فراج إسماعيل يكتب: قوة الدولة من قوة صحافتها

ذات مصر

عندما يقال إن صحيفة يومية كبرى تطبع عشرة آلاف نسخة فقط بعد أن كانت توزع في الثمانينيات والتسعينيات نحو نصف مليون نسخة ومليون نسخة لعددها الأسبوعي.. فهذا يجب ألا يبرر بظهور الإعلام الجديد فقط.

كل الصحف الورقية العالمية ذات البريق زاد توزيعها وأضافت إليه مبيعات الاشتراكات في مواقعها الرقمية، والترويج عبر جميع منصاتها.

مصر سوق متسع جدا لقراء الصحف. ما الذي يجعل صحفا كبرى في حجم الأهرام، وهي أعرق صحيفة شرق أوسطية، والأخبار وأخبار اليوم والجمهورية، تنسحب من هذا السوق  الضخم.

لا يمكن أن يكون الإنترنت هو المنافس، في بلد يعاني ضعفا في شبكاته، وواي فاي محدود ومرتفع التكلفة.
ناهيك عن اتساع مناطقه النائية والمتباعدة، ووجود أجيال مرتبطة بالنسخ الورقية؟!

إذا افترضنا أنه الإنترنت، فلماذا لم يستغل بمواقع ومنصات قوية؟!.. مواقع ومنصات تلك الصحف مجهولة في سوق الأخبار. معدل مشاهدة وقراءات متواضع. لا أحد ينقل عنها أخبارا أو مقالات. وحتى سلعة كرة القدم التي كانت تلك الصحف تبيع بها، لم تعد جذابة كما كانت إلى سنوات ليست بعيدة، تحديدًا قبل 2011. بل لا يسمع عنها أحد.

لطالما صنعت الصفحات الرياضية لتلك الصحف نجوما كنجيب المستكاوي في الستينيات والسبعينيات وإسماعيل البقري وعبد المجيد نعمان وناصيف سليم وحمدي النحاس (صانع بهارات عناوين جريدة المساء الكروية) ومحمود معروف وغيرهم.
بلغني أن إحدى تلك الصحف، في ظل النسخ المطبوعة المحدودة، لم تعد توفر نسخا لصحفييها، وأحالتهم إلى منصتها الإلكترونية.

منافذ بيع كثيرة على مستوى مصر، اختفت منها تلك الصحف.

لو سئلت: أين المشكلة إذن؟!.. فإجابتي لن تخرج عن مقارنة بين الصحف الغربية التي أهتم بقراءتها عبر منصاتها، والاشتراك في بعضها الذي يتطلب ذلك، والصحف المصرية.

المقارنة ظالمة بالطبع. كيف تقارن صحافة قوية تتمتع بانسياب المعلومات دون فلترة رقابية، ما عدا الفلترة المهنية، وبين صحافة حارس البوابة الذي لا يمرر إلا ما يرضي الدولة؟!

القراء لن يشتروا صحيفة دعاية وأخبار موجهة وعناوين متشابهة. كلها عوامل لا تسد نفس القارئ فقط، بل تجعل الصحفي بعيدًا جدًا عن سباق الجري لانتزاع أخبار حصرية، تنقل عن صحيفته، وتجعلها مصدرًا موثوقًا.

سيقال إن العهد الناصري كان نموذجًا للديكتاتورية وتكميم الأفواه، لماذا كانت "الأهرام" مصدرًا وحيدًا للعالم عما يجري في مصر في الداخل، وفي مجالها الإقليمي؟!

إنه محمد حسنين هيكل. كان مفتاح العالم لفتح خزانة أخبار مصر، بقربه من صناع الأخبار، جمال عبد الناصر ورفاقه، ثم جزء مبكر من عهد السادات.

هيكل مثل وَحْدَهُ صحافة قوية منحت مصر قوتها الإعلامية في زمن كان التكميم فيه مسيطرًا، لأنه كان يفصل بين دوره كصحفي، وبين أي تأثير لاقترابه من السلطة. على العكس جعل من هذا الاقتراب سببا في تميزه، فمقاله الشهير "بصراحة" كان مقال أخبار ومعلومات ينقل عنه، وينتظره العالم صباح كل جمعة.

لا يوجد ما يصنع الصحفي سوى مهارته ودأبه وقدرته على عبور المحظورات المعلوماتية.

هيكل لم يصنعه القرب من السلطة، ولم يكن الاستئثار بها كم أتهم من زملائه في جيل الستينيات، سببا في تفوق "الأهرام".
هناك عديدون في زمننا قريبون من السلطة ويستأثرون بها، لكن أداءهم متواضع وصحفهم متراجعة، ومقالاتهم موضوعات إنشاء.

في عهد السادات عشنا مع صحفيين كبار يتابعهم العالم. موسى صبري ومصطفى وعلي أمين وجلال الدين الحمامصي وأحمد بهاء الدين وإبراهيم سعدة وأنيس منصور وآخرين.

هؤلاء كانوا صحفيين أقوياء لم يؤثر على أدائهم المهني اقترابهم من السادات، أو على الأقل لم يكن التأثير عائقا لمهنتهم.
نحن إذن نحتاج لصحافة قوية بفتح الأبواب والنوافذ لها، وبحاجة لجيل جديد يقودها، مدرب على الشجاعة والجرأة، ولا يرضى لنفسه أن يكون بوق دعاية.

إذا أرادت أن تستعيد الدولة دورها الإقليمي السابق، فلتحقق هذه المعادلة.

وجوه صحفية وإعلامية من عهد مبارك تتصدر المشهد حاليًا، لابد أن تنحيها الدولة جانبا وتقدم أخرى تبحث عن التميز والتفوق المهني.

يجب ألا يغضب هذا الرأي بعض الزملاء القدامى. من الطبيعي أن لكل حَلبة فرسانا مهيئين ومدربين على عبور حواجزها.
الجيل الجديد المتعلم والدارس والذي تمتد مهاراته إلى مجال الإعلام الجديد، يحتاج إلى الفرصة ومعها الحرية.

الولايات المتحدة لم تكتسب قوتها العظمى من تفوقها العسكري والتكنولوجي، وإنما من صحافتها النافذة التي تتسابق فيما بينها من أجل الخبر والمعلومة والتفرد والرأي الذي لا يحني قامته.