خالد طه يكتب: حرب السودان.. الديمقراطية.. ذريعة وصريعة!

ذات مصر

(276) يوما وليلة من الرعب والدمار المتواصل فصلت بين السبت 15 ابريل 2023/نيسان والاثنين 15 يناير /كانون الثاني 2024، حيث دخلت الحرب بين "الجيش السوادني" و"مليشيا الدعم السريع" امس شهرها العاشر، تلك الحرب التي استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المميتة، واتسمت بعدم المهنية  العسكرية وانعدام الاخلاق.. وانجلت أخيرًا عن كونها محض (صراع على السلطة) رغم فداحة الثمن، ورغم تعدد مفردات الحشد والتجيش (نفرة وفزع قبلي - كما يسمى محليا- واستنفار، ومقاومة شعبية، وكتائب موالية لهذا الفصيل أو ذاك) أصبحت الحرب الأهلية في السودان واقعا مُعاشا.

تعددت المنابر والمبادرات لوقفها لكنها كلها انطوت على (شروط الوسطاء) وارتهنت لتقديرات الموقف العسكري التي أتت غير صائبة منذ البداية.. بين كل هذه المعطيات الاّخذة في التعقيد اصبح التلويح بالعمل من أجل بسط الديمقراطية شعار يرفعه جميع لوردات الحرب، في محاولة لاستمالة الموقف الدولي المساند، واستهلاك يغازل الجماهير في الداخل، فبينما كادت الحرب في السودان أن تتحول إلى وسيلة لحرب القوى الإقليمية والدولية بالوكالة، لم يعد مستبعدًا انزلاقها الى مستنقع اّسن يحول السودان الى ساحة لصراعات المصالح الدولية، ويقع شعبه في براثن الموت المجاني، كما هو الحال الآن.

مدنية منحازة

تأخرت القوى المدنية السودانية كثيرا في رفع الصوت الداعي لوقف الحرب، ويعود ذلك إلى اصطفافات خاوية (مع وضد طرفي النزاع) راهنت في البداية على حسم الصراع عسكريًا وفي وقت وجيز، وعندما رفعت صوتها لم يخلو من انحياز، لذا جاءت كل المبادرات المدنية منقوصة ومصنفة وعاجزة عن فرض إرادة وقف الحرب، بل وسعت الهوة بين الفرقاء أكثر، وبعض القوى المدنية أعلنت رفضها لتلك الأطروحات لكونها لم تنطلق من دوافع الانحياز لمصلحة الثورة السودانية والمدنيين الذين أجبروا على دفع فاتورة الحرب التي سعت بعض القوى السياسية إلى اتخاذها وسيلة لتمرير مشاريع سياسية متصلة بالوصول إلى السلطة عبر (بوابة وقف الحرب) بتيسير إقليمي ودولي في كل مرة.

من غرائب حرب السودان وغموض مجرياتها إحجام "مليشيا الدعم السريع" عن مواصلة الاستيلاء على مناطق أخرى بعد أن فرضت سيطرتها على نحو 12 ولاية من أصل 18 ولاية سودانية، رغم تفوقها - بسلاح السند الخارجي، ودعمه الدبلوماسي والسياسي والإعلامي - بل ظلت تجأر مع حلفاها من المدنيين بضرورة التفاوض، رغم توفر القدرة على حسم المعركة حربا، والسبب واضح وبسيط وهو الخوف من فقدان المشروعية وتحول القاعدة الاجتماعية الى الطرف النقيض، سيما وأن ممارسات منتسبي المليشيا لم تترك مجالا للقوى السياسية الحليفة للكشف عن ذلك التحالف وضمان تأييد الشعب السوداني لها في ذات الوقت، بل اكتسبت "المقاومة السياسية المناوئة" مساحات انحسر فيها مد القوى والأحزاب التي تحالفت مع المليشيا بدعوى تأييد الثانية للتحول الديمقراطي، بينما تنطبق ذات المخاطرة على الطرف الاخر الذي يقف فيه منتسبي الحركة الإسلامية خلف الجيش وأمامه أحيانا -مع الفارق في القدرة وممارسة الانتهاك- ويقرب المشهد اكثر تصريح المستشار السابق برئاسة مجلس الوزراء السوداني أمجد فريد لقناة الحدث الذي قال فيه "يحاول الإسلاميون الاستفادة سياسيًا من هذه الحرب، بالانحياز لأحد طرفيها، كما تقوم (قوى الحرية والتغيير) بنفس المحاولة، بالانحياز للطرف الآخر.. هذه هي الحقائق، وما عداها أكاذيب" .

لكن هنالك كتلة ثالثة - تشمل لجان المقاومة والأحزاب اليسارية وتشكيلات المجتمع المدني - ترى أن أطراف حرب الخامس عشر من أبريل تسعى للقضاء على قوى الثورة الحية، ومحاولة السطو على السلطة حربا أن تمكنت أو باتفاق بذريعة وقف الحرب، في حالة توازن الضعف أو مضاعفة الضغط الخارجي على الأطراف إذا اتسعت تأثيرات الحرب على دول الجوار القريب والإقليم، لذا فهي تنادي بمناهضة دعوات حمل السلاح مع أي من الأطراف ومنع تحول الحرب إلى (أهلية شاملة) ومنع قيام اتفاق يفضي إلى عودة كل أو بعض أطراف الحرب وداعميهم إلى سدة الحكم مرةً أخرى.

توحيد أم شمولية

بالرغم من المسافات الواسعة بين القوى المدنية، إلا ان الدعوات لتوحيد الحراك المدني لم تزل مستمرة مع استمرار التخندق ووضع الشروط، فبنما أطلقت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدم" التي تضم المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير والأقرب لمليشيا الدعم السريع والمدعومة من بعض دول الإقليم والعالم، ما وصفته بـ (خارطة الطريق) للمرحلة المقبلة، وأكدت انفتاحها لسماع اّراء الجميع، شددت رصيفتها المنقسمة منها والمتحالفة مع التيار الإسلامي "قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية "ضرورة الحوار (السوداني-السوداني) دون مشاركة أطراف أجنبية، وفي الاثناء يقول "الحزب الشيوعي السوداني" أن وحدة قوى لثورة باتت اكثر إلحاحاً، وأنهم أداروا مناقشات مع مختلف القوى الثورية، وفي اتجاه آخر تقول لجان المقاومة والقوى المدنية الموقعة على "الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب" أن أحد شروط الوحدة تتمثل في وجود عناصر مدنية ثورية غير انتهازية، تنظر للقضايا من منظور وطني غير حزبي".

بين كل ذلك يتضح أن مساحات الاختلاف أكبر من ما تبدو وفق الاصطفافات الراهنة، تأسيسا على تباين المواقف والتقديرات السياسية التي أدت إلى خروج بعض القوى السياسية والمدنية والمهنية من تحالف (قوى الحرية والتغيير) بعد إسقاط نظام الجنرال البشير، بينما اختارت قوى سياسية أخرى تأسيس تحالف جديد باسم "قوى الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية" وهو التحالف الذي دعى ثم أيد انقلاب 25 أكتوبر 2021، وبذا السجل الضاج بالتناقضات اصبح لكل كتلة رؤيتها للوحدة وتفسيراتها أيضا، وهي كلها تقوم على أحادية الرؤية والنزوع نحو الانفراد، وهو ما يجعل تجدد القتال ممكن مع تغيير سيطرأ في المقاتلين، خصوصا وأن هناك من يرى أن مجرد الجلوس مع الفريق المدني الأخر (خيانة لخيارات الشعب السوداني) .

خطاب لائق 

الواقع يؤكد أن حل الأزمة السودانية متصل بمعالجة جذورها المزمنة، ووقف الرب مرتبط بتجريم أطرافها، فالتعامل معهم على أنهم أطراف فاعلة في الحل سيعقد المشهد أكثر، خصوصًا لدى القوى المدنية المنوط بها عدم إضفاء المشروعية السياسية على اطراف الحرب/ شركاء الانقلاب، والشروع في تأسيس مشروع وطني جامع، هذا هو الخطاب الذي يليق بالقوى المدنية والسياسية، وعبره فقط يمكن أن تتوحد، بعد التسامي عن الأحقاد والنزعات الشمولية والانفرادية. 

سيرة الألم

مع حلول الشهر العاشر لحرب السودان بينت إحصاءات متداخلة وجديدة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن عدد النازحين في السودان تجاوز الـ7.4 مليون نازح، و17.7 مليون يواجهون الجوع، و19 مليوناً من الأطفال خارج المدارس، و97 ألف حالة اشتباه بالإصابة بالكوليرا، وقالت المنسقة الأممية للشؤون الإنسانية بالسودان، كليمنتاين نكويتا سلامي، أنهم بحاجة إلى (350.1) مليون دولار، للقيام بمهماتهم في السودان، منها (159.1) مليون دولار  لزيادة المساعدات المنقذة لحياة المتأثرين من بالنزاع. 

في الوقت الذي أكدت فيه رئيسة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) في السودان، مانديب اوبريان، أن النزاع في السودان يعرض صحة 24 مليون طفل ومستقبل السودان والمنطقة كلها لخطر كارثة ستمتد لأجيال.

بينما حذرت "المنسقة العامة لمعسكرات النازحين - أقليم دار فور" من تدهور الوضع الإنساني، معربة عن مخاوفها من حدوث مجاعة تتسبب في موت جماعي. وشهدت "جزيرة توتي" على النيل الأزرق وسط مدينة الخرطوم (100) حالة وفاة بسبب نقص الدواء منذ اندلاع الحرب.

ودعت "مبادرة صون التراث السوداني" لوقف الحرب وعدم تحويل المساحات المدنية والمناطق والصروح الأثرية والمتاحف والمحميات التاريخية والطبيعية، إلى ساحات للمعارك العسكرية، جاء ذلك إثر ظهور مسلحين يتبعون لمليشيا الدعم السريع في منطقة "النقعة" التي تضم مبان وصروح اثرية شيدت في العهد المروي منذ العام 250 قبل الميلاد. 

وكان وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، قد صرح في الخامس من يناير الجاري أن الصراع في السودان قد اسفر عن جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي، وانعدام الأمن الغذائي والرعاية الصحية، وتعرض العديد من النساء والفتيات للاغتصاب، وهن يعشن في رعب من العنف الجنسي، وسط الفوضى والإفلات من العقاب، وقال بلينكن "إن العالم كله يفكر في المعاناة المستمرة للشعب السوداني، بسبب الصراع الذي لا داعي له بين القوات المسلحة والدعم السريع".

مليشيا الفزع 

يحدث كل ذلك ولم تزل هنالك تخوم حدودية لأكثر من 5 ولايات سودانية تقع تحت مرمى نيران "مليشيا الدعم السريع" رغم انها لم تصلها بعد، وجاءت تصريحات قائد المليشيا محمد حمدان دقلو، لدى لقاؤه بتنسيقية القوى الديمقراطية "تقدم" في أديس أبابا مقلقة اكثر، حيث أقر بوجود قوات لا تتبع للدعم السريع انضمت إلى صفوفه بعد ان جاءت عن طريق الاستنفار القبائلي الذي يسمى محليا بـ(الفزع)، لافتاً إلى عدم سيطرته على تلك القوات التي قد تدخل في مواجهات مع الدعم السريع نفسه في حال محاولة كبح جماحهم ومنعهم من (صيد الغنائم).

وأفاد بأن تلك القوات وصلت إلى ولاية الجزيرة دون تنسيق معه، وبالرغم من محاولة "حميدتي" للتبرؤ من ممارسات مليشياته، إلا أن العذر الذي قدمه كان واهيا جدا، حيث ان (حرب توطين الديمقراطية) حسب تسميته هو لحرب 15 أبريل / نيسان، لم تكن تحتاج إلى فزع قبائلي وإشراك مقاتلين  من أجل المغانم، في خطوة تُعد بداية لتهميش المواطنين على أساس عرقي، فتحت المجال أمام ارتكاب جرائم حرب ونهب مسلح، أدى بدوره لتسلح مقابل بغرض الحماية أولا لكنه صادف هوى خاص لدى قادة الحرب من طرف الجيش.

جيش التنظيم 

في المقابل بدا واضحا أن قرار وقف الحرب لم يعد في يد قاد الجيش، ليس فقط لتطورات الحرب نفسها، لمعطيات الواقع الإقليمي والدولي - المتصل بالشرق الأوسط والبحر الأحمر والقرن الافريقي واليمن - لكن العامل الأكثر تأثيراً في حرب السودان هو دور منتسبي "الحركة الإسلامية" و"حزب المؤتمر الوطني" المحلول في هذه الحرب ووجودهم المؤثر داخل الجيش او بجانبه (كتيبة البراء ابن مالك -مثال)، حيث تمثل نهاية الحرب بغير انتصارهم هزيمة أخرى لمشروعهم السلطوي والوجودي، وهو ما يجعل أمر قبول التفاوض السلمي لوقف الحرب عسير جدا بالنسبة لهم، ومن المؤكد أنهم لن ينصاعوا لأي قرار في ذلك الاتجاه حتى لو أدى الأمر إلى تسليح المواطنين او الاقتتال فيما بينهم، وانفراط عقد الجيش الذي هو في وجهة نظرهم (جيش بناه التنظيم) وهو الذي سيبقي على التنظيم أو فالترق كل الدماء.

في ظل هذه المعطيات المعقدة، يبدو أن مظاهر الانفلات وفقدان السيطرة كانت أيضا دافعا لانطلاق مبادرات من أبناء وبنات الأقاليم التي لم تصلها الحرب بعد، لكنها مهددة بذلك، مثل ولايات شرق وشمال السودان، الذين أطلقوا مبادرات لرفض الحرب، والتعايش السلمي، ووقف خطاب الكراهية وملات التصعيد، ونوع فتيل الفتنة العرقية، ونادوا برفض تسليح المواطنين ونقل الحرب إلى مناطقهم التي اعلنوها  كمناطق اّمنة تعد آخر الملاذات للفارين من جحيم الحرب في بقية ولايات وأقاليم السودان، مع المطالبة بفتح ممرات اّمنة لغوث العالقين وإجلاء المرضى والمصابين، ويبدو أيضا أن الأزمة السودانية لن تُحل قريبا بشكل سلمي، هذا إلى جانب التأثيرات العسكرية المباشرة على دول الجوار ، التي سيكون لها ترتيبات أخرى أكثر انغماسا في لعبة الحرب مع كل صباح جديد. 

في لقاؤه بالعاصمة البديلة بورتسودان مع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة رمطان العمامرة، الأحد الماضي، اكد الفريق اول عبد الفتاح البرهان، التزام حكومته بتحقيق التحول الديمقراطى، واتمام فترة انتقالية تنتهى بانتخابات عامة، وهو أمر ليس محل نقاش الآن، فالأولوية لوقف الحرب، لكن إصرار أطراف الحرب على إبراز وقوفهم الى جانب التحول الديمقراطي، وهم قد عملوا على عرقلة خطواته بقمع ثم انقلاب ثم حرب يجعل الموضوع كله غير قابل للتصديق، فالأقرب للحقيقة الآن أن التحول المدني الديمقراطي في السودان سيصبح صريعا لهذه الحرب مالم تحدث معجزة ما.