هشام النجار يكتب: تأملات حضارية على هامش لقاء السيسي وأردوغان

ذات مصر

التقى الرئيسان المصري والتركي: عبد الفتاح السيسي، ورجب طيب أردوغان، على هامش قمة العشرين التي عُقدت بالهند، وهو لقاء يُوصف بالتاريخي؛ ليس فحسب لارتباطه بالتحولات الكبرى في الإقليم وبملفات فائقة الأهمية وبمشاريع تهاوت وبقوى تعدل وتضبط البوصلة على مقياس المصالح وبجماعات تفقد جدواها وتخسر أدوارها، إنما فوق ذلك لأنه تأريخ للحظة حضارية فارقة، تقتضي منا الوقوف والتأمل طويلًا في رمزيتها وماذا تعنيه ليس لمصر وتركيا فقط إنما للمنطقة وللعالم، وكيف تمثل تحولًا هائلًا ليس فقط للمصريين والأتراك إنما للعرب والمسلمين.

هي عناوين وأفكار وقراءات مختلفة لمشهد الصورة تواردت على ذهني وأنا أشاهد الرئيسين يتصافحان، أسردها هنا كما هي وكما وردت بخاطري بدون تعديل أو إعادة ترتيب:

أولًا: تساءلت: كيف تأخر لقاء كهذا إلى اليوم بعد مرور كل هذه السنوات، صحيح أن الدور التركي بالمنطقة والإقليم حاضر وفاعل منذ 2011م، لكن ماذا عن تطوير هذا الدور وتصحيح مساره عامًا بعد عام، وفق المتغيرات التي طرأت أولًا بأول، وقد مر إلى الآن عقد كامل على فرضيات مبدئية لم تعد كما كانت، كما تغير تدريجيًا الكثير بشأن موقف دول العالم من جماعة الإخوان ومن تيار الإسلام السياسي... لكن في النهاية أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي، والأمة والشعوب العربية والإسلامية هي المستفيدة من إنجاز كبير كهذا؛ أن تتصالح وتتفق دولتان إقليميتان كبيرتان مؤثرتان كمصر وتركيا.

كان على الرئيس أردوغان أن ينحاز للشعوب واختياراتها مبكرًا ولو لم يكن لديه الخبر اليقين بشأن طبيعة وأهداف جماعة الإخوان المسلمين؛ فقد ظهرت بوضوح للجميع بعد عام 2013م حيث فقدت بريقها الخادع وجاذبيتها الجماهيرية التي اتضح زيفها؛ فلم تعد تلك الحركة الزاهدة الورعة صاحبة الأخلاق العالية التي تساعد الفقراء وطلاب الجامعة المعوزين واليتامى والأرامل وتهتم بالأعمال الخيرية (كما كانت تزعم)، ووضح أنها حركة همها الأول السلطة، والصراع على كراسي الحكم.

كان الحال قبل التحولات التركية باتجاه التقارب مع مصر وفي سياق العلاقة التي تربط النظام التركي بدول وشعوب الإقليم وبالشعب المصري والمنطقة العربية، هو الرفض الشعبي والمؤسسي، حيث خسرت تركيا ما بعد يونيو 2013م العلاقة الطبيعية مع الشعوب والمؤسسات في سبيل الإبقاء على العلاقة بالإخوان وبخط الإسلام السياسي.

أتمنى ألا يكون التحول الآن اضطراريًا وتكتيكيًا بالنظر إلى أن جماعة الإخوان باتت في أضعف حالاتها وأن المصلحة تقتضي التخلي عنها، وأن يكون التحول من قِبل تركيا مبنيًا على تصور حضاري وجيوسياسي شامل يعي ما يفيد الأمة وما يضرها وما ينصرها وما يهزمها وما يقويها وما يضعفها، وبدون شك فإن اختيارات الشعوب لا تخطئ.

ولا تعني المصافحة بين الزعيمين من هذا المنطلق عودة للعلاقات بين مصر وتركيا وتطبيع بين الدولتين فقط -كما يرد في شريط الأخبار-، إنما تعني قبل ذلك استعادة تركيا للعلاقات الطبيعية بينها وبين الشعب المصري والشعوب العربية والإسلامية، وهم غالبية العرب والمسلمين ويمثلون الذخيرة الجماهيرية والقاعدة الشعبية العريضة الحقيقية المساندة لأي زعيم ولأي نظام حكم، مقابل أقلية ضئيلة العدد والتأثير يمثلها خط الإسلام السياسي (توهمها البعض في السابق أنها هي التي تصنع الزعامة الإسلامية).

أشاهد اليوم صورة تعني لي أن تركيا بدأت تعي الطريق وأن كسبها للشعوب العربية والإسلامية أولى وأجدى من علاقات بتنظيمات وجماعات ضئيلة العدد والتأثير، بالمقارنة بأعداد الشعوب العربية والمسلمة وتأثيرها الهائل؛ والتي عندما قررت قرارها وحسمت أمرها وقالت كلمتها باتت تلك الجماعات على الهامش وخارج الكادر.

ثانيًا: كان المأمول منذ بدايات صعود حزب العدالة والتنمية وبروز أدوار رجب طيب أردوغان ورفاقه، أن تصبح تركيا الجسر والواسطة بين أوربا والعالم الإسلامي وبمثابة إسفنجة حضارية تمتص كل النقمة الإسلامية على الغرب والعكس، فإذا بها تتحول في غضون سنوات للنقيض بسبب قربها الشديد وتحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين وطيف الإسلام السياسي، لتحول بين الشرق والغرب بسور عال من التزمت الأصولي، وتستعيد روح الاستعلاء الديني والثارات التاريخية، ليؤجل البت في مستقبل وماهية العلاقة بين الإسلام والحداثة وقيم التسامح والتعايش الإنساني.

تركيا كقوة وازنة بين العالمين الإسلامي والغربي؛ كان حضورها الإقليمي في المنطقة يتيح لها القيام بمبادرات وساطة متعددة كونها تقف على مسافة واحدة من كل الأطراف وهو ما أقدمت عليه خلال الفترة من عام 2002 وحتى عام 2010 (الثماني سنوات الذهبية للرئيس أردوغان ولحزب العدالة والتنمية).

وكذلك اتجهت إليها أنظار العالم لتلعب دورًا في الإصلاح الديني وتجفيف منابع التطرف من خلال نموذج حضاري يجمع بين العصرنة الغربية والروح الإسلامية الشرقية.

لم تستطع تركيا القيام بهذه الأدوار الكبيرة (أو الاستمرار في القيام بها بعد العام 2010م) وهي متحالفة وقريبة من جماعات منغلقة أحادية فشلت في الانتقال من الحالة الأبوية التقليدية البدائية من خلال تنظيمات بأمراء يحركونها بالسمع والطاعة إلى الحالة الحزبية والممارسة السياسية الشفافة وقبول التنوع والتنافسية السياسية، ومن اعتناق أفكار تكفير الدول والمجتمعات وغزو العالم وأستاذيته وهدم حضاراته إلى التصورات الحضارية المتسقة مع المفاهيم والقيم الإسلامية العليا المتعلقة بالتسامح الديني والتعايش بين الشعوب والأمم والتدافع الحضاري (لا الصراع والصدام).

اللقاء والمصافحة بين الرئيسين السيسي وأردوغان تعني لي أيضًا أن تركيا اختارت أخيرًا التصالح (ليس فقط مع مصر) بل مع الواقع ومع العالم ومع القارة العجوز، وأنها قررت استئناف مسار الإصلاح الديني والعودة للبدء من النقطة التي انتهت إليها عام 2010م ومحو آثار العقد المشؤوم (2011- 2021م).

ثالثًا: ما اختارته تركيا طوال العقد الماضي تحت زعامة الرئيس أردوغان وما مارسته إقليميًا وضد الدول العربية، ليس خبرة تركية خالصة؛ فحتى أستاذ أردوغان ومن وُصف بأنه (أعند الإسلاميين) وهو نجم الدين أربكان تعامل مع التحديات والأزمات بمرونة وواقعية، أما تلك الشطحات والقفزات الجنونية خلال العقد الماضي باتجاه سوريا والعراق وليبيا وحتى مصر والسودان.. الخ فتحيلنا تلقائيًا لحضور جماعة الإخوان في المشهد.

بصمة أدبيات ومناهج وممارسات جماعة الإخوان كانت واضحة جدًا على تحولات الرئيس أردوغان والحالة التركية برمتها؛ فقد انتقلت الحالة الإسلامية التركية من (النورسية التنويرية) إلى شيئ قريب من (القطبية الأحادية –نسبة إلى سيد قطب-)، ومن نهج (فتح الله كولن) المعرفي التربوي التعايشي إلى نهج (وجدي غنيم) الاستعلائي الأحادي الطائفي، ومن ثقافة التعايش الحضاري إلى ثقافة الغزو والفتوحات.

اللافت والمدهش هنا أن الشراكة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأمريكية في بدايات المشروع (منتصف التسعينات) كانت بين أردوغان وفتح الله كولن وتحدثت دراسات (مؤسسة راند) و(معهد بروكينغز) صراحة عن الترويج للنموذج التركي الحداثي الصوفي التربوي الذي يتبناه كولن، والهدف كان واضحًا وهو تقويض أو على الأقل تحجيم نماذج الإسلام السياسي (الإخواني) و(السلفي الجهادي) و(الإيراني الثوري).

طوال العقد الماضي وتركيا ترتدي عباءة وعمامة حسن البنا، سائرة دون فحص وتدقيق منهجي لتحقيق الهدف الأممي (الخيالي المستحيل) منذ أنشأ البنا جماعة الإخوان المسلمين كرد فعل على انهيار السلطنة العثمانية ثم قسم الاتصال مع العالم الإسلامي ومن يومها يجري استحضار شعاره عن مفهوم أستاذية العالم الذي يشير إلى هدف استعادة الخلافة كتعبير عن الرؤية العالمية في فكر الإخوان، وهو يضفي القداسة على (الحكومة الإسلامية) –كما في رسالة بين الأمس واليوم-، واضعًا إياها ضمن أركان الإسلام، وهو يتحدث بمثالية عن ضم الأندلس وصقلية والبلقان وجنوب ايطاليا وجزائر بحر الروم بوصفها كانت مستعمرات إسلامية يجب عودتها إلى أحضان الإسلام، وهو لا يستبعد خيار اللجوء للقوة والعنف، إنما فقط يؤجله لوقته عندما لا يُجدي غيره.

عندما تأملت المشهد الذي جمع الزعيمين السيسي وأردوغان متصافحين؛ تخيلت الرئيس أردوغان وهو يخلع فعليًا عباءة حسن البنا والشقيقين سيد ومحمد قطب، ويعود مرتديًا العباءة النورسية، مستحضرًا من جديد ومرددًا (رسائل النور) التي خطها (بديع الزمان سعيد النورسي)، وخلاصتها سلمية حضارية تدعو للتمسك بالهوية الإسلامية دون التورط في متاهات تسييس الدين وتوريط الدين نفسه في مخازي ومساوئ وأوحال هو برئ منها.

رأيت الرئيس أردوغان في الصورة التاريخية ناكثًا شعار (رابعة)، مصافحًا بيده و(بأصابع الرجل الخمسة) يد الرئيس المصري السيسي، علامة على العودة المحمودة إلى العلاقات الطبيعية بين الدول وبين الشعوب، وإعلاء مصالح الدول ومصالح العرب والمسلمين، وأتمنى أن يعود نورسيًا مستوعبًا ثقافة الحضارة الإسلامية المنفتحة على العالم -لا المعادية له والمتصادمة معه-، والمتصالحة مع المجتمعات -لا المُكفرة لها-، وأن يدير ظهره نهائيًا للثقافة الشعاراتية التي يعتنقها تيار الإسلام السياسي، والتي لم تهضم الحداثة ولم تراعي المتغيرات، وكادت تقذفنا جميعًا في متاهات القرون الوسطى اللاهوتية وفتاواها المرعبة، لولا لطف الله ونجدته.