فراج إسماعيل يكتب: تفكيك «الحكاية» الغامضة!

ذات مصر

لم أتفهم أن يخصص مذيع "توك شو" شهير حكاية طويلة طويلة عن حفلات الرياض، وشعرت أن غموضًا يلف حكايته التي أخذت وقتًا لا تستحقه من مساحة برنامجه على قناة سعودية تبث من القاهرة، كأنه يتعارك مع طواحين هواء. أو أن هناك واجبًا عليه، فلم يجد سوى قصة وهمية عن غاضبين من انتقال هوليوود القاهرة إلى الرياض!

لا أعرف أين هؤلاء الغاضبين أو الساخطين الذين استفزوه، بحثت عنهم فلم أجد غير نشطاء السوشيال ميديا، سيما على موقع "تيك توك" ممن انتقدوا "حلم" مطرب من الثمانينيات شبه معتزل، والملابس غير اللائقة التي ظهر بها مطرب آخر، ورده بأغنية يقول مطلعها "سيدي يا مجمعنا" على مكالمة هاتفية من صاحب تلك الليلة الذي لا يوده جزء كبير من الشعب المصري، منتقدون يمثلون قوة الإعلام الجديد التي استفزت أعلى مذيع أجرًا في القنوات العربية، ومن المفترض أن لا يُستفز، ويضع الأمور في مكانها الصحيح.

الإعلام الجديد احتل مكانة الإعلام التقليدي والفضائي بامتياز. إنه أسرع وصولًا وتأثيرًا ويقوم عليه عشرات الآلاف ممن يطلق عليهم "الصحفي المواطن". ليس على رؤوسهم "بطحة" الرواتب الخيالية والعطايا، ولا يخضعون لأي نوع من الرقابة، ذاتية أو رسمية. كل منهم سيد قراره وفيديوهاته وكتاباته.

 لكن القاهرة نفسها، لم تسمع غناء "جوز" المطربين في جدة، ولم يعنِها جورب "الشبيكة" الذي ظهر على ذراع أحدهما وملابسه غير اللائقة، ولا حلم الآخر الذي تحقق بالغناء أمام أعظم شعب على حد قوله.

هذه أمور خاصة بهما، مجرد أكل عيش، لا تنتقص من قوة القاهرة الناعمة ولا تمثلها، والأدعى أن تتجاهلها.

القاهرة ليست خائفة أو حانقة. وليس ما يثار على مواقع التواصل من انتقادات، مبررًا لشغل وقت الناس بحكاية غامضة بدت كأنها دفاع عن "وزير الترفيه" الذي يتعرض لانتقادات متواصلة ليس فقط من الإعلام الجديد المصري، بل أيضا من السعودي، الذي يلومه على هدر المال على الغناء والحفلات، وجلب مطربين ومطربات تخطاهم الزمن في بلادهم.

المصريون قضيتهم وشاغلهم تكاليف المعيشة، طبقة متوسطة اختفت تمامًا في ظل الغلاء الخانق، وهبطت إلى الطبقة الأدنى، وتقديرات تشير إلى أن 60% من جملة المصريين يعيشون تحت خط الفقر.

ليس من المعقول في ظل ذلك، أن تخاف من إعادة إحياء مطرب من الثمانينيات، كنت أظنه اعتزل منذ عشر سنوات!

كثيرون لا يتذكرون أيًا من أغانيه التي أعاد غناءها أمام جمهور جدة. أجيال جديدة قد لا تعرف اسمه.

شخصيًا لا أتذكر له سوى ادعاء مفبرك من الخرطوم، عقب هزيمة مصر من الجزائر في مباراتهما الشهيرة، بأن الجماهير الجزائرية تكاد تفتك به، ولم يكن ذلك صحيحًا.

مجرد ادعاء سياسي في إطار مشروع التوريث، فالصعود إلى كأس العالم في تلك المباراة، كان بمثابة بداية الصعود إلى كرسي الحكم.

 لماذا لا نعتبر كلام الحاضر لذلك المطرب، بخفة كلام الماضي؟!

لا هذا المطرب ولا ذاك يمثل قوة ناعمة. ولو قررا البقاء هناك والتجنس بالجنسية السعودية فلن يهتم أحد في مصر لأنه لن ينقص من قدرها. 

حفلات الرياض ليست قصة الأمس ولن تكون قصة الغد، وكما قال مذيع "التوك شو" صاحب أطول حكاية غامضة: "القاهرة ليست بهذه الهشاشة".

قوة مصر الناعمة، أبطالها الرياضيون الذين يفرون منها للتجنس بجنسيات دول أخرى، بسبب عدم تقديرهم ماليًا، مثل هروب بطل المصارعة فؤاد بغدودة من البعثة في تونس، إلى فرنسا، ووالده سائق التوكتوك قال لموقع قناة الحرة إن مجهود ابنه وعمره ضاعا دون تقدير أو مقابل.

هربت قبله مواهب أخرى لذات السبب.. قوة القاهرة الناعمة، علماء مصر في الخارج الذين لم تتسع لهم إمكانيات بلدهم ولا اهتماماتها، وعلماؤها في الداخل وأطباؤها الذين يهاجرون لتدني  رواتبهم هنا. 

القاهرة لا يعنيها أن يخطف منها لقب هوليوود الشرق في الفن، فهو بكل منتجه لا يسمن ولا يغني من جوع.  مصر تبحث عن نفسها وسط غول المعاناة اليومية، وتكرار تصريحات الأخوة في الخليج بأن عهد تقديم المساعدات والإعانات المجانية لها قد مضى، وآخرها تصريح وزير المالية القطري على الكواري لقناة بلومبيرج، وأنهم ينظرون إلى استثماراتهم في مصر نظرة تجارية بحتة، يبغون من وراءها أكبر عائد.

هذا حق دول الخليج ولا يملك أحد مصادرته، لكن أن يسير ذلك جنبًا إلى جنب مع ضغوط شديدة تهدف إلى تعويم جديد للجنيه المصري، في سبيل عوائد أكبر لهم، وحتى تنزل قيمة الأصول المعروضة للبيع، فذلك ما يشغل أهل مصر، لأنه يعني مزيدًا من المعاناة والضعف وفقد القوى الناعمة الحقيقية، التي لن يملأ فراغها الخليج بكل أموال النفط وغير النفط.

تلك هي المعركة الحقيقية، وفصل الخطاب، وفك لوغاريتمات الحكاية الغامضة.

القاهرة لن تنشغل أبدًا بهجرة الفنانين إلى المال الوفير. فهم بالفعل بلا عمل هنا. إنها منشغلة بكبريائها المخدوش اقتصاديًا، لدرجة أن زميلًا للمذيع الشهير، يقدم برنامجًا رياضيًا على شاشة القناة نفسها، يقترح بيع نادي الأهلي بملياري دولار، وهو أحد أهرامات مصر الباسقة!

في الواقع لا يقبض هؤلاء رواتبهم من السعودية. القناة تبيع سلعًا مصرية في شكل حكايات ومسلسلات وقصص، وتجني عائدًا إعلانيًا ضخما من السوق المصري.

ولو تمت مقارنة عائدها الإعلاني بالقناة الأم في دبي أو الرياض، ستجد أنها تتفوق عليها.

إذا سئلت: بماذا يجب أن تنشغل القاهرة؟.. سأجيب فورًا دون لف أو دوران.. بالبديل الذاتي. تشغيل الإنتاج الصناعي، وتصنيع المواد الخام بدلا من تصديرها وإعادة الاعتبار لإمكانياتها الزراعية.

لا يجب الاستسلام للمشي على عكاز الخليج. عليها الاتجاه إلى عمقها الأفريقي. فهو العمق الذي يُعتمد عليه، والاتجاه لدول شرق أوسطية أو إقليمية، لديها إمكانيات صناعية عظيمة أو واعدة. عندئذٍ ستتحول مصر إلى مركز إقليمي لإعادة التصنيع وتصديره، استغلالًا لموقعها الحيوي في أفريقيا والشرق الأوسط وبين الدول العربية.

تركيا مثلا لديها قدرات صناعية يستورد العالم منتجاتها المتنوعة، طائرات مسيرة، وسيارات، وصناعات ملابس وغذاء وغيرها الكثير.. بعض المواد الخام لتلك الصناعات متوفر في مصر، ونقوم بتصديره بمقابل بسيط، ثم نستورد المنتج الذي يدخل في تكوينه بمقابل دولاري لا يتوفر لنا.. لماذا لا ننقل تلك الصناعات إلينا مستفيدين مما أُنفق على بنية تحتية وشبكات طرق وموانئ.

هناك أيضا ماليزيا وإندونيسيا والهند وجنوب أفريقيا.. العكاز الخليجي، لن ينقلنا إطلاقًا إلى مرحلة الاقتصاد الذاتي القوي المزدهر، لدينا تجارب صناعية ممتازة في الستينيات، وتجارب زراعية عظيمة في العهود الملكية والخديوية.. هذا ما ينبغي أن تفكر فيه القاهرة.