إبراهيم عبد المجيد يكتب: صلاح فضل.. سيرة الثقافة والوطن

ذات مصر

هذا كتاب صدر منذ أسابيع عن الدار المصرية اللبنانية عنوانه "صلاح فضل .. سيرة نقدية" بمناسبة ذكرى مرور عام  في ديسمبر الماضي، علي وفاة الناقد والمفكر الكبير صلاح فضل، يضم كتابين سبق أن أصدرهما الدكتور صلاح فضل متتابعين. الأول "عين النقد" عن دار الشروق عام 2013 ثم دار بتانة عام 2018 والثاني " صدي الذاكرة" عن الهيئة المصرية للكتاب عام 2021. 

قامت الدار المصرية مشكورة بجمع الكتابين في مجلد واحد، والحصول علي حق النشر من الناشرين السابقين، وتم التقديم للكتاب مقدمة رائعة من قلب إنسان عظيم هو الأستاذ محمد رشاد صاحب الدار. مقدمة تقطر بالمحبة لصلاح فضل، وتعاونهما معا في العمل وإصدار الكتب والسلاسل بالدار، فضلا عن معاملاته الإنسانية العظيمة مع الدار، التي كان أقلها أنه يرفض أن يتقاضى مكافأة على عمله. 

كذلك مقدمة رائعة للدكتور على بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، وتعاون صلاح فضل معه ومع المركز، وما قدمه من رؤى للمشروعات الثقافية لدولة الإمارات، إيمانا منه بدور تلك المشروعات في بناء ثقافة عربية إنسانية متسامحة، فضلا عن صداقته وإخلاصه مع كل من الأستاذين محمد رشاد وعلي بن تميم. ثم تأتي مقدمة فكرية عن السيرة بقلم تلميذه النجيب الدكتور رضا عطية، وهي المقدمة التي اختاره صلاح فضل نفسه لكتابتها. حديث رضا عطية عن أهمية هذه السيرة بكل جوانبها، وكيف تساعد على استكشاف تكوينات العقل النقدي للدكتور صلاح فضل، وكيف كان في دروب السياسة ودوره الثقافي في مصر وخارجها. كل ذلك موجود في السيرة بتأن رائع . 

صار الكتابان السابقان كتابا واحدا حمل عنوانا واحدا هو ما أشرت إليه في البداية، وهو جهد رائع للدكتور رضا عطية الذي قام أيضا بتحرير الكتاب فأعاد ترتيب مقالاته وفقا لتواريخ نشرها. انقسم الكتاب الجديد إلي أربعة ابواب.  الأول " مقاطع من سيرة فكرية" به أكثر من ستين مقالا أو مقطعا لقصرها في الغالب، فهي تدور في أربع أو خمس صفحات لكل مقطع. 

جاءت قراءتي للكتاب في وقت أعاني فيه من آلام في عينيْ، ولم أعد كما كنت من قبل، استطيع أن أقرأ مائة صفحة في اليوم أو خمسين، فصرت أقرا المقطع أو المقال، وأستريح لساعة أو أقل، ثم أعود إلى مقطع ثاني، تغريني اللغة والأحداث بالاستمرار، وطبعا يدفعني حبي الكبير لصلاح فضل شيخ النقاد من جهة، والإنسان الجميل الذي كانت محبتنا وصادقتنا رائعة عبر السنين.

----------

 تسترجع السيرة كما يقول صلاح فضل ثلاث شعيرات. تمتد أولاها إلى أغوار الذاكرة يحاول الامساك بها من محو النسيان. الثانية تنبثق في بؤرة وعيه أثناء الكتابة لتشكل منظوره الراهن لذاته ورؤيته لماضيه. أما الثالثة فتربط بين الوعي واللاشعور لتحاول التأليف بين العناصر المتفاوتة الدقيقة، وتمارس ألاعيب الذاكرة في " الحفظ والنسيان". هكذا نمضي معه منذ الصغر حيث كانت البيئة الريفية مفعمة بعطر التدين، هي الحاضنة الأولي له، فهو من مواليد قرية "شباس الشهداء" بمحافظة كفر الشيخ عام 1938 لعائلة انتمت وانتسبت إلي الأزهر الشريف. 

هكذا كان التعليم في الكتَّاب عندما أصر جدّه على ذلك، وكي ينخرط في التعليم الأزهري ليعوض والده الذي رحل مبكرا، وهو في عامه الأخير في تخصص القضاء الشرعي. هكذا حَرَّم عليه التعليم الأزهري اللعب مع الأطفال أو الاستحمام في الترعة، وصعد إلى المنبر وهو في الحادية عشر من عمره ليلقي بخطبة الجمعة ويقبّل المصلون يده. كيف يدين لهذه الفترة بتشكيل قدرته اللغوية وتنمية كفاءته في الفهم، وإن كان يطمح إلي عالم أرحب. 

جاء هذا العالم الأرحب حين التحق عمه بكلية الحقوق بالقاهرة، وأقنع جده أن يأخذه معه، فتحول إلى المعهد الثانوي بالقاهرة. هنا تعرض لأكبر عملية غسيل مخ بالقراءة التي ارتاح لها عمه. صار يقرأ لعمه بانتظام مواد وكتب القانون الدستوري والمدني والجنائي وغيره، وعرف طريق الندوات في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، والتحق بكلية دار العلوم ليفر رسميا من الجبّة والعمامة. 

هنا تبدأ المرحلة الجديدة. يأتي الحديث عن الصراع الفكري بين المتشددين والمجددين في صفحات كثيرة وأسماء اقطاب كل فريق. بين ذلك  اختار النقد الأدبي بعد أن أحس بقلة قدراته في كتابة الشعر. وهو في دار العلوم تم ترشيحه لبعثة إلي فرنسا ثم صارت أسبانيا، وبين ذلك حديث عن قصة حبه لزوجته فيما بعد وهي زميلة له في الكلية. 

موضوعات المقالات كثيرة جدا فمثلا يتحدث عن الجوائز التي حرم منها في العالم العربي ومصر، وكيف كان رأيه أن أي جائزة تفخر بالفائز، أما الفائز فهي لا تزيد له عن قيمة مالية تساعده على الحياة. قال ذلك حين فاز بجائزة البابطين مثلا، ويبدو أن ذلك أساءهم فلم يتلقَ دعوات للسفر منهم مرة ثانية. عاصر حرب 1948 ومابعده وكيف صارت فلسطين في القلب وكيف حدثت هزيمة 1967 وهو في إسبانيا فصار العار يكللهم في الغربة. رأيه في التطبيع مع السادات أنه نكتة، وكيف تسبب له ذلك في أزمة حين قاله وهو مستشار ثقافي لمصر ومديرا للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وهو المعهد الذي أقامه طه حسين في الخمسينات.  

قال صلاح فضل ذلك عام 1981 في حوار مع صحفي فتم نشر الحوار وعنوانه " التطبيع نكتة". صار في موقف حرج لكن وقعت أحداث المنصة وتم اغتيال السادات فنُسيَ الأمر.

حديثه عن لماذا وصف كتاباته باسم عين النقد وهو كان عنوان الكتاب الأول، وهي العين التي تظل مسؤوليتها تأمل الحسن واستبصار الجمال والنفاذ إلى روح الإبداع. حديث عن الحب وأزمة الكتّاب في كتابة السيرة، فقليل من يصرح به فيها، وحبه العظيم لزوجته التي كانت معه طالبة في الكلية في مصر، وسافرت أيضا معه إلى أسبانيا لدراسة الدكتوراة والحصول عليها ورحلت قبل رحيله عن الدنيا. يأخذه الحب إلى الحديث عن أم كلثوم وغنائها، وكيف كانوا يلتفون حول الشاعر علي الجندي في كلية دار العلوم في مطلع الستينات، ليحكي لهم عن أسماره في مجلس كوكب الشرق. اقترح الطالب صلاح فضل عليه بخجل أن يعرض عليها غناء الإطلال لإبراهيم ناجي. بعد عامين سمعها تغني الأغنية ولا يعرف هل استجاب علي الجندي لطلبه أم هي الصدفة، وحديث ضافي عن القصيدة وما تغير فيها. الحديث بين المجددين والتقليديين يتجدد كثيرا، وبين أنصار الفن للفن والفن للمجتمع. كيف كانت دار العلوم بين أساتذة تقليديين وحداثيين، والصراع الحاد بين أنصار الشعر الحر والشعر العمودي، وتتالي الأسماء.

هكذا يصبح الكتاب سيرة ثقافية للوطن أيضا، ويستمر هذا الإحساس لدي القارئ فيما هو قادم، وسيزداد الأمر محاصرة له بالسياسة هو الذي رفض طوال حياته أن ينتمي لأي حزب شمولي، شيوعي أو إخواني . وفضل الحرية والليبرالية. وسيأتي الكثير من ذلك. كان الحزب الوحيد الذي دخله بعد ثورة يناير هو حزب المصريين الأحرار، وحديث عن تجربته فيه، وكيف انقلبت الدولة على الحزب فتركه مع غيره.

--------------

 كانت إجادة اللغة الإسبانية من متاعب الحياة الأولى في إسبانيا. كان حين يسأل أحد رفاقه من الأردن أو الشام عما فعل في ذلك، يقول له ما قاله السفير الأردني لهم، عليكم بالقواميس الشقراء ذات الشعور الطويلة. يقصد الفتيات الإسبانيات والعلاقة معهن، لكنه كان يحب زوجته ولا يدخل في هذه التجارب. كان يتوهم أن اللغة الأسبانية سهلة لأن بها آلاف الكلمات العربية منذ الأندلس، لكنه لم يجد ذلك، فلقد صارت الكلمات أسبانية المعنى والنطق وذابت، لكنه استطاع اتقان الإسبانية، زمن ثم تتالي أسماء من عرفهم من كتاب أسبانيا ومفكريها. 

صار حبه للغة مدخلا للترجمة فاختار أن يترجم من المسرح، وكانت دراسته عن المسرح الأسباني، فاختار ترجمة مسرحيات تشبع حاجة الثقافة العربية. على سبيل المثال ترجم مسرحية " القصة المزدوجة للدكتور بالمي" لبويرو باييخو التي تتحدث عن التعذيب في السجون، وعرضت في مصر من تمثيل عزت العلايلي ومحسنة توفيق بعنوان دماء علي ملابس السهرة عام 1978 من إخراج الدكتور نبيل منيب، واستمرت وقتا طويلا أيام مجد المسرح القومي.

 رحلته مع البنيوية بدأت مبكرة عن غيره. كانت أولي نقراتها مقالات رولان بارت التي تسربت إلى مدريد. بين ذلك جاءت أحداث عام 1968 وثورات الشباب في أوربا. في حديث له مع الدكتور ثروت عكاشة حين زار أسبانيا ذلك الوقت للترويج للنظام المصري بعد الهزيمة في 1967 ناقشه بحدة متأثرا بما حوله، في افتقاد الحريات في مصر ومصادرة المسرحيات. ظل باحثا عن الحرية وكانت الديموقراطية هي الحب الكبير والعروس التي لا تشبهها عروس. 

داهمه ذلك الوقت إحساس بضرورة محو المفاهيم القديمة في الأدب والنقد فالعالم يتغير، فكان تكوينه الشخصي دافعا لتبني هذا التوجه العلمي الجديد للبنيوية، فجاء  كتابه الأول أو إبنه البكر" نظرية البنائية في النقد الفني". أذكر أني عام 1978 حين سافرت إلى المملكة العربية السعودية للعمل، أن هذا الكتاب كان من بين كتب أخذتها معي. قرأته هناك وكتبت عنه مقالا نشرته في مجلة اليمامة، وكان رغم جديده من أسهل ما قرأت في البنائية من المصريين، التي صارت القراءة فيها صعبة بعد ذلك لأسباب كثيرة.

هكذا كانت معرفتي المبكرة بالراحل العظيم .

دائما العودة إلي سنوات البعثة مع موضوعات تتغير. لقد شرب كأس الثقافة الأسبانية حتي الثمالة في السنوات السبع التي قضاها في البعثة. حديث عن مفردات الحياة بتفصى رائع، مثل رقصة الفلامنكو وأشكالها، وكيف أن هناك اعتقادا أنها مصرية جاءت مع الغجر الذين وفدوا على أوربا من مصر، لذلك يسمون الراقصة الغجرية "الفرعونة ". الحقيقة تاريخ الغجر مثير، لكني أذكر فعلا أني كنت أراهم كل يوم في الخمسينات في طفولتي في الإسكندرية كما قال هو، حتى رحلوا عن البلاد. 

إيمانه من رحلته بأهمية ثقافة الصورة ووحدة الفنون، وما رآه من معارض فنية. معرفته بحسن فتحي ودعوته لأسبانيا، وفيما بعد صمم له حسن فتحي منزله بالمعادي، لكن إدارة الحي اعترضت على التصميم الذي يجعل الحديقة وسط الغرف، فصارت خارجها، ومعاناته المالية حتي توفر له ما يبني بيته الصغير.

بعد أن عاد إلى مصر والتحق بالجامعة أستاذا للأدب والنقد، ولذلك طرائف بين الأزهر وكلية الأداب الذي تم تعيينه فيهما، بدا كأنما كُتبت عليه اللغة الأسبانية، فجاءته فرصة السفر عام 1974 محاضرا في الثقافة العربية باللغة الأسبانية في جامعة المكسيك. كانت تلك سنوات الانفجار الروائي الكبير، حيث صارت أعمال ماركيز وبورخيس وفوينتيس تغزو أوربا. حديث عن الحياة الاجتماعية بمفرداتها المثيرة من ماكل وملبس وغيره والحياة السياسية. توقفه حين رأى لأول مرة في المكسيك شعارا يقول " إعادة الانتخاب خيانة"  كانوا يقصدون بها إعادة انتخاب الرئيس مرة أخرى بعد أن انتهي الحكم العسكري من هناك، فتكفي مرة واحدة تحقيقا للديموقراطية، العروس التي يحلم بها ولا تضاهيها عروس. تأثر طبعا بذلك وهو يتذكر الأحوال في مصر.

----------

في الكتاب الرائع  حديث ضافي عمن قابلهم من العرب أو المصريين في أسبانيا والمكسيك، والمؤتمرات والمعارض التي أقامها. أسماء مثل توفيق الحكيم وحسين فوزي الذي حفل اللقاء معهما بالمقالب والضحك من قبل توفيق الحكيم. كذلك ثروت اباظة  الذي كان يتعبر معارضة السادات تأتي من الشيوعيين. وإحسان عبد القدوس الذي التقاه في المكسيك وكتاباته، ورأيه أنها وقفت عند الطبقة المثقفة في اختيار شخصياتها، وراي إحسان الذي اقنعه بقيمة ما يكتب.

بعد عودته من المكسيك، حديث عن جهوده في دفع الثقافة، منها كيف نشأت مجلة فصول على يديه والدكتور عز الدين اسماعيل وجابر عصفور، ودور المجلة النقدي وهدفها. رحلته إلى البحرين وكيف كانت دعوة لأربعة أشهر يحاضر في الجامعة، فاستمرت أربع سنوات، والدور العظيم الذي قامت به الشيخة  "ميْ آل خليفة" في تطوير الثقافة في البحرين، وما انشأته من معاهد ومراكز ثقافية ومتاحف وغيره، وهو دو رمشهود لها. يطوف العالم العربي فيأخذ منه مهرجان المربد في العراق الكثير من الصفحات يناقش الأمر والجوائز الخاصة بالمؤتمر وما حولها. 

تأخد الرحلة مع الإرهاب في مصر في الثمانينات والتسعينات مكانها، مع مقتل فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ، ورفع قضية ضد نصر حامد أبو زيد للتفريق بينه وبين زوجته وما كتبه هو مناصرا لنصر بوزيد. هنا تطل السياسة أكثر ورأيه المناهض للديكتاتورية التي جاءت مع ثورة يوليو، أو  في فكر الإخوان المسلمين. صفحات جميلة مثل ندي الصباح عن التعاون مع الدكتور اسماعيل سراج الدين في مكتبة الإسكندرية، التي شهدت على يديه أكبر فضاء للحرية، وأنا شاهد على هذا الفضاء. كيف تولى مسؤولية دار الكتب في عهد فاروق حسني، ومافعله فيها من تطور وتطوير، سواء في المطبوعات أو المكان نفسه أو فرعها في باب اللوق. حديث جميل بشكل منفرد عن محمد سلماوي وأدبه وانسانيته، وكيف أنه لم يكن يعرف أنه من عائلة اقطاعية كبيرة تم تأميم أراضيها مع عبد الناصر، لكنه عرف ذلك من مذكراته. هذا ماحدث معي أيضا وأنا أقرأ مذكرات محمد سلماوي في جزئيها" يوما أو بعض يوم" و" العصف والريحان" واندهشت مثله من معاملة سلماوي لنا، دون أن يتباهي بأصله أو مراكزه الصحفية والثقافية، وكتبت مقالين منذ عام عن هذه المذكرات. حديث جميل عن كتابات سلماوي الرائعة في المسرح، وروايته "أجنحة الفراشة" التي كانت نبوءة بثورة يناير في ميدان التحرير.

 تظهر السياسة التي عاش فيها دائما رافضا الانتماء إلى أي جماعة  شمولية، شيوعية أو دينية، ومنها ماحدث في اتحاد الكتاب آخر التسعينات حين تكونت جماعة مع سعد الدين وهبة لاسقاط ثروت أباظة المعادي بشدة لليسار، وإحلال عشرة جدد بدلا من أتباعه في مجلس الإدارة الذي يتكون من عشرين عضوا، وفي كل عامين يتم التجديد النصفي لعشرة منهم. وبالمناسبة كنت أنا مع هذه الجماعة حول سعد الدين وهبة ونجحنا. كنت من الناجحين أول مرة، بينما هو لم يحصل علي الأصوات الكافية وإن كان على أبوابها، وهكذا حين استقال أحد الباقين من العشرين الذين مع ثروت اباظة حل هو محله. لم استمر عضوا في مجلس الإدارة غير عامين وقدمت استقالة مسببة بعد أن تولاه فاروق شوشة بعد وفاة سعد وهبة ثم خلفه فاروق خورشيد، وبدا الاتحاد مع فاروق شوشة يفقد كثيرا مما كسبناه. لم انتظر مرور أربع سنوات وهي المدة القانونية لكل عضو بعد النجاح في الانتخابات، وكل ذلك في صحف ذلك الوقت وبصفة خاصة روزاليوسف أو صباح الخير. لم أعد أذكر، لكن حديث الدكتور صلاح فضل هو الذي ذكرني. واستقال ايضا جمال الغيطاني وبهاء طاهر.

تحدث النقلة السياسية الكبيرة مع ثورة يناير. كيف تم اختياره في المجلس الاستشاري الذي أقامه المجلس العسكري بعد الثورة. تفاصيل الجلسات وأسماء الفاعلين ممن معه، ومن ثبت على رأيه ومن تغير .حديث عن المجلس العسكري والإخوان وماجرى حتي جاء محمد مرسي فعصف بالدستور، وكيف لم يكن يحكم لكنهم قيادات الجماعة هي التي تحكم ثم ماجري بعد ذلك. 

هنا ننتقل إلي الباب الثاني أو الجزء الثاني من الكتاب، ثم الباب الثالث والرابع، فيصبح الكتابين كتابا واحدا كما نسقه الدكتور رضا عطية. عنوان الباب الثاني هو "أبناء وبنات وأفكار" وفيه رحلة تفصيلية مع كتبه وكيف كتبها ومراجعه فيها، وكيف نشرها بدءا من كتابه الأول، أو إبنه البكر" نظرية البنائية في النقد الأدب " الذي أشرت إليه من قبل، ثم الأول مكرر أو الثاني "منهج الواقعية في الإبداع الأدبي" ثم كتابه "تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية" ومافعله سابقون من المستشرقين مثل الفرنسي بلوشيه مطلع القرن الماضي، والإسباني أسين بلاسيوس، وكيف كان ينقص الموضوع دليل مجسم، حتي تم العثور على "وثيقة المعراج" عام 1949 في كل من إيطاليا وإسبانيا، وكيف كانت مشكلته أنه لا أصل عربي لهذه الوثيقة أو فقدان الأصل العربي مما قد يشكك في المسألة.

ثم  كتابه "علم الإسلوب" ثم كتابه "ملحمة المغازي أو ما بعد الأندلس" وماجري للمورسكيين وما خلفوه من شعر وملاحم، ولقد كتبت أنا يوما عن هذا الكتاب الرائع. طبعا لم يكتب عن كل الكتب لكنها رحلة مثيرة ليس لما فعله من بحث ومراجع فقط، لكن لما حوله من أفكار والتجديد فيها، وأثر الكتب علي كثير ممن حوله من النقاد والمفكرين. يخص أحمد عبد المعطي حجازي بمقال، وكيف كان وراء ترشيحه لجايزة نوبل من مجمع اللغة العربية. ثم نأتي إلى ثورة يناير من جديد والأزهر والمثقفين ووثيقة الأزهر عن الثقافة. بعدها يأتي الشعر ليحتل مساحة كبيرة، وأحاديث عن هل هناك حقا أزمة في الشعر. 

طبعا رغم ما ذكرت لم أكتب عن كل شيئ في الكتاب.. فهو حافل بالموضوعات والكتّاب والفنانين ومعاركهم أو طموحاتهم الفكرية، وفي كل ذلك كان موضوعيا لا يفتئت على أحد. فشكرا للدار المصرية اللبنانية علي هذا الكتاب الرائع، وشكرا لرضاعطية علي جهده الكبير. رغم حجم الكتاب فهو يقع في أربعمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير، تجري معه ولا تتوقف، وكم كنت أحزن لتوقفي لحظات لآلام عينيْ. 

أجمل ختام للكتاب كلمة الروائي الكبير إبراهيم الكوني التي وضعتها الدار في نهاية الكتاب كسلام وداع للراحل العظيم، عن صداقتهما، وكيف أن الناقد هو الحكيم أو الفيلسوف، في تلقين الأجيال دين الحقيقة، عملا بوصية أبيقور " كن عبدا للفلسفة تغدو سيدا في الحرية، وهكذا كان صلاح فضل لمن عرفه، وهكذا رحلته لمن لم يعرفه.