عمار علي حسن يكتب عن القاضي العادل التقي المستشار فكري خروب

ذات مصر

لا تعيش أي أمة بلا عدل، فإن غاب اضطربت الأحوال، وهام الناس على وجوههم حائرين مغبونين قانطين حانقين، ينظرون إلى الحياة من زاوية ضيقة حرجة لا تلبث أن تسود في عيونهم، فيكسو الظلام كل شيء.

وإذا كان الناس في أي مكان بوسعهم أن يتحملوا ظلم الحاكم بعض الوقت، فإنهم لا يقدرون على تحمل غياب عدل القاضي في أي وقت، فالأول يمكن تجنبه بعدم مزاحمته، لكن الثاني يمس قوله وفعله كل التفاصيل التي يصنعها الناس أو تُصنع لهم، ولهذا فهم مأخوذون إليها، شاءوا أم أبوا، وهم معلقون به لأن ما يبديه يخفف عنهم غلواء الظلم الأكبر، بل قد يزيله أحيانًا.

أرى هذا في عيني الولي الذي لا يعرف أنه كذلك، كبير السن والمقام، النقي كطفل، الخلوق كنسمة رخية، عف اللسان، وذكي الجنان، ذكاؤه ليس مستمدا كله من عقل قادح حاذق، إنما من فطرة سليمة، وبصيرة نيِّرة، عاش راهبًا في رحاب العدل، شغوفًا به، مخلصًا له، لا يشغله عنه شيء، لا زوجة ولا ولد، ولم يضعف أمام مال أو منصب، ولا يتحرق لشهوة أو ينزلق إلى نزوة أو مأخذ جارح بارح.

هذا الرجل البشوش الذي تراه حين تحادثه بسيطًا هينًا لينًا، لا يكون كذلك حين يجلس ليقضي بين الناس. زرته يومًا في بيته فوجدته يرتجف باكيًا، وسألته:
ـ ما الذي يبكيك؟
رفع إليَّ عينين مملوءتين بورع يسبح في دموعه السخية، وقال:
ـ تأتينا أشياء ملتبسة أحيانا لأسباب عديدة، وأخشى أن يكون هناك ما يعجزني عن إنهاء الالتباس، وإنصاف الناس.

يومها اكتشفت، تركته وذهبت إلى شرفة شقته المستأجرة بالإسكندرية، ورميت بصري إلى البحر فكان مستويًا رائقًا، بعد أن سكنت الريح فخمد الموج، وتخيلته يمضي عليه ماشيًا إلى المدى الأزرق الواسع.

عدت ونظرت إليه وقلت في سري:
ـ وليُّ ولا يعلم.
وكلما سمعت ونظرت حولي إلى غيره، رسخت ولايته في نفسي، فالأدعياء، دون أن يدروا، يهدوننا إلي الأولياء، وبضدها تتميز الأشياء. صامت هو لا يحدثك في شيء كثير، فهو يعرف أن البراءة والإدانة معلقة في طرف لسانه، ويخشى إن قال شيئًا قبل أن يأخذ التقاضي مداه التام أن يظلم، حتى ولو باللفظ، وخارج قاعات المحاكم وأضابيرها، فإن حكم يبقى مؤتمنًا على أسرار من حكم فيهم ولم يصل نبأ جرائمهم إلى من يأخذها إلى أسماع الناس.

قبل شهور قلت أختبر صبره، فحملت عليه بشدة في مسألة بيننا، وانتظرت حكمه، فلم يأتني منه سوى ما يؤكد ما استقر في نفسي عنه، حتى أكاد الآن أبلغه أنه شيخي وأنا مريده، لكنني واثق من أن قولي هذا سيجعله يفر مني، لأنه يرى أنه أفقر الفقراء إلى الله، وكلنا هذا الرجل إن وعينا، لكن إنزال الناس منازلهم واجب، وهو لا يريد لأحد أن يراه سوى رجل واقف على حد العدل، إن لم يكن عليه سلطان، فهو يؤمن أنه في مساءلة أمام ربه وضميره، وهذا أكبر وأعلى سلطان في الوجود.

هذا الوليُّ، الذي لا يعرف نفسه، يمقت التشدد في الدين بقدر ما يرفض التفلت، ويرى أن العدل في كل ما هو مكلف به، يقتضي الاعتدال فيما يؤمن به. حين يتذكر اللحظة التي سيمثل فيها أمام الله ليسأله عما فعله في الحكم بين المتخاصمين أجده يجهش بالبكاء، ويقول:
ـ أتحرى الدقة على قدر الاستطاعة، وأبحث عن التبرئة قبل الإدانة، دون أن أنسى حقوق الناس.

يتوه وهو جالس بين زملائه في لحظة اللقاء المهيب هذه التي تسيطر عليه، فلا يسمع ما يقولونه في أوقات راحتهم، ويحلق بعيدًا، مغالبًا دموعه، فيرى الميزان المرسوم على الجدار خلفه قد صار أمامه، والقضايا التي حكم فيها تترى وتتراكم فوق الكفة اليسرى، وفي اليمنى توضع أخطاءه خارج المحاكم، ويهمس لنفسه راجيًا:

ـ عدل القاضي قد يغفر له خطاياه الأخرى.

لكن مولانا كما يتحرى العدل في المحكمة، يتلمس السلوك القويم في شوارع المدن التي يحل بها، لا يقيده سوى شيء واحد ألزموه به كقاض، وهو ألا يزيد في الاختلاط، ولولاه لوجدناه يجالس البسطاء الطيبين في منابر العلم، وحضرات الذكر، والحقول والمصانع ومراكب الصيد، بحثًا عن معنى أعمق.

إلى زمن آخر ينتمى مولانا، ولهذا يحدث سامعه دومًا عن الثقات الكبار من بني مهنته ومهمته، ويبدو في شوق جارف إلى هؤلاء الراحلين، الذين كانوا لا يهابون في العدل إلا الله. هو منهم، فحين يستقر في يقينه حكم لا يهزه هوى ولا منفعة، ولا يرى أمامه وقتها سوى لحظة الامتثال يوم الموقف العظيم، وقت يذهب المال وما جمعوا، والجاه وما رفعوا، ويروح عن القاضي كل شفعاء الدنيا.

القاضي المستشار فكري خروب، يدرك هذا ويعرفه، بل ذلك راسخ في يقينه قبل أن يحفظ القوانين التي يقضي بها، لذا يمشي على الأرض هونًا، زاهدًا في كل ما في يد غيره، عازفًا عن التزاحم على أي شيء يلوح أو يتهادى، منصبًا كان أو مالًا، مخلصًا فقط لمسار يزداد إيمانه بأنه من أجلَّ ما أدرك البشر ضرورة وجوده بينهم في تاريخهم المديد، من الخلق إلى القيامة.