حسين القاضي يكتب: هل تتسبب الزلازل والفيضانات في زيادة الإلحاد؟

ذات مصر

الظواهر الكونية الاستثنائية مثل الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير والسيول والفيروسات القاتلة، كل ذلك يثير سؤالا مشكلا: لماذا خلق الله الشر؟ لا سيما مع المشاهد المأسوية، كالتي رأيناها في زلزال المغرب، وإعصار دانيال في ليبيا، من مئات الجثث المتناثرة فوق المياه، وغرق مئات الأطفال، ومناظر الدفن الجماعي، والدماء التي تتطاير.

وكان من الممكن أن يزول الإشكال لو أن الزلازل والأعاصير والأمراض والأوبئة أصابت أهل المعاصي وتركت الطائعين، أو هدَّمت أماكن المجون وتركت أماكن الطاعات، لكن الظواهر الكونية لم تنتق أو تنتخب، بل جاءت على الأخضر واليابس، وعلى المساجد وغيرها، وعلى الأطفال الذين لا ذنب لهم، ولم يقترفوا معصية بعد.

لن نطيل هنا في التركيز على فكرة مغلوطة غير منطقية ولا عقلية، لطالما رددها البعض من ربط الكوارث بالعقاب الإلهي، أو بيوم القيامة، يعنينا هنا الحديث عن نشأة السؤال القديم الحديث: لماذا خلق الله الشر؟ ولما الكوارث تصيب الأبرياء والمؤمنين؟ ولماذا يوجد شر في الكون من إله صفاته الرحمة والرأفة والكمال؟، وكيف للرب الرحيم أن يخلق الزلازل والبراكين والأمراض فضلا عن شرور كالظلم والحقد؟، ومن هذا السؤال المشكل تولدت شريحة كبيرة من الملحدين، وصار السؤال عن خلق الشر مادة السجالات المتجددة مع كل كارثة طبيعية جديدة، مع ندرة المؤلفات في الرد على هذه الشبهة، وقد وجدت دراسة أميركية أن 17% من أسباب الإلحاد تنطلق من هذه الإشكالية.

الملحدون ينقسمون إلى 4 شرائح، الأولى شريحة الملحد الكامل، الذي ينفي وجود الإله، ويعتقد أن الكون وُلد من خلال نظريات فيزيائية أشهرها نظرية الانفجار العظيم، (وخلاصتها أن الكون كان صغيراً وكثيفاً وساخناً، ثم وقع انفجار عظيم أدى إلى توسع هذه النقطة الصغيرة، لتصبح أكبر من حجمها الأصلي بمليارات المرات)،  والنوع الثاني هو الملحد الربوبي، وهو المقتنع بوجود إله، لكنه ينكر النبوات والمعجزات والتشريع، والنوع الثالث: الملحد "اللا أدري"، وهو الذي اختار أن يجمد القضية، والنوع الرابع: هو الملحد المنفجر نفسيا، وهو أكثر الأنواع انتشارا في بلادنا العربية، وصاحبه لا ينكر وجود الإله، لكنه حزين من الإله بسبب عدد من الإشكاليات أهمها: وجود الشر في الكون، ويسأل: لماذا يوجد شر في الكون من إله من المفترض أنه من صفاته الرحمة، ولا يجد إجابة، بل أحيانا يجد تحريما ومنعا لسؤاله واتهامات له من رجال الدين بمجرد السؤال، ويمكن مراجعة سمات وخصائص كل شريحة من المحاضرة التي ألقاها فضيلة الدكتور أسامة الأزهري في جامعة أسيوط في مايو 2023م.

إن شبهة الشر الموجودة في العالَم بسبب الكوارث أو الأمراض من الشبهات التي تعتري عقول المشككين، وكثرت بين الشباب في ظل عالم مفتوح، وقد عرض عدد من مفكري الإسلام إلى الرد على هذه الشبهة، كالأستاذ عباس محمود العقاد في كتابيه: (حقائق الإسلام وأباطيل وخصومه)، و(عقائد المفكرين في القرن العشرين)، واضطلعت الكنيسة المصرية بدور كبير في توعية الشباب المسيحي بخطورة الإلحاد.

العقاد وصف شبهة وجود الكوارث والشرور في الدنيا بأنها من أقدم الشبهات التي واجهت العقل البشري، وأن فكرة الشر في العالَم - التي تسببت في تشكك البعض في الدين- يمكن حلها بفكرة (التكافل بين أجزاء الوجود)، وهو الحل الأقرب إلى الإقناع من الحلول التي جاءت على أيدي الدعاة والعلماء والحكماء، وخلاصة فكرة التكافل بين الأجزاء التي أوردها العقاد في كتاب حقائق الإسلام وأباطيل خصومه: "أن الشر لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزء متمم له، وشرط لازم لتحقيقه، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدة، فنحن لا نعرف لذة الشبع بغير الم الجوع، ولا نستمتع بالرِّي ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح".

هذا الحل الذي يفك به العقاد إشكالية خلق الله للشر حل قد لا يكون مقنعا للمسلم المتدين، فضلا عن أن يكون مقنعا للمتشكك في دينه، فجواب العقاد لا يغني الحائر المتردد عن سؤاله، لذلك يضيف العقاد موضحا، فيقول:

"إذا كان الإله الذي توجد النقائص والآلام والكوارث في خلقه إلها لا يبلغ مرتبة الكمال المطلق، فكيف يكون الإله الذي يبلغ هذه المرتبة في تصورنا؟! أيكون إلها قديرا ثم لا يخلق عالما من العوالم على حالة من الحالات؟ أيكون إلها قديرا يخلق عالما يماثله في جميع صفات الكمال؟ هذا وذاك فرضان مستحيلان أو بعيدان عن المعقول، كل منهما أصعب فهما، وأعسر تصورا من عالمنا الذي ننكر فيه وجود الكوارث، فلا معنى للقدرة التي هي من صفات الله ما لم يكن معناها الاقتدار على عمل من الأعمال، وأما الكمال المطلق الذي يخلق كمالا مطلقا مثله فهو نقيضه في حق الله، لأن الكمال المطلق صفة منفردة لا تقبل الحدود، ولا أول لها ولا آخر، ومن البدهي ألا يكون الخالق والمخلوق متساويين في الصفات، وألا يخلو المخلوق من نقص يتنزه عنه الخالق، فاتفاقهما في الكمال المطلق مستحيل يمتنع عن التصور، وتصوره مشكلة من المشكلات".

 والخلاصة التي يصل إليها العقاد أن وجود الشر في العالَم لا يناقض صفة الكمال الإلهي، ولا يتعارض مع القدرة الإلهية، كما أن الشر ليس مشكلة كونية أو عقلية، وإنما مشكلة الهوى النفسي الذي يرفض الألم ويرضى بالسرور، ومن ثَم كانت هذه المشكلة عصية على الفهم والإدراك".

في كتابه المهم (مشكلة الشر ووجود الله) الصادر عن المؤسسة العلمية الدعوية العالمية بالسعودية، يقول الدكتور سامي عامري ما خلاصته: "حكمة الله أكبر من أن تكون مجرد خلق للخير فقط، فحكمته تتم بخلق المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار، والعلو والسفل، لتكون محل ظهور الحكمة الباهرة، والقدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام، وتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيلا لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، فلو كان الخلق كلهم مطيعين عابدين حامدين لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى، إذ كيف كان سيظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والقهر والانتقام والعز".

هذا كلام العقاد وكلام الدكتور عامري، وهو كلام وجيه، بل إن بعض الملحدين تراجعوا عن إلحادهم بسبب وجاهته، فيتساءل أحد الملحدين عن سبب إحساسنا بالشر، قائلا: إننا لو افترضنا غياب النور وطمس أعين الكائنات، فإن كلمة "الظلام" ستكون بلا معنى، ولكي يتمكن الإنسان من وصف خطّ ما بأنه مُعوجّ، فلا بد أن يكون على دراية بماهية الخط المستقيم" وبعد هذا المنطق رجع عن إلحاده.

هل نقول إضافة على كلام العقاد وغيره: إذا كانت الكوارث التي تصيب من لا ذنب لهم تعنى التشكيك في وجود الله، فهذا معناه أن الشر يجب أن يختفي، ولكي يختفي الشر فلابد من وجود إله يمنعه، إذن رجعنا مرة أخرى إلى أن الله موجود، لكن هذا المنطق العقلاني لا يقبله الملحد المنفجر نفسيا، لأنه يريد تقديم إجابة منطقية لسبب وجود الابتلاء في الدنيا.

ولكن يظل هذا الكلام وحده غير كاف للرد على شبهات شباب اليوم، لا سيما من جيل الإنترنت وجيل z، وهناك استبيان أجرته مؤسسة طابة للأبحاث حول موقف جيل الشباب المسلم من الدين وعلمائه في عدد من الدول العربية، وجاء فيه أن 60% في لبنان ممن شملهم عينة التحليل يعتقدون أن التشكيك في الدين زاد، ونفس النسبة في اليمن، و57 في العراق، و53 في السودان، وأن نسب مئوية مخيفة رأت أن سبب التشكك في الدين يرجع إلى عدم العثور على إجابات مقنعة عن أسئلة حول الدين، أهمها السؤال عن سبب وجود الكوارث في الدنيا.

بل إن عالما كبيرا من علماء الإسلام هو ابن الجوزي يقف متعجبا مذهولا من فكرة وجود الشر في العالَم، فيقول في (صيد الخاطر): لقد تأملت حالا عجيبة، مثل موت شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانُه، وأعجب من ذلك أن الله يأخذ طفلا من أكفِّ أبويه، ولا يظهر سرَّ سلبه، والله غني عن أخذه، وأبويه أشد الخلق فقرا إلى بقائه، وأظرف من ذلك إبقاء هَرِم (كبير في السن) على قيد الحياة، وهو لا يدري معنى البقاء، وليس له في بقائه إلا مجرّدُ الأذى، ومن هذا النوع المثير للعجب: تقتير الرزق على المؤمن الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق، وفي نظائر لهذه المذكورات يتحيّر العقلُ في تعليلها فيبقى مَبهوتا".

فابن الجوزي العالِم والمحدث والمفسر والمؤرخ الذي قال عنه ابن كثير: "هو أحد أفراد العلماء، برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره"، وقال عنه ابن رجب الحنبلي: "هو الحافظ المفسر، شيخ وقته، وإمام عصره"، إذا به يتحير عقله ويقف مبهوتا عاجزا أمام الإجابة عن سؤال: لماذا أوجد الله الشر؟ فما بالنا بتحير شباب اليوم؟!

يعتقد بعض الناس أن الخير يقع لأهل الخير والصلاح فقط، وأن الشر يقع لأهل الشر والفساد فقط، فيما يُسمى العاقبة الأخلاقية (Karma)، وهو مفهوم يعارضه القرآن الكريم الذي قال: "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن،"، ثم يقول "كلّا"، أي ليس الأمر كما تعتقدون، ويلفت بعض الباحثين النظر إلى أن التفسير الديني للشر يسمى "الابتلاء"، وهذا الاسم يعطيه منحى إيمانيا يبرر الفائدة من وراء الكوارث، كإحدى حالتين يصاب بهما المؤمن: إما الابتلاء فبصبر، وإما النعمة فيشكر.

يقول أحد الباحثين: إن مشكلة الإيمان بالعاقبة الأخلاقية -التي تعني أن الكوارث تصيب الأشرار فقط - أنّه لو كان كل إنسان يحصل على جزاء عمله الصالح والسيّئ في الدنيا، فهذا سيُلغي أي قيمة لليوم الآخر وللحساب والعقاب، لأن كل الناس حصلوا بالفعل على عاقبة أفعالهم، ولو كان الكون يحمل دلالة أحادية، لسقط الامتحان الدنيوي، ولصار لِزاما على الجميع أن يؤمنوا، "ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعا".

لكن هذا التفسير لن يُسعفنا كثيرا حين نرى طفلا بريئا يعاني من السرطان، وحين نسأل: ألا يمكن وقوع الاختبار الدنيوي من غير هذا الحوادث المفجعة التي لا تفيد في تحقيق معنى الاختبار أصلا؟

والحاصل: أن القائمين بأمر الدعوة عليهم واجب توعية الناس بإدراك أن الإيمان بالله لا يلزم منه معرفة الإجابة على كل شاردة وواردة من الشبهات، وعليهم تقديم طرح مقنع غير دفاعي في قضية خلق الشر، ببيان أن وجود الشر يؤكد على وجود الخالق، وعدم الاكتفاء بجواب واحد، وعدم منع السؤال في هذه القضايا، وأن العالَم الخالي من الشر قائم على خيال محال عقليا، وعليهم الإجابة ببساطة أحيانا وبطريقة أكاديمية أحيانا على الأسئلة المطروحة: كيف يلتقي عدل الله ورحمته مع خلق الزلازل والفيضانات؟ ولماذا لم يخلق الله عالما أقل شرا؟ ولم لمْ تكن الزلازل والسيول تصيب العصاة فقط؟

ما لم يتم تقديم إجابات وافية على سؤال خلق الشر، فلسوف تزيد أعداد الملحدين يوما بعد يوم، وإذا كانت بلاد مثل المغرب وليبيا وتونس ومصر تزداد فيها نسب الملحدين قبل وقوع الكوارث، فالأمر بعد الكوارث سيكون أشد نكاية، ما لم يتحرك علماء الإسلام وباحثوه ودعاته لتقديم أجوبة منطقية عقلية مبسطة غير نصوصية على إشكالية: لماذا خلق الله الشر؟ ولماذا يتعرض الأبرياء والصالحون والطائعون والأطفال والفقراء للزلازل والفيضانات، وأحيانا ينجو منها العصاة والأثرياء والمتحللين من الدين؟

[email protected]