هشام الحمامي يكتب: الإعلام.. والإنسان كما (يٌراد) له أن يكون..!!

ذات مصر

كان الكاتبان الإنجليزيان الدوس هيكسلى (ت/1963م )في رواية (عالم جديد جريء ) وجورج اورويل (ت/  1950 م) فى رواية( 1984) قد تنبأ فى روايتيهما هاتين، بخطورة (القوة الإعلامية) التى ستحكم العالم فى المستقبل.

وأيضا بخطورة وقوة أجهزة المخابرات، والتتبع والمراقبة، والتى عادة ما تلحق بالسلطة المركزية وتمكنها من إحكام السيطرة على حياة الناس في كل وقت وفى كل مكان. 

سيمثل (الإعلام) لأجهزة المخابرات كل يوم جديد ما هو أعمق وأكبر وأبعد مدى مما كان ومضى. وذلك في عملية  فرض الأفكار والآراء على العقول والخيال. 

لا نبالغ إذا قلنا أن العالم من منتصف القرن الماضي تقريبا تحكمه هاتان القوتان، وهما إذ بدأتا فى الاضطلاع بهذه المهمة الكبرى فقد أخذا دورهما  يتطور ويتعملق مع تقدم تكنولوجيا الاتصالات والدعاية إلى حدود غير مسبوقة، كما سبق.

***

لذلك فلن نندهش من أن يهتم مفكر بحجم الفيلسوف الفرنسى (بيير بورديو) ت/ 2002م صاحب مفهوم (إعادة الإنتاج في مجال الاجتماع الإنساني) وصاحب التأثير العملي الواسع على الحركات الاجتماعية والسياسية الحديثة، أن يهتم بتحذيرنا من (التأثير الاستعبادي) للإعلام على (براءة الإنسان) في النظر إلى الأشياء.

الإنسان الذى سيصبح (كائنا كما يٌراد له أن يكون) دائما موافق لا يدهشه شيء.. ولا يستلفته شيء.

 بورديو يكاد يكون فرغ نفسه فى العقد الأخير من حياته لمواجهة هذه (المأساة البشرية) المسماة بوسائل الإعلام والميديا، وشن نقداً حاداً على فسادها وتبعية عدد من المثقفين الذين أطلق علي بعضهم وصف (كلاب الحراسة الجدد) مستلهما من اسم كتاب بول نيزان(ت/1940م) الشهير (كلاب الحراسة) الذى صدر سنة1932 م والذى وصف فيه  المثقفين والصحافيين مٌدَعى المصداقية والموضوعية والاستقلالية والحياد .. بأنهم مجرد حراسا للأنظمة الاجتماعية والسياسية القائمة، يبررون خطاياها، ويزينون أفعالها .. ويهيؤون الرأي العام لتقبل الأزمات والكوارث. 

***

ولأن التلفزيون يتمتع باحتكار واقعي على رؤوس جزء كبير من الناس، وتحديد ما يفكرون به كما يقول بورديو..  

فقد كان له النصيب الأكبر من اهتمامه، وذلك للدور الخطير الذي يقوم به في تكريس الوضع القائم لمصلحة من يستفيد من بقاء واستمرار هذا الذى هو قائم ..

 ليس هذا فقط بل والأهم فى تجويف وتفريغ فكرة السياسة والمراقبة والسؤال والمشاركة، والعمل السياسي نفسه من مضمونه، والتلاعب بعقول الناس.        

وله كتاب مشهور بعنوان (التلفزيون وأليات التلاعب بالعقول) ترجمه المترجم المصرى أ/درويش الحلوجى.. أقام فيه وبه حجة كبيرة على أصحاب فكرة (الإرادة الحرة للإنسان الحر!! ). 

أنتهى بورديو إلى أن القنوات التلفزيونية أصبحت في هذا العصر من تاريخ الإنسانية، هي الأداة الرئيسية للضبط والتحكم الاجتماعي.. ويصف هذه القنوات، بأنها عبارة عن أداة من أدوات (العنف الرمزي) الذي تمارسه السلطة وشلة المستفيدين  منها.                                 

فبحكم التأثير الواسع للتلفزيون، يعتبره بورديو خطراً كبيرا وداهما على كل شيء، على الحياة الفكرية والثقافية، على السلوك الأخلاقي للناس، على السياسة وفكرة الديموقراطية نفسها. 

وأن من يتحكمون في برامجه يهدفون الى شيء واحد ..وواحد فقط .. وهو المزيد والمزيد من افتراس الضحية… (الجمهور) الذي قدم عقله بين يدى هذا السحر وهذا الساحر.                                                                                                                 

بورديو يشبه عمل التلفزيون فعليا بهذا التشبيه ..عمل (الحواة والسحرة) !! فهؤلاء يقومون بعملهم الذي جوهره جذب الانتباه نحو شيء آخر .. غير الذي يقومون به.

سنتذكر سحرة فرعون والأية الكريمة عن تخييل عيون الناس !! (...يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) كما ورد في سورة طه.                                                                     

ويقول: فقد اكتشفنا أن دور التلفزيون هنا يشتمل على عمل مزدوج المهام ..إظهار شيء وإبرازه .. وإخفاء شيء أخر ونسيانه .. دوره يظهر ويخفي. 

***

يقول بورديو : إذا ما تم استثمار ساعات البث الثمينة من أجل أشياء تافهة جداً ، وفارغة جداً،  فإن هذه الأشياء التافهة ستصبح (هامة جدا) ..!! 

وتكمن أهميتها تلك في قدرتها على إخفاء أشياء ثمينة للغاية وهامة جدا.. هكذا هو التليفزيون.. والذى اصبح بكل أسف أداة (لهيمنة السلطة وقوى المال ونخب المصالح)  .. وأداة تمرير لما تتطلب هذه الجهات النافذة.

على حين يفترض ان الهدف الأساسي منه في بدايته .. ومن الإعلام بوجه عام .. أن يكون أداة تنوير وتثقيف وتوعية وانضاج للوعي والواقع بما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية (إعلام حقيقية صادقة)  لكل ما يجري .. وفي حيادية تامة.

 لكن هذا للأسف  لم يحدث، بل وتمت عمليه إبعاد للناس، عن السياسة والثقافة وكل معالى الأمور .. والعمل بكل همة ونشاط على تعميم ونشر سلوكيات..  الاستهلاك والتسلية والكسل المفرط والسلبية والإذعان.