ببصيرة حاضرة... عمار علي حسن يرى طه حسين من 6 زوايا

ذات مصر

ببيتين للشعر وحكمة بالغة ترفع شعار «العلم المستقر جهل مستقر». يقف الدكتور عمار علي حسن على حافة كتابه الشائق «بصيرة حاضرة... طه حسين من ست زوايا»، ولا يخفي الكاتب الكبير إعجابه الشديد بالعميد الكبير طه حسين. فمنذ بداية الأسطر تتقافز عيناك بين روض من كلمات تثني على طه حسين الرجل الذي لا يعرف أن يلين في شيء، وإنما هو مقاتل عما يدركه صواب. 

ينطلق الدكتور عمار في أطروحته الفكرية المتوسلة بالبحث العلمي عن طه حسين، من القضايا التي خاضها العميد والتي ما زالت عالقة في المجتمع، كأنه لم يبرح فترة الخمسينات من القرن الماضي.

يحاول عمار في دراسته الخوض في عالم طه حسين دون عقيدة مسبقة بالقدح أو المدح، وإن كان لا يخفي إعجابه بمعالجات عميد الأدب لكافة قضايانا الآنية والماضية. من زوايا ست تخوض الدراسة الأكاديمية في طه حسين عبر نقد قصصه ورواياته وأشعاره التي تخلى عنها، وتتناول تجربته الحركية في السياسة والإدارة، واستلهام سيرته الذاتية التي لا تزال مختلفة عما سبقها ولحق بها، وتقف عند طريقته في التدريس وتربية عقول التلاميذ، بل تنطلق من كل هذا إلى قياس أثر الرجل في حياتنا المعاصرة.

 وهو أمر يمكن النهوض به وفق عدة إجراءات هي:

1- معرفة حجم وقيمة ما كتب ويكتب عن طه حسين حاليًا، من شهادات وذكريات ومقالات ودراسات وكتب وأطروحات جامعية، وما يقام عنه من ندوات ومؤتمرات.

2- مدى قدرة ما تركه طه حسين على الاستجابة للتحديات الراهنة، أو الإجابة على أسئلة زماننا، واستمراره في أداء هذا الدور في المستقبل المنظور.

3- ما تحمله خصائص أسلوبه من قدرة على إفادة الجيل الحالي من الكتاب والباحثين. حيث إلهاب الخيال، وإحكام الصياغة. والتعبير عن المعنى بشكل جلي. لا غموض فيه، ولا اعوجاج. حتى لو جاء متدثرًا بأردية ناصعة من البلاغة.

4- ما يمكن أن تمدنا به آراء طه حسين وتجربته العملية ومواقفه، من رؤى وطرائق تساعدنا على النهوض بالتعليم والثقافة في واقعنا المعيش.

5- ما وقع فيه طه حسين من أخطاء أو مزالق، ويجب علينا أن نتجنبها، بقدر ما نتجنب ارتكاب مبالغة إيجابية أو سلبية، في التعامل، شخصيًا، موزعة بين «تدنيس» و«تقديس»، كعادتنا في النظر إلى الماضي، وهي مسألة رفضها طه حسين نفسه، وكان منهجه قائمًا بالأساس على مساءلتها ونقدها، ثم إعادتها في ثوب عقلاني واضح.

6- ما حدث من تطور لطه حسين في مجال السرد والنقد والدراسات التاريخية وتأريخ الأدب. وما حدث بعده. سواء في النظريات والأطر التفسيرية. أم في مناهج تناول النص والفكر والاقترابات العلمية. التي تجعله ماثلًا للأفهام. ويضيف عمار في مقدمته حول بحثه أنه من الطبيعي أن تكون النقطة الأولى متضمنة فيما يليها. إذ إن تناول النقاط الثلاث التالية. لا يمكن أن يستقيم على وجه سليم إلا بالعودة إلى ما يكتب عن طه حسين. وهو كثير وغزير. وإن تفاوتت قيمته. واختلفت اتجاهاته. وتباينت أنواعه بين المقال السيار. والدراسة الأكاديمية الصافية. والكتاب الذي يؤلفه كاتب أو باحث. انجذب إلى طه حسين. والكب على سيرته ومنتجه.


وحول منهج طه حسين يرى عمار علي حسن أن أغلب الناس تنشغل بالأفكار والقيم والمعاني والأساليب والصورة التي تحل فيما يسطره المفكرون وينطقونه. ويبنون أغلب آرائهم منه وعليه وله. لكن هناك قلة منهم تلتفت إلى طريقة التفكير فتنشغل بما انتهج حتى استنباط واستنتاج المضامين. وهذه القلة تدرك أن المنهج يمثل عصب أي علم أو معرفة جادة. وهو من الأشياء التي من دونها لا تقوم فكرة. ولا يمكن لفكر أن يضيف شيئًا ذا بال. 

ويضيف الكاتب الكبير في كتابه قائلا: رغم أن طه حسين بدأ رحلة التعليم في مسار ينشغل بالرواية قبل الدراية. ويسأل دومًا «حفظ» الدرس أو استظهاره قبل أن يسأل عن «فهمه». إلا أنه. باستثناء أشياء قليلة. أدرك منذ وقت مبكر. فضيلة المساءلة. وأثرها البالغ في التعلم الحقيقي. لقد اهتم طه حسين بسؤالين هما: «لماذا؟» و«كيف؟» أكثر من أي أسئلة أخرى. وهذا هو ما يعطي منتجه الفكري والأدبي حيوية. لم تنقطع إلى الآن. وجعله يقدم درسا متجددا في نجاعة التفسير والتأويل والتحليل والتعليل. ويعزز الإدراك العميق الذي يؤمن بأن العلم بمدخله وليس بموضوعه. وأن طرح الأسئلة. يكون في بعض الأحيان. أهم كثيرا من تقديم أجوبة جاهزة. لا يستسيغها إلا عقل كسول وحول المنهج لدى طه حسين وقضية الشعر الجاهلي يرى عمار على حسن أن ما يميز طه حسين عن الجميع أن انشغاله بالمنهج كان أوسع وأعمق كثيرا من انشغاله باستعراض النصوص. حتى إن كتابه الأشهر «في الشعر الجاهلي» ينطوي على مستويين غير متكافئين: أحدهما ثانوي وهو الشعر والتعامل معه. وثانيها أساسي قوامه ثورة منهجية تغير أساليب القراءة والكتابة. وأسئلة الحياة الاجتماعية»، وهذا ما لم يلتفت بعض منتقديه ممن رأوا أنه لم يحسن تطبيق نظريته على الشعر الجاهلي. بل اتهمه البعض بأنه لا يعرف هذا الشعر جيدًا. رغم أن كتابه هذا أعطى القضية عمقًا ونصاعة من خلال حواريته وأسلوبه الفريد. وهو ما تطرق إليه الكاتب لاحقًا.

تعرج الدراسة التي قام بها الباحث الكبير في علم الاجتماع السياسي، الدكتور عمار علي حسن، في مناحي عدة لطه حسين، بدءًا من علاقته بطلابه وفكره ومعاركه الأدبية والفكرية، وما كتب عنه على غزارته وما تقاعس العميد عن تناوله كالموروث الشعبي والصوفية.

وفي استعراض منهج طه حسين يرى الكاتب الكبير أن ذلك المحور اعتمد على الحوارية والتعدد وهو ما تفرد به طه حسين في حينه معتبرا أنه استقى ذلك المفهوم من روافد شتى أبرزها الفقه الإسلامي والمسرح الفرنسي والأدب والفلسفة اليونانية. كذلك اعتمد منهج طه حسين على الشك والتثبت عبر القرآن الكريم وعلم الجرح والتعديل ودراسة المنطق وعلوم العرب في الآداب والتاريخ والعلوم الحديثة بين نحن والآخر 
أما ثالث عناصر المنهج عند عميد الأدب العربي حسبما يراه الدكتور عمار فهو الإفاضة والإحاطة والذي استقاه من صباه  بالأزهر.

ثم تعدد الزوايا والاهتمام عند طه حسين بما أنتجه من معارف شتى في علوم ومباحث عدة أزال الحواجز بينها كالأدب والتاريخ والفلسفة والنقد واللغة.

أما خامس العناصر فهو التمييز في الدرس بين ما هو علم وما هو ديني.

ثم تطرق الباحث في سادس العناصر إلى أثر المنهج كمحدد اتبعه طه حسين في جل كتاباته وأفكاره
ويتطرق الباحث إلى الزاوية الثانية التي حددها كإحدى نقاط بحثه حول طه حسين والتي أسماها بالنص ومن واقع طه حسين يعتبر النص الشفهي هو إطلالته على الدنيا نظرا لظروفه الخاصة ونص بكر لا تعاد صياغته ولا يخضع للتنقيح والمراجعة وإنما ما خرج من فم طه حسين إملاء كان كما طبع ثم هو نص مميز يحمل طابع طه حسين أينما كان ومتى قرأ وله إيقاع يمتاز به عما سواه وتكراري متى احتاج بعض منه إلى التكرار للتوضيح أو التوكيد ثم هو نص متنوع جامع بين القديم والحديث منطلق من كونه الأزهري الذي خبر مفردات اللغة وطاف على آدابها ومكث غير قليل في عالمها محلقا في آداب لغات أخرى مزاوجا بين أفكار وآداب شتى وعلوم عدة صاهرا كل ذلك وغيره في بوتقته الشخصية.

ونص طه حسين حافل بالتناص مستفيدا من التراث عاملا على إعادة التراكيب اللغوية في صورة ناصعة نافضا عنها غبار المحسنات البديعية وتقعر الألفاظ فإذا بين يديك تعبير دقيق رقيق يحمل بصمة العميد متى قرأته عرفت صاحبه وهو نص وظيفي منطلق من الواقع وليس محسنات لفظية منقطعة الصلة عن مجتمعها
ثالثة الزوايا التي يبحثها عمار علي حسن هي ذات طه حسين التي لم يتناولها العميد ولم يتحدث عنها إلا قليلا رغم وقوف الباحثين والنقاد والذين داروا حوله مدحا أو قدحا عليها كثيرا كل يحاول أن يكشف بعض منها
في بحثه عن ذات طه حسين يصفه بالكاتب الحر الذي كانت حياته كلها كفاحا مريرا وسيلا متصلا من البحث عن التحرر والانعتاق من القيود خاصة تلك التي تشد إلى الخلف ويراه المنذور لمهمة عظيمة مستشهدا بما قالته زوجة العميد في إحدى رسائلها عن طه حسين.

ويراه يمارس الكتابة للناس دون تملقهم، يستوى في ذلك الحكام والمحكومون، العامة والمفكرون، ولا يلوي على شيء سوى الحقيقة. وهذا ما جعل طه حسين نسيجًا وحده بين الأدباء والمفكرين وناطقي لغة الضاد. وهو ما منحه اعتدادا بنفسه جعله رابط الجأش مجادلًا عنيفًا متمردًا على ما يراه، باحثًا عن المختلف، معترفًا بأخطائه متى ما استدعى الاعتراف ذلك، ثم هو المتشائم الذي يعتريه اليأس أحيانا وإن كان ذلك في بداياته وهو القادر على الفعل بواسطة المستطيع بغيره، نظرا لظرف العمى الذي أصابه طفلا. وهو في كل أوان ابن عصره وهو رجل الدولة المغبون الذي لم ينل حقه في حياته رغم استوزاره، والرجل في كل مراحله ينظر إلى الآخر بمرآة نفسه.
وإلى الزاوية الرابعة من مبحث الدكتور عمار حول طه حسين، تأتي الصورة، وهو مبحث لا يبتعد كثير عن زاوية الذات، فقاهر الظلام منذ صغره وحتى مماته عبر مسيرته يجتاز ما يعوقه، منذ سقوطه طفلا في إحدى قنوات ري الحقول. وينقل عمار رأي كبار المفكرين عربا وغربا في طه حسين وما أضفاه العمى عليه من غموض وتحد.

ثم هو التلميذ النجيب الذي لا يقف على حد، مجتازا مراحل البدايات مقدرا معلميه في كافة المراحل العلمية والتعليمية التي مر بها، ما جعله في نهاية المطاف فضلا عن كونه مفكرا بازغا معلما ماهرا مخلصا في أداء رسالته، محبوبا من تلاميذه صاحب مكانة رفيعة بين الكتاب والأدباء والمفكرين والشعراء كل يعقد له لواء الزعامة والمكانة والتجديد الذي منحه صفة المجدد في علوم شتى؛ لكنه في جانب منه متحايل إلى ما يريد واصل إلى مبتغاه ما جعله بين الرموز أسطورة في مجتمع يقدس الأساطير ما منحه مكانة صار بمقتضاها كأنه المواطن العالمي بمفهوم عصر الاتصالات الذي نحياه وصنع ذلك له صورة حاول خصومه خدشها وإنزال الرجل من عياء مكانته التي سمى إليها.

وحول مواقف طه حسين، وهو المبحث الخامس أو خامس الزوايا التي تناولها عمار حول عميد الأدب، فقد أثار الرجل غبار معارك كثيرة على مدار رحلته ظل لواء العدالة الاجتماعية مرفوعا على مر تلك المعارك ثم إصلاح التعليم ومجانيته كانت معركة ممتدة انتصر في نهايتها رغم اضطراب مساره السياسي وخوضه غمار مواجهات عدة مع خصومه السياسيين منذ العهد الملكي مرورا بثورة الضباط الأحرار، وعلاقته بالرئيس الرحل جمال عبد الناصر. كما تميز طه حسين في التعاطي مع علاقة الغرب بالشرق وكسر الصورة النمطية لدى كل طرف عن الآخر وحاول جعل تلك العلاقة قائمة على الندية التي تروم المنفعة وليس التبعية رغم وجودها في صور عدة وحاول جعلها علاقة تجمعها الأديان السماوية وتساعد على فهم تاريخنا وترفض النزعة الاستعمارية الاستعلائية. وهو في هذا أو بعض منه سائر على درب أستاذه الشيخ محمد عبده معتبرا أن المدنية الغربية ما هي إلا جسر للتواصل بين الثقافات والشعوب وينفي عمار عن طه حسين ما حاول خصومه إلصاقه به من تغريب وانسلاخ عن الثقافة العربية ومناهلها، معتبرا أن الرجل كان ثابت الأقدام وضارب الجذور في الثقافة العربية متشربا لها منذ طفولته وحتى رحيله. 

ولم تغب قضية المرأة ومناصرتها عن ذهن طه حسين فهي حاضرة فيما كتب وفيما روى من روايات لعل أبرزها دعاء الكروان.

ويختم عمار علي حسن بحثه الشائق عن عميد الأدب العربي بالأفق، وهو الزاوية السادسة في الدراسة، معتبرا أن أفق طه حسين صار بعيدا لم يطاوله أحد مكانة في عصره أو بين مجايليه، معتبرا أن طه حسين لم يكن منظرا مفكرا مثقفا حبيس الغرف المكيفة والصالونات الأدبية، وإنما نزل إلى الواقع واشتبك معه وتفاعل ضده صانعا لنفسه مكانته التي جعلت منه نموذجا خالدا عبر مر العقود من الزمن.