هلال عبد الحميد يكتب: ستي (مخدومة) والأشهر القبطية والحبس الاحتياطي

ذات مصر

كانت ستي مخدومة – رحمها الله – سيدة قصيرة وأنيقة، وحكيمة وقوية الشكيمة  وتجيد القراءة والكتابة،كانت تقاطيعها جميلة، خمرية اللون كطمي النيل،، وتشبه ملكة فرعونية وكانت لها غرفتها الخاصة بمنزل العائلة الكبير المكون من  جزئين بينهما ممر  وكل مبنى  دورين وسلم داخلي، ويضم بالإضافة إليها ولديها عبدالحميد وإسماعيل وبنتها الأرملة فوزية وأولادهم جميعًا. 
    كان البيت يعج  بالنساء والأطفال – نساء وأطفال البيت والجيران - وكانت هي ( مايسترو) هذه الفرقة.

كان ابنها الأكبر عبدالحميد والذي يتمتع بهيبة كبيرة بمجرد خروجه من بيت العيلة، وكنا أطفالًا  نلعب الكرة الشراب برهبة خزام وهي ميدان كبير كنا نصنع بداخله ملعبًا مخططًا بالجير، ونصنع مرمى من الطوب ، وبمجرد ما نرى عبدالحميد  هالًا من بعيد نلم نفسنا كلنا بالكرة الشراب ونختفي حتى يمر ونعود لمواصلة اللعب وكنا فريقين دومًا فريق يقوده العبد لله وفريق يقوده الصديق جمال الحميلي الذي  كان  يفوز في معظم الأوقات . 

 كان هذا الرجل المهيب بمجرد دخوله البيت يتحول لأحد أفراد رعية ستي  مخدومة. 

 وكنت إذا ارتكبت خطأً يستحق العقاب ألجأ إلى غرفتها، وعندها تَكُف يد عبدالحميد الغليظة، ولا يجرؤ على الدخول، وإن دخل وحاول مجرد النظر إلي كانت نظرة واحدة منها له تردعه فيطأطأ رأسه خارجًا، كم كنت أحب قوة شخصيتها.  وكانت لديها سُحارة عتيقة، توزع علينا منها النقود.

أُتُهم والدي وعمي وأبن  عم والدي في قضية قتل، وظلوا في الحبس الاحتياطي لفترة طويلة إلى إن استطاع محامي وسياسي  شهير- تدافع ذريته الآن  عن قانون الإجراءات الجنائية- الحصول على حكم البراءة لهم جميعًا.  

كان سجن والدي وعميَّ الذي استمر قرابة العامين من الممكن أن يقضي على زرعهم وتجارتهم،وكنا أطفالًا، ولكن ستي مخدومة تمكنت وقتها من إدارة كل شيء: حديقتين ملك  مانجو ٣ أفدنة وحديقة آخرى فدانًا ملك، وعدد من الحدائق إيجار فواكه بمساحات شاسعة وتجارة خشب وفحومات تضم عشرات العمال، أدارت كل هذا باقتدار عجيب.

وكانت لنا حديقة على الطريق السريع يقال لها ( الفدان ) وكانت ١٨ قيراطًا في الواقع  وكانت بها بعض المشكلات مع الجيران، فذهبت ستي إلى هناك واقامت ( سباته  ) وهي غرفة  من عيدان الذرة وجريد النخيل وكنا نمكث طوال النهار ويأتي أقارب لنا بالليل ليحرسوها ليلًا ،وكانت تذهب  ( لتشوِّط) تتابع وتراقب، وكانت فترة عصيبة استنزفت أموالًا طائلة ، وكانت ستي تأخذنا في الزيارة لوالدي وعمي بسجن أسيوط طوال فترة الحبس الاحتياطي الذي شارف على السنتين، ربما ما ينشره أقارب المحبوسين حاليًا يوضح ما يعانيه المحبوسون وذووهم خاصة عندما يكون المحبوس مظلومًا كحالتنا، فالصعايدة يتركون من فعل الفعلة من العائلة ويتهمون غيره، ويفعلون كذلك في الثأر.

كانت سيتي مخدومة بنت الشيخ حسين خزام شيخ قرية ساحل سليم وقتها ،وكان يمتلك أملاكًا كثيرة باع معظمها قبل وفاته وتوفي زوجها وابن عمها حسن إسماعيل مبكرًا – لم أره -  وكانت  تعرف الأشهر القبطية بأمثال كثيرة لكل شهر، وكانت تخاطبنا بها متباهية بثقافتها القبطية، ومع دخول شهر توت وهو أول شهر بالسنة القبطية ويبدأ من يوم ١١ سبتمبر لغاية ١٠ أكتوبر، كانت ستي (مخدومة) تخاطب من في البيت بسرعة التوجه لري الأرض قائلة :
١- (توت ولا تموت) وتعني اروِ زرعك في هذا الوقت وإلا مات أو مُتَّ أنت جوعًا  ، ولما كنت نشتكي من الحر الشديد في آخر شهرين من السنة القبطية كانت تبشرنا بقرب شهر توت قائلة:   ( توت يقول للحر موت ). 

٢-  شهر بابه وهو الشهر الثاني من الأشهر القبطية ويبدأ  من ١١ أكتوبر وحتى ٩ نوفمبر
       ولأن مصر بلد زراعي وكان سلة غذاء 
فكانت  ستي مخدومة ( إن صح شهر بابه يغلب النهابة) وهذا الشهر هو ما تظهر فيه زراعة القمح، ويبان مدى نجاحها،فمعنى (يغلب النَّهابة) يعني يغلب كل محاولات السرقة منه لوفرة المحصول، ومهما سُرق منه يظل وفيرًا  
٣-  وشهر ( هاتور) من ١٠نوفمبر  وحتى ٩ ديسمبر فمثل ستي مخدومة يقول ( هاتور أبو الدهب منتور )، والمقصود بالدهب القمح، وكانت ستي تخزن القمح في غرف خاصة أمام  البيت وكان لبيت الخزين ترباس كبير ومفتاح من الخارج، وكان القمح يظل طوال العام، وكان الخبز بخليط من القمح والذرة، ولكن كانت هناك ( خَبْزِة) دقيق قمح خالص يوم الخميس فمع ( مراقيس ) المرق الشهية التي تخرج من الفرن البلدي ( تبقبق) كان  هناك الفطير الأبيض والبتاو الأحمر من دقيق القمح الخالص ( لا أعرف لماذا كان الفطير أبيض والبتاو أحمر ) كان الفطير والبتاو مع المرق يوم الخميس أما بقية الأسبوع فكان ( البتاو القيضي الأسمر )وكان يصنع من الذرة الرفيعة وتضاف له الحلبة المطحونة، وكان يُقمر على الجمر وتشم رائحته من مسافة طويلة.
٤-  كيهك/ كياك : ويبدأ من ١٠ ديسمبر وحتى ٨ يناير ومثله عند سيتي مخدومة( كياك نهارك مساك)وكانت بتصحي البيت كله بدري من الفجرية،وكانت بتقول إحنا في ( كياك) يا دوب توصلوا الغيط اليوم يخلص، قوموا شوفوا الرجالة بلاش تبقوا ( جُخ نوم ) يعني نايمين على طول ( لا أعرف بأي لغة كلمة ( جُخ)، وفي نهاية الشهر عيد الميلاد المجيد للطوائف المسيحية الشرقية ( ٧ يناير )وكان على الناحية الآخرى من الرهبة عدد من بيوت المسيحيين- لم نكن نعرف وقتها مين مسلم ومين مسيحي وكنا نحتفل كأطفال بكل الأعياد معًا، وقبيل عيد ( الزعف) كنا نذهب لجناينا لإحضار الجريد الأصفر بكميات كبيرة لنحتفل بأحد الزعف 
٥- طوبة: من ٩ يناير لـ ٧  فبراير، وهو شهر تطويب الأرض تمهيدًا للزراعة، ويقول المثل فيه ( طوبة يخلي العجوزة كركربة )، من شدة البرد،وكانت ستي تقول للبارد الغير مهتم ( دا أنت أبود من مية طوبه ).

وأتذكر أن نسبة الوفيات كانت كبيرة،وكانت الجنازة تستمر شهرًا كاملًا، وكان الرجال يمكثون في المندرة والمقريء يقرأ القرآن وكل بيت ( يطلَّع ) ويطلع يعني يعمل غدا وعشاء ويطلعه المندرة على طبلية وفي العادة بيكون الأكل بيض وجبنة خضرا في الفطار وجبنة قديمة وعسل في الغداء ومراقيص لحمة في العشاء.وكنت أسمع أنهم قبل جيلنا ينصبون الجنازة ٤٠ يومًا، وظلت تنخفض مدتها حتى صارت يومًا واحدًا الآن. 

وفي هذا الشهر كنا نجتمع بالمجاز – وهو مكان واسع داخل البيت غير مسقوف وكنا نقيد- نشعل النار للتدفئة، ونجتمع، لنستمع لحكاوي سيتي مخدومة  المشوقة والتي لا تنتهي. 

وهناك مثل آخر لطربة ( الاسم طوبة والفعل لمشير) لأن الرياح قد تتقدم ونكون في طوبة فعليًا لكن الحقيقة وكأننا في مشير، وهذا المثل كانت تقوله سيتي مخدومة لمن تريد توبيخه واتهامه بالنفاق وأنه ( ميه من تحت تبن)، وكانت نطراتها حينًها موحية وتتحدث بأكثر من المثل، وكان بيتنا الواسع في أيام الخبيز والطبيخ- وهي كل يوم تقريبًا - تحدث بعض المناوشات الخفيفة بين نساء المنزل، من صاحباته وجيرانهن وأقاربهن بالجوار  -ولكن ما إن تطل سيتي مخدومة من شرفة غرفتها وتكح كحتها الخفيفة حتى يسود الصمت، ويعم السلام المشوب بالحذر 
٦- أمشير: ومثله ( أمشير أبوالزعابير، ياخد العجوزة ويطير ) وأبو عابير تعني الرياح الشديدة، ويبدأ ٨ فبراير  لـ ١٠ مارس   
٧- برمهات : وتقول ستي ( برمهات روح الغيط وهات) تعني أن المحاصيل ( طابت) وعلى الحصاد والقطاف وهو من ١٠ مارس لـ ٨ أبريل 
٨- برموده ويبدأ من ٩ أبريل لـ ٨ مايو وكانت ستي تقول عنه ( برموده دق العامودة) وكنا نرى صغارًا الفلاحين يجمعون سنابل القمح ويعملون منها ( جرن كبير ) وبعد فترة يقومون بدقها لفصل القمح عن السنابل، ثم يأتي الجران بمجرفة كبيرة وعكس ومع اتجاه الريح يرفع بمجراته فيطير التبن ويتكوم في كومة كبيرة بالقرب من جرن القمح- لا أعرف كيف لا يتطاير مع الهواء!-  ويظل  القمح مكومًا بالجرن خالًيا من التبن ليقوموا الفلاح بتعبئته في شوايل وبعدها يتم تعبئة التبن ف ( شِنف) كبيرة مفتحة، ثم يأتي الجمالون ليرفعوا شنف التبن على الجمال، بينما يتم نقل ( شوايل) القمح على عربيات كارو – وكان لدينا عدد كبير من عربيات الكارو تُستخدم في نقل الخشب من أماكن قطعه- لتجديد الشجر بشجر جديد-   لمكامير الفحم 
٩- بشنس يكنس الغيط كنس ) فالأراضي الزاعية تكون قد خلت من الزراعة بعد الحصاد وتظل فترة تشميس بعد تقليبها ويبدأ بشنس من ٩ مايو لـ ٧ يونيه
١٠- بؤونه من ٨ يونيه لـ٧ يوليه وفيه تقول ستي ( بؤونة تنشف الماعونة) تعني زوال الماء من المواعين من شدة الحر وتقول أيضًا ( بؤونة تخزين المونة ) يعني تخزين المحاصيل بعد الحصاد، وكانت ستي مخدومة تخزن القمح والبلح بكميات كبيرة وتضعه في غرف الخزين وتوزع منه على الجيران، وكان المقلمون يقطعون محصول البلح ويصعدون الى النخيل العالي بالمطلع، وهو حبل سميك  مفتول من ليف النخيل يلفه معلم المخل حول  النخلة وحول وسطه ويصعد على  النخلة بخفة ورشاقة وفي دقائق معدودة مستخدمًا قدومًا حادًا يقطع كل زبايط البلح ويرميها  على مفارش تحت  تحت النخل، وإن كان البلح مستويًا يربط عدة زياطات في سلبة، وينزلهم وحدة وحدة حتى يقوم من بالأرض بفك الزباط من السلبة، ويتم تحميل البلح لتنشيره وتحميصه، وليس كل البلح قابل للتخزين فهناك نوعيات محددة معروفة سلفًا تسمى البلح ( المنشر )، كان البلح يظل طوال العام وفي شهر رمضان، تأمرنا ستي مخدومة بتوزيع كميات من البلح على كل الجيران لمسافات طويلة.

١١- أبيب: يبدأ من ٨ يوليه لـ ٦ أغسطس، وله أمثال أشهرها ( أبيب أبو اللهاليب) نظرًا لارتفاع حرارته، أو ( أبيب طبَّاخ العنب والزبيب ) أي ينضج العنب من شدة الحرارة 
١٢- مسرى: من ٧ أغسطس لـ ٥سبتمبر 
كانت الأشهر القبطية / المصرية معروفة لدى الفلاحين بشكل كبير، وهناك فروق أيام لا أعرف كيف تُحسب سنويًا.
   ولكل شهر من هذه الأشهر سبب لتسميته، ومعظمها بأسماء فراعنة مصريين، ولكل شهر ركز يدل عليه

كانت مصر منبعًا للحضارة وللعلوم وسلة للغداء، فلماذا تراجعنا كل هذه السنين الضوئية ؟!