ماهر الشيال يكتب: العدو الصهيوني.. والولع بتقمص دور جلَّاديه

ذات مصر

من آليات الدفاع النفسي المستخدمة لدى الأفراد والجماعات، آلية "التوحد بالمعتدي" تتخذ سبيلا للهروب من مواجهة الحقائق المُروّعة، والانسحاق التام في الصراع.. وهو ما أفرد له ابن خلدون فصلا كاملا في مقدمته أسماه "في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

تستخدم أيضا تلك الآلية كآلية تبرير جيدة لدى البعض؛ باعتبار أن العنف دائرة مغلقة؛ يحق فيها لمن مُورس ضده العنف أن يمارسه ضد آخرين.

ولا تبدو تلك الأمور رائجة أو حائزة على أي درجة من القبول في الجماعات ذات الثقافة المتجذرة، والمجتمعات الحضارية.. لكنها تجد بيئتها المنشودة في وجود، شراذم وجماعات أتوا من كل حدب وصوب تحت مظلة من أفكار شديدة التطرف ترتكز إلى تميّز مُدعى واستعلاء بغيض.

وتحفل نصوص العهد القديم بتوجيهات رب الجنود بإبادة الأمم والشعوب دون رحمة.. وذلك بعد خروج بني إسرائيل من مصر.. عقب معاناة استمرت زمنا، تسلّط فيه فرعون عليهم بالاستعباد وذبح الأطفال.. لكنهم لم يعتبروا من مصير فرعون الذي جعل الله نهايته على يد موسى الذي أنجاه الله طفلا من الموت على يد هذا الطاغية.. لتتحول فكرة قتل الأطفال لأحد أهم أسس الفكر الصهيوني المؤسس لدويلة الكيان اللقيط.. حتى لا يتوهم أحد المغيبين أن استهداف مستشفى في غزة أو ملجأ في قانا لبنان أو مدرسة ابتدائية في مصر- أمر يمكن حدوثه على سبيل الخطأ؛ إنه جزء من استراتيجية إرهاب الدولة التي يمارسها قادة العصابات الصهيونية منذ عقود دون توقف. 

لا يتوقف الكيان الاستيطاني البغيض عبر أبواقه الإعلامية في العالم كله عن تسويق المحرقة؛ بغرض الحصول على المزيد من المليارات من الدولارات- لكن الكيان لا يتوقف أيضا عن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وتسجيل اسمه في سجلات العار بمحارق حقيقية لا حصر لها ولا عدد- في تبجح سافر ترعاه الدول الغربية بتواطؤ فج لا يعرف لقيم العدل والنزاهة سبيلا.

لكن الغرب الذي لا نريد أن نفهم دوافعه على وجه الحقيقة لا يعنيه الأمر إلا من منطلقين لا ثالث لهما: أن تظل دولة الإرهاب تلك مركز جذب لليهود؛ فتتجنب بلادهم هذا الوجود الخطر المثير للاضطرابات والفتن، وأن يؤدي الكيان دوره الوظيفي في المنطقة بوصفه شوكة الاحتلال الغربي الباقية في الخاصرة العربية.

يُرجع توماس هوبز الأسباب المُفضية إلى الحروب إلى: الجشع والرغبة في ما لدى الغير، والخوف وتوقّع العدوان، والبحث عن الهيبة وإثبات التفوّق على الآخرين.. وهي عوامل ثلاثة تُمثل ركائز أساسية في العقلية الصهيونية.. فمنذ أقام الكيان الغاصب دولته؛ لم يتوقف عن ضم الأراضي وتهجير الفلسطينيين وبناء المستوطنات بالمخالفة لكل الأعراف والمواثيق الدولية، كما طال عدوانه دول الجوار الفلسطيني بدعوى تأمين حدود الدولة التي لا يعرف أحد لها حدودا حتى الآن بعد إعلان وجودها المغتصب بأكثر من خمس وسبعين سنة.. مع التأكيد على روح الاستعلاء بالأفضلية بالاختيار الإلهي، وأوهام القوة والجيش الذي لا يقهر.. وهي أكاذيب يعلم الغرب مدى تهافتها؛ لكنه يقبلها ويروج لها؛ لأنها تصب في مصلحته أولا وأخيرا.

ورغم أن تلك الاستراتيجية القائمة على تقمّص دور الجلاد لم تحقق أي نجاح على مدى عقود الصراع؛ لسبب بسيط هو أن الخصم -هنا- يختلف كل الاختلاف من كافة النواحي عن "المتوحد بالمعتدي" فهو صاحب حق أصيل، وهوية متجذرة وثيقة الصلة بالأرض وبكل قيمة إنسانية نبيلة؛ لذلك تعددت إخفاقات العدو في تهويد الأرض المحتلة، وتغييب القضية عن أذهان وعقول وأفئدة الأجيال الجديدة.. لتأتي الحرب الأخيرة لتثبت أن فلسطين ليست قضية العرب المحورية فحسب؛ بل هي قضية كل إنسان استطاع أن ينجو بعقله من آلة الكذب والتضليل الغربية، وما تروج له من أكاذيب.

لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء من أحد لاكتشاف أن الكيان الصهيوني يمارس إرهاب الدولة على أوسع نطاق منذ نشأته.. يتجلى ذلك في تصريحات مسئوليه التي لا يتكبد قائلوها عناء تنميقها بلغة الدبلوماسية.. إنها تصريحات تستخدم دائما ألفاظا من قبيل الإبادة والمحو والدمار الشامل والتطهير العرقي، ولا تتورع عن المقارنات القائمة على التمييز الصارخ بين البشر.

لكن العدو يحاول دائما أن يوحي للآخرين بصورة عن نفسه تخالف الحقيقة.. فالدولة التي تأسست على الأساطير لا تستطيع أن تنجو بنفسها من لعنة هذه الأساطير التي تستخدمها كثيرا لاستدرار العطف وللابتزاز وفي أمور أخرى لا تقل انحطاطا.. فهناك الشعور القوى بالنهاية وقرب الزوال، بسبب أسطورة العقد الثامن الذي لم تتجاوزه حتى مملكة داود وسليمان، وهو أمر لا تقف آثار هيمنته النفسية عند فئة بعينها.. بل تطال آثاره الكل، حتى أنه نوقش باستفاضة في أعلى مستويات الدولة، ولم تكن النتائج التي اُنْتُهِيَ إليها بمطمئنة للكثيرين.

لا يبحث الصهاينة غالبا عند الأزمات الكبرى عن عوامل داخلية لاستمداد القوة.. ربما لكونهم يدركون تماما حقيقة ضعف وتهافت أوضاعهم الداخلية، وما تأسست عليه دولتهم من أسس لا تصلح للصمود في مواجهة التحديات الحقيقية.. لذلك فهم يفزعون دائما نحو قوى الغرب التي تعوَّدوا أن تقدم لهم الدعم غير المحدود.. لكن الدعم الخارجي الذي يفتقر إلى أي مظلة أخلاقية لا يصمد كثيرا مع حالة الانقسام والتشرذم المتمكنة من الداخل الصهيوني.. لدرجة أن الأصوات تتعالى الآن لتقديم رئيس الوزراء للمحاكمة لتسببه في تلك الكارثة التي عدّها البعض من أكبر الهزائم التي حاقت بالدولة العبرية منذ نشأتها.. وهو ما لم يحدث مع جولدا مائير التي اتهمت بذات التهمة عشية حرب يوم الغفران.. حين أوشك الكيان على الانهيار تحت وطأة الضربات المتوالية على الجبهتين السورية والمصرية.. وهو ما لم يتورع قادة الكيان الحالي عن الوقوع فيه بفتح أكثر من جبهة للقتال.. فما أشبه الليلة بالبارحة!