ياسر أنور يكتب: المصالحة بين الإسلام والعلمانية 

ذات مصر

ربما لا نبالغ إذا قلنا إن (منظومة الفكر والعقل العربي) القائمة على (الثنائيات الوجودية) هي أحد أسباب التراجع الحضاري منذ قرون. فالعقلية العربية ترى الأمور والأشياء من خلال منظورين اثنين ... الإيمان والكفر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، العلماني والإسلامي.. وهي تتجاهل في تلك النظرة مساحات كبيرة متدرجة للانتقال من حالة إلى حالة أخرى مضادة ... فالإسلام ليس صيغة واحدة - ليس فقط على المستوى التشريعي- (التراث الفقهي خير شاهد على ذلك) ولكن على المستوى العقدي أيضا (الفرق الإسلامية وقراءتها المختلفة للعقائد الإسلامية). فإذا حدث ذلك الخلاف على المستوى النظري، فكيف يكون الحال على مستوى التطبيق؟ وفي علم أصول الفقه، فإن هناك مساحات كبيرة للانتقال بين المتضادين.. فالانتقال من الحلال إلى الحرام يمر بمراحل بمن (الفرض- الواجب- المندوب-المستحب-المكروه كراهة تنزيه- المكروه كراهة تحريم ...) إلى غير ذلك من الدرجات التشريعية..، ومع ذلك فإن العقل العربي لم يستفد من تلك المرونة التشريعية والمنهجية.. وظل يعيش في منفى من الثنائيات المتضادة حتى رفع شعار (من ليس معي فهو ضدي)، ومارسه بأقصى درجة من درجات التطرف.. ليس فقط على المستوى الشعبي، ولكن - وهذا هو أحد ملامح الأزمة – على المستوى النخبوي ... فوجدنا ساسة ومثقفين ومفكرين وكتابا يطالبون بأقصى درجات الإبادة مع كل من يختلف معهم في مواقفهم السياسية والفكرية حتى وصلنا إلى هذه الدرجة من الانقسام والتشظي، وحتى لم يعد ثمة شيء يمكن أن نتفق عليه !، وذلك لطبيعة العقلية الثنائية التي   لا تمتلك بنية معرفية ذات رؤية مستنيرة بل هي عقلية حادة التفكير، ثنائية الرؤية.. وهذه العقلية ليست إحدى نتائج ثورات الربيع العربي.. بل هو مأزق قديم متجذر في العقلية العربية عبر تاريخ طويل، لكنه طفا إلى السطح مع صدور كتاب الشيخ على عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) عام 1925م". وبين الأسباب والسياقات التي دفعت علي عبد الرازق إلى نشر كتابه هذا في ذلك الوقت، ولم تكن عاصفة الخلافات والردود والمحاكمة التي صاحبت ظهور الكتاب إلا دليلا يؤكد ما نشير إليه ونحذر منه وهو أن جزءا كبيرا من تأزم المشهد الثقافي والفكري وهذا التراجع الحضاري يكمن في طبيعة عقلية النخبة التي تصر على التعامل مع القضايا الكبرى بتلك الثنائيات الحادة. إنني إذن أستطيع أن أؤكد أن أكثر المنظرين الإسلاميين والعلمانيين هم العامل الأساسي في تكريس حالة الجمود الذي تعانيه الأمة.. وأن الاستبداد بشكل عام ما هو إلا نتيجة للاستبداد الفكري والمذهبي.. وأن أي إصلاح حقيقي لا يمكن أن يبدأ من تغيير شكل الدولة السياسي.. بل يبدأ من تغيير المنظومة الفكرية والبنية المعرفية للعقل العربي. إن الإلحاح على فكرة عدم الالتقاء بين العلمانية والإسلام هي إحدى سمات الثنائية الحادة للعقل العربي.. لأنه لا يوجد إسلام واحد.. وعلمانية واحدة بل هناك درجات من القراءات والممارسات الإسلامية، وهناك درجات من القراءات والممارسات العلمانية أيضا. وقد أشرنا كثيرا إلى النقاط التالية:

أولا التفريق بين المشروع الفقهي القائم على الحرام والحرام، والمشروع الحضاري القائم على المصالح والمفاسد، فالحلال والحرام رؤية الفقيه، والمصالح والمفاسد رؤية السلطة.. 

ثانيا التفريق بين التحريم والتجريم، فليس كل ما يحرم شرعا يجرم قانونا. 

ثالثا التفريق بين التشريع النظري والتطبيقي، فعلي المستوي النظري، تعتبر الشريعة ثابتة لا تتغير، أما على مستوي التطبيق، فهناك خلاف كبير لاعتبارات العرف والتقاليد وأيدولوجيا السلطة، مساحة الاشتباك الإقليمي والدولي. فالإسلام في أفغانستان يختلف عنه في تونس، وكلاهما يختلف عنه في فرنسا وبقية البلدان. 

رابعا تتفوق الشريعة على العلمانية في ممارسة الحريات الخاصة، وقد روي البخاري عن الحسن البصري أنه أجاز لنساء العجم أن يخرجن كاشفات صدورهن، وطالب المعترضين من المسلمين بغض البصر. 

ولذلك فإني أرى أن المساحات المشتركة بين الإسلام الواقعي والحضاري (وليس النظري أو الفقهي) يمكنه أن يلتقي مع العلمانية الواقعية لا المستوردة.. بل إنني أذهب إلى أبعد من ذلك وأرى أن العلمانية الغربية والتخلص من الكهنوت لم تكن إلا نتيجة للاحتكاك بالفكر الإسلامي عن طريق ترجمات القرآن الكريم وكتب الفلسفة والفكر الإسلامي التي دفعت أوروبا إلى التخلص من ميراثها القديم.. وإقامة علمانية غربية على أسس إسلامية!