أحمد داود أوغلو.. مُنَظِّر «العدالة والتنمية» المنقلب على أردوغان

ذات مصر

ترتبط مدينة قونيا في الذاكرة المصرية بمعركة قونيا الشهيرة التي خاضها الجيش المصري في ديسمبر 1832، أمام جحافل الجيش العثماني، التي لم تستطع الصمود أمام المصريين لأكثر من سبع ساعات، مُنيت خلالها بهزيمة كاملة مكّنت المصريين بقيادة القائد الفذ إبراهيم باشا ابن محمد علي من التقدم نحو إسطنبول التي يفصلها عن قونيا حوالي 400 كيلو متر، ليحتل الجيش المصري كوتاهية، قبل أن يرسل إبراهيم باشا كتيبة استطاعت احتلال مغنيسيا بالقرب من إزمير.. لكن الأمور انتهت إلى انسحاب الجيش المصري إلى حدود الشام بعد توقيع معاهدة كوتاهية.

وتعتبر قونيا أكبر ولايات تركيا من حيث المساحة، كما تعرف بمدينة الدراويش إذ يوجد بها قبر جلال الدين الرومي، لذلك تستقبل المدينة ملايين السائحين سنويا لمشاهدة احتفالات المولوية الراقصة.

تاريخ قونيا الذي يمتد عبر آلاف السنين، جعلها ندا لإسطنبول التي ظلت وجهة لأبناء قونيا البارزين في شتى المجالات، ومركز جذب للطامحين في تقلد المناصب العليا.. ويأتي على رأس هؤلاء أحمد داود أوغلو المولود في قونيا عام 1959، والذي انتقل من مدينته إلى إسطنبول عام 1979، لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة  البسفور.

في فترة دراسته الجامعية الأولى شهدت البلاد انقلابا عسكريا دمويا بقيادة كينان إيفرين، الذي حكم البلاد بالحديد والنار قرابة التسع سنوات. لم يكن لأوغلو أي نشاط سياسي في الجامعة في تلك الفترة، كان حريصا على الانتظام التام في دراسته؛ حتى حصل على درجة البكالوريوس عام 1983، واستمر أوغلو في دراساته العليا إلى أن حصل على درجة الماجستير في الإدارة العامة، ثم درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

عقب حصوله على الدكتوراه التحق أوغلو بالعمل في الجامعة الإسلامية الدولية بماليزيا لمدة ثلاث سنوات، ثم عاد إلى تركيا عام 1993، ليصدر كتابه "النموذج البديل.. أثر تباين الرؤى المعرفية الإسلامية والغربية في النظرية السياسية" الذي تناول فيه "التمايز بين مسارَيْ الفكر الإسلامي والغربي مع تحليل للكثير من آراء الفلاسفة الغربيّين وفكرتهم عن الإله والإنسان، ومصدر المعرفة الذي قامت عليه الحضارة الإنسانية، مبيّنا أن تمايز مصادر المعرفة بين الحضارتين أساسه اختلاف النظرة إلى الوجود وعلاقته بالطبيعة في إنشاء "نظرية المعرفة".

كما أكّد أوغلو على إمكانية إعادة تقديم التراث الإسلامي، من خلال إعادة تفسيره وتقديمه بوصفه نموذجا عالميا بديلا عن النظام الغربي، وأن العامل الحاسم في ذلك هو الفهم والقراءة الصحيحة لأسس النظرية السياسية الإسلامية وتطبيقاتها النموذجية".

 وفي العام التالي صدر له كتاب آخر بعنوان "التحول الحضاري والعالم الإسلامي" الذي استكمل فيه رؤيته حول الحضارة الغربية وأزمتها الراهنة؛ خاصة بعد أن وصلت إلى مرحلة متطرفة من الاستعلاء وأنكار الحضارات الأخرى وثقافاتها، على النحو الذى تعبّر عنه "نظريات النهاية" التي تبنّاها عدد من المفكرين الغربيين.

وحين أسس نجم الدين أربكان حزب الفضيلة عام 1998، كان أوغلو أحد المقربين منه إلى جانب أردوغان وعبد الله غول وعلي باباجان، وحلمي جولار، وبولنت أرينتش.. وآخرين.

وكان أوغلو ضمن 124 عضوا تقدموا باستقالتهم من الحزب الذي حُلّ بحكم قضائي عام 2001، وهو العام الذي شهد إعلان قيام حزب العدالة والتنمية  الذي ضمت قائمة مؤسسيه  جميع المنشقين عن حزب الفضيلة تقريبا.. وفي العام نفسه أصدر أوغلو كتابه الشهير "العمق الاستراتيجي موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" الذي أوضح فيه مكانة تركيا تاريخيا وآنيا على المستوى السياسي الإقليمي والعالمي من خلال قراءة شاملة ومعمّقة للعوامل التاريخية والجغرافية التي يرتكز عليها في رؤيته للدور الذي يجب أن تلعبه بلاده، والإطار الذي يحدد سياساتها الخارجية.

ولمدة أربع سنوات مارس أحمد داود عمله، متحدثا زائرا في الأكاديمية العسكرية وأكاديمية الحرب في الفترة ما بين 1998 و2002، ولا شك في خطورة هذا الدور الذي أتاح للأكاديمي المرموق تشكيل الوعي السياسي والتاريخي والاستراتيجي لدى قطاع كبير من ضباط القوات المسلحة التركية، التي تعلن نفسها دائما بوصفها حارسا لقيم النظام العلماني التركي.

لم يكن أوغلو عضوا عاديا في الحزب؛ بل مُنظّره الأول ومهندس سياساته وواضع خططه التي أسفرت عن فوز الحزب بانتخابات 2003، وحصوله على أغلبية مقاعد البرلمان، ما مكن الحزب من تشكيل الحكومة التي ترأسها عبد الله غول، واكتفى أوغلو بمنصب مستشار رئيس الوزراء مع منحه لقب سفير.

ظل أوغلو مستشارا لرئيس الوزراء غول حتى تركه الوزارة لتولي منصب رئيس الجمهورية، وعندما تولّى أردوغان المنصب، أبقى على أوغلو مستشارا له.. ووضح تأثير "الخوجا" كما يحب بعض المقربين منه أن يلقبه، على أداء أردوغان الذي سمح لأغلو بمغادرة المنصب الرفيع في عام 2009، ليتولى حقيبة الخارجية.

في عام 2010، اختارت مجلة فورين بوليسي داوود أوغلو، ضمن أهم 100 شخصية فكرية في العالم، بوصفه "أحد أهم العقول التي وقفت وراء نهضة تركيا الحديثة".

وخلال خمس سنوات قضاها أحمد داود في الخارجية- عمل بدأب على تطبيق مبدأ "تصفير المشاكل" مع دول الجوار، وإظهار الوجه الحضاري لتركيا، وإزالة أي صورة سلبية لدى المجتمع الدولي عن بلاده، كما وصل أوغلو إلى حلول مرضية مع أكراد بلاده، الذين يقودون تمردا ضد الدولة التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا من الجانبين.

مضى داود في ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي، بأسلوب جديد وهمة عالية؛ دون قناعات قوية بإمكانية الانضمام، فهو يفهم العقلية الغربية جيدا، وهي كما أُعلن غير مرة تعتبر الاتحاد الأوروبي "ناديا مسيحيا".

ظهر جليا اهتمام وزير الخارجية الجديد بالعلاقات مع دول البلقان "التي تشكل من الناحية الجغرافية امتدادا لتركيا في القارة الأوربية" بالإضافة إلى الجمهوريات الإسلامية في أسيا، خاصة البلدان التي يتواجد بها من ما زالوا يحتفظون بهويتهم التركية.

كما حظيت الدول العربية، خاصة مصر بمكانة جيدة في جدول أولويات خارجية أوغلو.. ونستطيع القول أن الخمس سنوات التي قضاها أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية التركية هي الأفضل على الإطلاق في إدارة كثير من الملفات التي ظلت لسنوات بالغة التعقيد.

وفي عام 2014، وعندما غادر أردوغان منصب رئيس الوزراء، ليتولى رئاسة الجمهورية التركية.. اختير داوود أوغلو رئيسا لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ثم تولى منصب رئاسة الوزراء؛ لكن الأمور لم تسر على ما يرام إذ قرر أردوغان تغيير نظام الدولة إلى النظام الرئاسي، وهو ما رفضه أوغلو واعتبره خروجا عن نهج العدالة والتنمية وتكريسا للاستبداد ولو بصورة مختلفة.

ظهرت الخلافات بين أردوغان وداوود أوغلو إلى العلن في مايو عام 2016، عندما طلب الرئيس التركي من داود أوغلو تقديم استقالته بعد اجتماع بينهما بحسب ما قالت الصحف المحلية التركية وقتها، وقد كتبت إحدى الصحف حينها عنوانا يقول "تركيا دخلت في النظام الرئاسي فعليا" في إشارة إلى استجابة رئيس الوزراء لقرار أردوغان بإقالته وأن منصب رئاسة الوزراء أصبح بلا أهمية بعد ظهور بوادر النظام الرئاسي.

بعد استقالة أوغلو من رئاسة الحكومة، بادر إلى الاستقالة من رئاسة الحزب وأبقى على عضويته في البرلمان، وعندما اشتدت الخلافات داخل الحزب نتيجة لمجاهرة أحمد داود بنقد سياسات أردوغان التي أدت إلى خسارة الحزب للانتخابات وانحسار شعبيته- أعلن في خطوة استباقية استقالته من الحزب بعد أيام من صدور قرار داخل الحزب بإحالته إلى لجنة تأديب مصحوبا بطلب فصله وكان ذلك في مؤتمر صحفي جرى في 13 سبتمبر 2019. 

بعد ثلاثة أشهر اعلن أوغلو انطلاق حزبه الجديد (حزب المستقبل) بوصفه حزبا معارضا للحزب الحاكم.. ومنذ التأسيس لم يتوقف أوغلو عن معارضة سياسات أردوغان داخليا وخارجيا، كما أعلن مساندته للمرشح الرئاسي كمال قلجدار أوغلي رئيس حزب الشعب الجمهوري، في الانتخابات التي جرت العام الماضي وأسفرت عن فوز أردوغان وسط اتهامات بحدوث تجاوزات. 

"الإنسانية تُقتل وتُرتكب إبادة أمام أعين العالم بأسره. أيها العالم، هذه حرب بين إسرائيل والإنسانية، افتحوا أعينكم واسمعوا الصرخات، أياديكم مُلطَّخة بالدماء، الإدارة الإسرائيلية القاتلة قصفت مخيم نازحين في رفح وقتلت العشرات، ماذا ينبغي أن يحدث أكثر من هذا لإيقاف هؤلاء المخربين؟ الإنسانية تموت ومن يُعتقد أنهم بشر يكتفون بالمشاهدة”.

بهذه الكلمات علّق أوغلو على جريمة الإبادة الجماعية في عزة، لكنه لم يكتف بذلك؛ بل انتقد موقف الرئيس التركي؛ واتهمه بالتواطؤ مع الكيان الصهيوني، وطالب بالكشف عن محضر الاجتماع بين نتنياهو وأردوغان، والكشف عن ثمن خيانة تركيا لغزة، واستمرارها بفك الحصار عن الكيان.

ويرى البعض أن أوغلو وأردوغان وجهان لعملة واحدة، وأن الصراع بينهما هو صراع على السلطة لا أكثر، بينما يميل ميزان القوة إلى جانب أردوغان الذي أنجز مشروعه في الاستيلاء على السلطة منفردا، متجاوزا أصعب العقبات وأخطرها.. وليس من بينها بالطبع "الخوجا" مُنظّر العثمانية الجديدة.. حليف الأمس عدو اليوم.