أحمد أمين يكتب: حماس وإسرائيل.. معركة المصير

ذات مصر

لا يخفى على أحدٍ في وقتنا المعاصر وفي الأيام القليلة الماضية الحرب الضروس التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة؛ مخلفة آلاف الشهداء من المدنيين العزل جُلُّهُم من النساء والأطفال والمسنين. فهل يا ترى ما حدث في السابع من أكتوبر الماضي يستحق كل هذا العدد المتزايد من الشهداء؟! الإجابة بتجرد بسيط هي نعم.

في حرب أكتوبر 1973م عندما باغت الجيش المصري القوات الإسرائيلية المتمركزة في شرقي القناة وقام بتفتيت ودك حصونها في خط بارليف، صرخت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك جولدامائير مستغيثة بالغرب وبالولايات المتحدة طالبة المدد والنجدة من الجيش المصري الذي تخيلته يدخل عليها مقر الحكم والقيادة في تل أبيب. وأصبحت إسرائيل محاصرة بهجوم ثنائي من الشمال والجنوب، وانتهت هذه المعارك بتطهير سيناء من بقايا الجيش الإسرائيلي على مراحل متعددة حتى تم إبرام اتفاقية السلام في 1979 برعاية أمريكية أيضاً. ومن أهم نتائج هذه الحقبة هو الإعتراف باستمرارية هذا الكيان اللقيط على الأراضي الفلسطينية العربية حتى الآن. ومنذ تلك اللحظة التاريخية وحتى يوم السابع من أكتوبر 2023م مرت المنطقة بتقلبات سياسية وإقتصادية واجتماعية لا حصر لها، كلها صبَّت في مصلحة استمرار الكيان، وتهميش الدول المحورية في هذا الصراع - العراق وسوريا - بعدما تم إبرام اتفاقيات السلام بين إسرائيل ومصر والتي أدت لتراجع الدور المصري في القضايا المصيرية للمنطقة لفترات طويلة. 

السؤال الملح الآن مع استمرار هذه الحرب - وعدم وجود مؤشرات على قرب انتهائها – هل ستقضي إسرائيل على حركة حماس في غزة، وربما في الخارج لاحقاً؟ وهل حقاً هذا الهدف يمكن أن تحققه إسرائيل؟ ومتى تتوقف إسرائيل عن شن ضرباتهاعلى قطاع غزة والتي خلفت كل هؤلاء الشهداء؟ 

يجب الإقرار ابتداءاً أن ما حدث مثل تهديداً وجودياً لإسرائيل، بالرغم من ضآلته مقارنة بالإمكانات اللامتناهية للجيش الإسرائيلي. فقيادات إسرائيل أصابها الذعر والتخبط والهلع مما جرى، وبهذا العدد الكبير من القتلى في صفوف جيشه وقادته، بل وحتى من المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، تهاوت جميع التكنولوجيا المتقدمة التي لم تتوقف إسرائيل عن الدعاية لها وبيعها للعديد من دول العالم بأنها أحدث ما وصل إليه التقدم العسكري والإستخباراتي، والذي فقد مصداقيته في سويعات معدودة في هذا اليوم العصيب على إسرائيل. أما تبعات ذلك السيكولوجية والعسكرية والسياسية والإقتصادية على إسرائيل فهي كارثية بلا منازع. 

فهناك العديد من الثقوب، بل ربما الأخاديد، في التفكير الجمعي لهذا الكيان بداعميه بمواطنيه بترسانته المتنوعة مما حدث، وهو اختبار حقيقي لمدى قابلية هذا النموذج - المدعوم غربياً والمتصدر للنظام العالمي خلال العقود الماضية – للإنهيار والتآكل والفناء. 

وطالما امتلك الغرب مقومات الريادة والصدارة للنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فستعمل كل تروس هذه المنظومات الفكرية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية والعسكرية في تكريس هيمنتها على المشهد في الشرق الأوسط فيما يخص بقاء إسرائيل. فهذه المنظومة العالمية كلها تحقق مكاسب لا حصر لها من وجود هذا الكيان، أهمها السيطرة على مصادر الطاقة العالمية، والتي تستأثر بها وحدها دون أكبر قوى بشرية عالمية روسيا والصين – المنافسان الأساسيان لهيمنة الولايات المتحدة في النظام الدولي -. 

ومع انفراد الولايات المتحدة بمفاتيح الإبقاء على مشروعها الإمبريالي في الشرق الأوسط، يصبح من الضروري التخلص من التهديد الوجودي الذي استطاع تغيير موازين القوى ولو لعدة أيام، كي لا يصبح نموذجاً يحتذى به من قبل جماعات مسلحة أعظم تسليحاً ودعماً، ناهيكم عن دول المنطقة القوية التي تستطيع سحق هذا الكيان في ساعات، وربما للأبد. وبهذا يصبح من الضروري أن يلقنوا الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة تحديداً درساً قاسياً تكلفته البشرية غير قابلة للتحمل ولا للاستيعاب. 

كي يكون محفوراً في التفكير الجمعي والوجدان القومي لهذا الشعب، وللشعوب المحيطة التي انفجرت من قبل في 2011م، وتستطيع الانفجار في كل وقت متى أرادت. فمصير إسرائيل الآن مرهون بالقضاء على حماس، والذي تعمل إسرائيل ومن ورائها المنظومة الدولية المهيمنة – والتي تلقب نفسها بالمجتمع الدولي – على تحقيق هذا الهدف مهما كانت التكلفة البشرية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. 

وبالطبع فإن مطامح إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة ودول الغرب في القضاء على حماس لا تتفق وطموحات حماس نفسها، والتي لا تمتلك مقومات استراتيجية تحميها من الفناء لا في قطاع غزة، ولا في محيطها الإقليمي، غير غضب الشعوب العربية والعالمية، والتي يتم تهميشها ووأد دعمها على الدوام، حتى في بضع كلمات على منصات التواصل الإجتماعي. حركة حماس في قطاع غزة هي امتداد لمشروع إسلاموي قضى نحبه وانتهى ربما للأبد فيما يبدو للعيان. فهي تبحر منفردة في نهر جفَّ ماؤه وتركها وحيدة في الوحل. 

صحيح أن الدعم الشعبي منذ بداية الهجوم الإسرائيلي على غزة لم ينقطع، وصوت الشعوب في المنطقة كان قوياً وحاضراً، لكن دون تأثير حتى على القدرة في إدخال بعض زجاجات المياه وأجولة الدقيق لإطاعم الجائعين فضلاً عن المعونات الطبية اللازمة. هذا من جانب. 

أما على الجانب الآخر، فهل حماس مهما أوتيت من قوة، وأعدت العدة قادرة على الصمود لفترات طويلة هذه المرة في ظل أوضاع إنسانية مهلكة وكارثية؟ ستكون الإجابة بالنفي. فحركة حماس لا هي جيش نظامي يعتد به – في الموازين العسكرية -، ولا حتى لديها المقدرة على تأمين تدفق الدعم اللوجستي اللازم للحرب. 

ولا ينفي هذا حجم صمودها في مواجهة الجيش الإسرائيلي الجرار الذي تدعمه أكبر دوائر الاقتصاد والسياسة والإعلام في العالم. ولا ينفي هذا ما استطاعت إنزاله بهذا الجيش الذي لا يقهر – كما تزعم إسرائيل على الدوام والذي أصاب قادته وجنوده عدم التحكم في انفعالات أجسادهم ولا لغة خطاباتهم – منذ بداية الحرب. ولا ينفي هذا أيضاً المدد الإلهي الذي يتنزل عليهم بلا منازع طبقاً للعقيدة الصلبة لمقاتليه ومن ورائهم جموع المسلمين في كل مكان على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية والعقدية. 

لكن لن يغير هذا في موزاين القوى الدولية شيئاً. ولن يغير هذا في موازين القوى الإقليمية شيئاً، والتي تحتكم دوماً وتنصاع على الدوام لقواعد النظام الدولي. ربما تنتهي حماس، على الرغم من تعديل موقفها وإعادة تموضعها كامتداد للمشروع الإسلاموي إلى حركة تحرر وطنية. 

وربما يتم تفريغ محتواها وقطع أياديها وللأبد. لكن هل ستنتهي مشاكل الشرق الأوسط إذا ما انتهت حماس؟ ربما ستنتهي بالنسبة لإسرائيل ومن وراءها، لكن سينب نبت آخر لا يتوقف حتى يقتلع هذا الكيان ويفنيه. فالنظام العالمي المشكل للنظام الإقليمي لا يعترف ولا يفهم غير لغة القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية، ولا تمتلك حماس شيئاً من هذا، ولن تستطيع في ظل هذا النظام الدولي، والذي يصر في هذه المرة  تحديداً على القضاء عليها وللأبد، والإبقاء على مشروعه في قلب الشرق الأوسط.