هشام النجار يكتب: مصر وتركيا تتصالحان.. ما داعي قلق إسرائيل؟

ذات مصر

أرى أن أول من يقلق من مصافحة الرئيسين المصري والتركي عبد الفتاح السيسي ورجب طيب أردوغان ليس زعيم جماعة الإخوان المسلمين سواء القابع في إسطنبول أو المقيم بلندن، إنما رئيس وزراء إسرائيل!

نعم جماعة الإخوان متضررة من تصالح تركيا مع مصر، لكن ضرر إسرائيل أكبر بكثير؛ حيث من المفترض أن تفقد جراء الهدوء الإقليمي أهم عوامل استقرارها المرحلي المتمثل في التنازع والتصارع الإقليمي بين القوى الإقليمية الكبرى والوازنة.

يدرس الأكاديميون بكليات العلوم السياسية لطلابهم هذه الجملة الدقيقة (إذا حدث تقارب بين تركيا ومصر أو بين السعودية وإيران يعم الحزن تل أبيب)، فما ظنك بانعكاسات حدوث تنسيق أو تحالف فائق بين قوتين إقليميتين وازنتين على إسرائيل.

إسرائيل كانت هي المستفيد الأول من قطع وتدهور العلاقات المصرية التركية؛ وانتظر القادة الإسرائيليون عن كثب أن تلحق مصر ومؤسساتها وجيشها بركب التفكك والانهيار والفوضى والتقاتل الطائفي، عبر إسهام ودفع تركي.

عرفت تل أبيب جيدًا كيف تنتهز الفرصة وتستثمر في الأحوال الإقليمية والعربية المتردية مع تفكك الجيوش العربية، التي انهارت دون أن تبذل الدولة العبرية كثير جهد ودون أن تخوض حروبًا وتتكبد الخسائر؛ فقد حدث ذلك بيد وكلاء من العرب (جماعات متمردة تحمل السلاح ضد دولها)، ولعبت تركيا طوال العشر سنوات الماضية دورًا كبيرًا في تسهيل وتحقيق المهمة في ليبيا وسوريا والعراق.

ولو كان حدث ذلك في مصر وفقًا لنفس المعادلات والسيناريوهات وبجهود نفس الأدوات، لكانت اقتنصت إسرائيل الجائزة الكبرى ولتحقق لها وهي آمنة في بيتها تضع رجلًا على رجل ما لم تستطع تحقيقه في ميدان الحرب وبسلاحها وجنودها الفعليين، حيث هزمها المصريون في آخر مواجهة في أكتوبر 1973م.

ستتضح الفكرة أكثر إذا طبقنا هذا التصور وفقًا للمعادلات والتطورات على الحالة السورية؛ فالحرب في سوريا كان هدفها الأول هو الإجهاز على الجيش السوري لفرض تسوية غير منصفة على الشعب الفلسطيني وباقي الأطراف العربية ولضمان استقرار وأمن إسرائيل لعقود قادمة.

عندما تحظى إسرائيل بإسقاط الجيش السوري الذي يحاربه مرتزقة مدعومون من قوى إقليمية ودولية، فلا عوائق كبيرة ساعتها ستقف أمامها لفرض إملاءاتها في المنطقة خاصة سوريا وفلسطين ولبنان لضمان تفوقها لعقود قادمة، ولذلك شاركت إسرائيل في إطالة أمد الصراع وفي الحرب ضد سوريا (العربية)، لينتج في النهاية تقسيم على أسس مذهبية وإثنية إلى جانب دولة هشة ونظام حكم ضعيف.

والسؤال الرئيسي هنا (هل كان من المنطقي والأخلاقي -ناهيك عن البعد الاستراتيجي- أن تضرب تركيا المسلمة مع إسرائيل المعتدية في العمق السوري، وماذا استفاد المسلمون والعرب من إضعاف سوريا لصالح إسرائيل، بصرف النظر عن أي خلاف سياسي مع رأس الحكم؟).

والسؤال الافتراضي هنا: ماذا لو تغيرت المعادلات والتحالفات باتجاه التعديل وتصويب خطايا العقد الماضي تدريجيًا، وبغض النظر عن أسماء القادة والرؤساء، فماذا لو تحققت مصالحة تركية- سورية حقيقية على أسس تحقيق المصالح المشتركة والعودة إلى ما قبل العام 2011م.

بدون شك لو حدث ذلك –(وهو سيحصل عاجلًا أو آجلًا، بأردوغان وبشار الأسد أو بغيرهما)- لتراجع تدريجيًا مفعول الخطة الإسرائيلية الخبيثة المسمومة التي وضعتها منذ البداية تل أبيب، وتنفذها لها بسذاجة بعض القوى الإقليمية غير العربية وتنظيمات تزعم أنها (جهادية) –والجهاد منها برئ- بالعمل على زيادة التوترات والتناقضات الطائفية وتقويض النظام العربي بتوظيف التناقضات الدينية والمذهبية.

هذا ليس كلامنا نحن فقط بل كثير من الدراسات والمؤلفات الغربية والإسرائيلية ذكرت أن تنظيمات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية سيكون لها دور لتحقيق الهدف ولإضعاف الموقف العربي، وجعل قدرات النظام العربي تتراجع في انتزاع  حقوق يؤمن بها ويناضل من أجلها، لكن يعوقه واقع وظروف خططت لها إسرائيل وأنضجتها ممارسات الإسلام السياسي و(الجهاديين) وداعميهم الإقليميين.

إذن احتضنت تركيا طوال العقد الماضي جماعة الإخوان وواكب ذلك التحريض والتخطيط وتنفيذ عمليات ومباشرة كل ما يتسبب في التشويش على الحالة المصرية بقصد إعاقتها وتعطيل مسيرتها، وما جرى في سوريا تم بإسهام كبير من تركيا، في ظل اختفاء الجبهة الشرقية ممثلة في العراق.. فحدث ما يلي:

أولًا: ضعفت القوى العربية التقليدية وباتت المنطقة مكشوفة إلا من بقايا مقاومة وصمود، وهو ما يعني اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل بعد أن جرى إلهاء الدول العربية الوازنة التي يمكن أن تحدث الفارق في ردع إسرائيل والضغط عليها وعلى المجتمع الدولي من الناحية العملية بصراعات وأخطار داخلية مُحدقة.

ثانيًا: تحقق لإسرائيل ما خططت له وفقًا لخارطة الطريق التي وضعتها للعرب واختصرها (إليكس فيشمان) بقوله (دعوا العرب يقتلون بعضهم بعضًا بهدوء)، فمن يضرب في العمق العربي ليس إسرائيل وحدها -فهذه فقط تجني الثمار-، إنما تتدخل قوى إقليمية أخرى وتنشط ميليشيات مسلحة متمردة يتكلم عناصرها اللسان العربي ويزعمون أن لديهم نسخة مختلفة من الإسلام يرغبون في تطبيقها على العرب (مسلمين ومسيحيين ويهود وسنة وشيعة).

واستغلت إسرائيل هذه الحالة الإقليمية المضطربة حيث غفل البعض من القادة الإقليميين عن مصدر الخطر الحقيقي ووجهوا عداءهم وسلاحهم بالاتجاه الخطأ، حيث وُجهت الحشود المسلحة وأفراد الميليشيا صوب مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا، وبنت تل أبيب على ذلك هادفة لتغيير قناعة كونها المصدر الرئيسي المهدد للأمن القومي العربي.

ثالثًا: جرى خلق تهديدات للدول العربية ربما لا تقل خطورة عن إسرائيل بعدما رأيناه من نتائج المأساة السورية التي استنزفت قوى العرب البشرية والحضارية والمادية والاستراتيجية والعسكرية، ولذلك ولتحقيق هذا الهدف تم إطلاق العنان لمئات الميليشيات والتنظيمات الجائعة وتم دعمها وتسليحها وسُمح لها بحرية الحركة والتنقل ومدها بالمعلومات والمال لتنهش في الجسد العربي.

ومن أفدح نتائج هذا التطور الفارق أن الصراع لم يعد كما كان بالماضي في مواجهة المحتل الإسرائيلي إنما في مواجهة (غزاة) إقليميين آخرين، وفي مواجهة جماعات متمردة مسلحة قدمت لها قوى دولية وإقليمية خدمات استخباراتية ولوجستية وعسكرية باعتراف كثير من المراقبين.

حدث ذلك فتبدلت الأولويات لدى العرب وتأخر بذلك اهتمام العرب بصراعهم الأول مع إسرائيل لينشغلوا بالخطر الداهم المُمَثل في جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات التكفير المسلحة على اختلاف مسمياتها.

وبرزت تهديدات فائقة الخطورة على الكيان العربي وعلى مستقبل وجود الدول العربية بحدودها وتماسكها ومصالحها القائمة، وهى التهديدات التي نافست التهديد الإسرائيلي، وعلى رأسها الجماعات الإرهابية المسلحة التي شنت حرب استنزاف طويلة ضد الدول العربية وجيوشها وأجهزتها الأمنية –برعاية استخباراتية دولية وإقليمية-.

كمراقب محايد أرى أن مصر كدولة ومؤسسات لم تنسَ من هو العدو ومن هو الصديق في وقت نسي الكثيرون، وأنها ناضلت وضحت وصمدت كخط دفاع رئيسي في وجه المخطط الأكثر تعقيدًا على الإطلاق لتشعبه وللتداخل الإقليمي المتعدد ولكمون إسرائيل في الخلفية مستفيدة من كل ما يجري ولشراسة الأدوات.

حاربت مصر هذه الأدوات وانتصرت عليها وجرى تحييدها بشكل كبير وتعاملت تدريجيًا مع التقلبات الإقليمية والدولية بشكل استعادت به حضورها ودورها الذي كان قد تراجع وفقد تأثيره لعوامل كثيرة بعد العام 2011وأثناء العام 2012م.

لا أراها فقط حربًا ضد الإرهاب فتلك هي التسمية الظاهرة والمتداولة أو الشائعة، إنما هي حرب بالوكالة من جهة لصالح قوى إقليمية أساءت التقدير والحسابات وغفلت عمن هو العدو الحقيقي، وبالوكالة أيضًا من جهة أخرى عن قوى غربية وعن إسرائيل، التي تصورت أنها ستخرج منتصرة هذه المرة دون مباشرة فعلية للحرب.

قد تكون نجحت الخطة في ساحات عربية أخرى حيث وصلت إسرائيل بمساعدة آخرين بالعمق العربي للدرجات القصوى من العنف والاضطرابات والخراب وتقويض المؤسسات، لكنها فشلت في مصر.

الآن هناك إفاقة إقليمية وتقارب ومسارات مصالحة بين الدول الإقليمية الوازنة وفي مقدمتها مصر وتركيا، وهو ما يجعل بدايات العقد الحالي مختلفة عن سابقه؛ باتجاه الخصم من أدوار ونفوذ الفاعلين من غير الدول والجماعات المسلحة التي خدمت مصالح إسرائيل في المقام الأول.

بالتصالح بين مصر وتركيا تجري استعادة تدريجية للأوضاع الإقليمية الطبيعية وتمكين أكثر للقوى العربية التي تناضل وفقًا للمتاح بيدها من أوراق وأدوات لاستعادة الحقوق العربية والدفاع عن الأرض العربية والمقدسات الدينية وحماية الشعب الفلسطيني.

وحتى لو طال الوقت لحين التوصل لصياغة استراتيجية مشتركة في مواجهة التحديات التي تشكلها إسرائيل للشرق الأوسط برمته والعالم الإسلامي والعربي، فإن التقارب والتصالح بين مصر وتركيا من شأنه معاكسة الحالة التي كانت سائدة طوال العقد الماضي، عندما كانت جماعات وميليشيات تضرب في العمق العربي و(تعلن الجهاد والنفير) ضد البلاد والجيوش والمؤسسات العربية، تاركة إسرائيل تنعم بالسلام والأمن والاستقرار والرفاهية والقوة، وهى تباشر النهب والتهويد والاستيلاء على المقدسات واغتصاب التاريخ والثقافة والتراث والحضارة.