هشام الحمامي يكتب: 23 يوليو .. لمحة من (التاريخ المخفى)

ذات مصر

الحديث عن 23 يوليو لا يكتمل في الحقيقة إلا إذا أخذنا طرفا هاما من أطراف خيوطه العديدة المتزامنة معه وسحبناه إلى منتهاه .. وأقصد به خيط (حريق القاهرة) الشهير الذى حدث قبل حركة الضباط بستة أشهر فقط (26 يناير1952م) .                                                                      

وهو الحدث الذى يتصل اتصالا وثيقا وحاكما ودالا للغاية بما قبله وبما بعده ..ما قبله كان 25 يناير وما بعده كان 23 يوليو من نفس السنة 1952م ؟! 

في يوم 25 يناير دارت موقعة من اشرف المواقع العسكرية بين 500 جندي وضابط مصري و7000 إنجليزي ، بمدرعاتهم ودبابتهم ! وقٌتل فيها 50مصريا بين ضابط وجندى ..

وانتشر الخبر وعم ربوع البلاد وشعب البلاد .. وفى الساعة السادسة من صباح 26 يناير قام الجنود بتمرد فى ثكناتهم بمنطقة العباسية بالقاهرة وامتنعوا عن القيام بمهامهم الخاصة بحفظ النظام، وعند الظهر تجمعت مظاهرات الطلاب للذهاب إلى ميدان الأوبرا بقلب القاهرة والتوجه إلى جامعة القاهرة للاحتجاج على ما جرى بالإسماعيلية.. 

***

وإذ تبين أن (ثورة كبرى) على وشك الاشتعال وتحمل بداخلها كل أسباب ومقدمات ونتائج نجاحها وتحولها إلى ثورة شعبية حقيقية_ وضع تحت هذه الجملة ألف خط_ فما كان من (التاريخ المخفي) إلا أن يحكى لنا أنه .. وفى الثانية عشرة ظهرا من نفس اليوم ..كانت النيران قد اشتعلت فى نحو 300 محل من أكبر المحلات التجارية و30 مكتبا لشركات كبرى و117 مكتب أعمال وشقة سكنية و13 فندقًا كبيرًا و40 دار سينما و73 مقهى ومطعما. 

كل المصادر وشهود العيان وقتها أكدوا أن الحادث لا يمكن إلا أن يكون (مدبرا) وأن المجموعات التى قامت بتنفيذه ، كانت على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، لا يمكن أن يتوفر إلا لرجال (مخابرات مجهزين لعمليات خاصة) فقد كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق وكانوا على درجة عالية من الدقة والسرعة والمهارة فى تنفيذ مهمتهم.

***

كانت مظاهرات صباح 26 يناير من أروع وأعظم المشاهد فى تاريخ المصريين منذ ثورة 1919 م فجاء حريق القاهرة (حائطا صادا صلبا كريها مريبا) ليمنع ثورة ، كانت في التمام والكمال من كل مقومات الثورات التاريخية الملهمة ، والتي كانت ستغير وجه الشرق كله، وكانت ستصبح وبحق بمثابة الثورة الأم لكل العرب والمسلمين في كل العالم، كما كانت الثورة الفرنسية في أوروبا (1789م).. 

لكن القوة (الأنجلو _أمريكية) الصاعدة بعد انتصار الحرب العالمية الثانية والتى كانت بصدد إتمام الخطوة الأخيرة ، من مشروعها النهائي لصورة عالم (ما بعد انتصارها ) ..كانت هذه القوة ترتب للعالم الجديد ، والذى يشكل فيه الشرق الأوسط بموقعة وبثقله الحضارى والتاريخى مجالا هاما للغاية في من مجالها الاستراتيجي الواسع  ويتصل اتصلا قويا بمصالحها الكبرى .. وأيضا بعد وضع المسألة اليهودية في اطار تاريخي جديد ( دولة قومية) تحت الإشراف التام لهذه القوة الأنجلو- أمريكية .. 

***

 

الحاصل أن السيطرة الفورية المحكمة تمت على كل شيء، وفورا، أُعلنت الأحكام العرفية، وأُقيلت الحكومة .. وبعد ستة أشهر بالتمام والكمال، قام (الضباط) بقلب نظام الحكم، وإخراج الملك ببساطة بالغة من البلاد وتم كل ذلك سريعا سريعا، كإعداد وجبة فطار لطفلين !!.

وبرعاية أمريكية كاملة ممثلة في السفير (جيفرسون كافرى/ ت1974م )سفيرها بالقاهرة والذى كان في وداع الملك بنفسه شخصيا .. كل هذا والقوات البريطانية على بعد كيلومترات من القاهرة .. 

***

وأي شيء سيكتب عن حركة الضباط في صبيحة هذا اليوم، بعيدا عن الحضور الكامل في كل الترتيبات للقوة الانجلو-أمريكية التي ستحكم العالم (ولازالت) .. سيكون كلاما ناقصا ومعيبا ومخالفا لكل الحقائق التي يرجى منها فقط، أن تظل حقائق ..! 

وكل ما حول ذلك من أحاديث عن استنجاد الملك بالقوات البريطانية والسفير الأمريكي، أشبه بالكريز الجميل على وجه التورتة الثورية الجميلة، التي سيتم تسويقها لاحقا .

***

ولنا ان نتخيل السهولة البالغة التي غادر بها الملك البلاد، فالرجل يعلم جيدا أنه كان جزءا من عنوان تاريخي ضخم  في الشرق الإسلامي اسمها (الأسرة العلوية).. وتاريخها لم يكن من قرون سحيقة .. لذلك سنرى أن موقفه كان النسخة التاريخية المعادة، من موقف جده رحمه الله سنة 1840م ..

ليست المعادة فقط ولكن الخاتمة أيضا لهذه العنوان التاريخى وهذه الحركة التاريخية التي تزامنت مع وقت تميز بالسيولة الدولية الشديدة، والصراعات الكبرى بين قوى ستصعد وقوى ستغيب، وعن مجارى التاريخ الحديث الذى سيتم تحديد مساراته الكبرى (الفكرية والفلسفية والاقتصادية والسياسية) عبر حربين عالميتين (1914ثم 1937م). 

سيكتمل حديثنا عن هذا الظل المخفي من ظلال حركة الضباط، بما سنقرأه في مذكرات أحد أهم أعضاء الضباط الأحرار (عبد اللطيف بغدادي/ المكتب المصري الحديث)..من أنهم كانوا قد حددوا عام 1955م للقيام بحركتهم المباركة .. لكنهم (بعد الحريق) قاموا بها بعد ستة أشهر فقط. 

***

لا يستطيع أحد أن يتهم الضباط بحريق القاهرة.. الموضوع كان أوسع وأكبر منهم كثيرا .. لكن القاهرة كانت فى هذا الوقت (مركز أعصاب) كل أجهزة المخابرات العالمية فى الشرق.. وبريطانيا كانت تعى (تجربة ثورة 1919م ) في مصر، والتي كانت ثورة من أعماق الروح الحضارية للمصريين، ولم تكن بوارد انتظار ثورة شبيهة بها ، في وقت من أخطر أوقات التاريخ الحديث لكوكب الأرض. 

لكن ما نعرفه أنه لم يجر تحقيقا واحدا بحجم هذا العمل الرهيب غير العادي والذي نسبه الأستاذ هيكل(ت/2016م) إلى (مجهولين)، وكأنه كان حريقا في فرح بنت العمدة مثلا!

***

إن يكن من أمر .. فها هى حركة يوليو تطل في ذكراها على البلاد وشعب البلاد بأهدافها الستة المشهورة شهرة الطير في السماء: القضاء على الإقطاع/القضاء على الاستعمار/القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم/إقامة جيش وطني قوي/ إقامة عدالة اجتماعية/إقامة حياة ديمقراطية سليمة.

وللتاريخ وحده الحكم عليها ،وعلى أهدافها ،وعلى من تحرك بهذه الأهداف.. لتكون واقعا يبنى عليه المصريون تاريخهم، الذى كان يليق بهم وبمصرهم .. بل وبالشرق كله.