية الصغيرة وغيرها من المصطلحات، وكيف هي في الأصل وكيف صارت في الترجمة. يفعل الأمر نفسه مع راشد البراوي مترجم كتاب "رأس المال" ويمشي مع مسيرته وحياته تماما مثل أحمد رفعت، وما ترجمه من أعمال مثل "الاقتصاد السياسي والتفسير الإشتراكي للتاريخ" الذي يتضمن أكثر من عمل مثل "لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" و"مراسلات بين ماركس وانجلز" وغيرهما، ثم ينتقل إلى عبد الفتاح القاضي وكتاباته في مجلة مثل "روح العصر" وغيرها وترجماته مثل كتاب كارل ماركس" العمل المأجور ورأس المال"  حديث عن الكتب التي صدرت عن العمل السري من أجل تثقيف الكادر المصري وليس العامة، ومن هذه الكتب "البيان الشيوعي" و"القيمة والثمن والربح" لماركس و"الإشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية" لإنجلز وغيرها، وكانت تباع بطريقة شبه قانونية في "مكتبة الميدان" التي كان يملكها هنري كورييل، ونصوص أخرى . ثم حديث ضافي عن الإسهام النظري للماركسيين المصريين في مواجهة تاريخهم أو في مجال الفلسفة أو حركة الجيش عام 1952 أو النقد الأدبي وقضايا مثل الفن للفن أم الفن للمجتمع بتفصيل منذ بداية القرن العشرين حتي الستينيات ، وأسماء وأفكار الكتاب الذين ناقشوا ذلك مثل لويس عوض ومحمود العالم وعبد العظيم أنيس وغيرهم.

 ينتهي الكتاب بعد رحلة رائعة فكريا وفلسفيا وتاريخيا وتأتي قائمة المراجع الرهيبة و بعدها فهرس الأعلام وبعده كرونولوجي رائع أو جدول زمني وتسلسل الأحداث منذ الثورة الفرنسية عام 1789 حتي عام 1970 حين قبلت مصر وإسرائيل بمبادرة روجرز للسلام وموت عبد الناصر وإعلان السادات رئيسا.