"الأقدام السوداء" .. تقاطعات "العشقِ والدجل" لمحمد فايز حجازي تُبشر بعبد الرحمن منيف جديد

ذات مصر

إلى الأن مازل يتصدر السفر الضخم لعبد الرحمن منيف "مدن الملح" قوائم أهم الروايات  العالمية، وكان سياق معرفتي لهذة الرواية من خلال أستاذي فاروق عبد القادر الذي أشار علي بقراءتها، وكانت 2500 صفحة وقت البدايات الحقيقية فى القراءة أمر سهل ميسور؛ فلا فضاء آخر يزاحم القراءة فلم يكن الانترنت وقتها يزاحم أوقاتنا نحن الجيل الذي تربينا على رائحة الأحبار فى الكتب والجرائد.

ووقتها كتبت ملاحظات عن الرواية وعرضتها على الأستاذ فاروق، ومن ضمنها على ما اذكر

تناول الرواية قضيتي النّفط والصحراء فى حين لم يتناولها روائي مصري، فقال لي أن رواية "شمروخ" لمحمود تيمور ناقشت الموضوع ولكن ليس بعمق عبد الرحمن منيف، واضاف جملة لا استطيع نسيانها "هم رواد فى هذا الباب" كانت هذة الواقعة فى انصاف التسعينيات، ولم اتخيل يوما ما أن تعود بي ذاكرتي لهذا الحديث وأنا اقرأ رواية "الأقدام السوداء"

رواية "الأقدام السوداء" هى الرواية الأولى لكاتبها محمد فايز حجازي سبقتها مجموعات قصصية: الجنة المحترقة، سفير إبليس، سرقة الإمام، نبض الأماكن، أزمة قلبية،  أنتيكات.. (أسفار عن الفقد والحنين).

الرواية التي بين أيدينا صادرة عن دار نشر ببلومانيا لعام 2024 تتناول فى الماضي عالم استخراج البترول منذ نشأته ويتقدم فى الزمن ليوثق لنا كيف مرت تلك الصناعة فى مصر والجزائز، بدون أن يقع فى فخ التصنيف فلا يمكن أن تضعها فى سياق الرواية التاريخية رغم أن المخيال التاريخي أحد ركائزها، ولم يقع فى بوتقة الرواية المعرفية رغم أن الجهد التوثيقي واضح من خلال التفاصيل والرسومات، ولم يقع فى الرواية الواقعية/ الرومانسية رغم تشكل المعمار الروائي على أساسها، والهروب من التصنيف كان ذكاء ومراوغة من السارد لعدم الانضواء تحت مظلة الكلاسيكي والرائج فى الرواية العربية ليخلق عالم وحده بعيد عن تصنيف النقاد المنصف أحيان، والمجحف فى أحيان أخرى.

كان الزمن فى الرواية يسير من 1859 فى بنسلفانيا إلى ثم إلى السويس 1886 ثم إلى الجزائر 1917 ويعرج على السعودية فى 1938 ويعود إلى الأني فى 2012 وكل ذلك الحيز الزمني السردي فى معمار روائي متماسك؛ فلم يفلت منه الخيط الروائي طوال السرد، وضع فيه قدم فى الماضي وتحرك فى زمن برهافة شاعر يلقي قصيدة ملحمية فلا أنت نستطيع الفكاك من سرده، ولا تستطيع اتهامه بالسطحية التي تتهم بها "الرواية التشويقية" فى العالم العربي.

عنوان الرواية "الأقدام السوداء .. تقاطعات العشقِ والدجل" تكرس لقيمة العشق عبر القصة العاطفية بين شخوص الرواية، وإن كنت أرى أن العنوان الجانبي الذي ينطبق على الرواية" الأقدام السوداء ..تقاطعات العشق والمؤامرة" لأن الدجل إذا كان نصب واحتيال، واللفظ تراثي اسلامي إلى حد بعيد، وتم تشكيل المؤامرة فى الرواية بدون ميلودراما وبدون الوقوع فى "هوس نظرية المؤامرة"

و"نظرية المؤامرة" وفق تعريفها هي تفسير لحدث أو موقف يؤكد وجود مؤامرة من قبل مجموعات قوية، غالبًا ما تكون ذات دوافع سياسية، عندما تكون التفسيرات الأخرى أكثر احتمالية.المصطلح له دلالة سلبية بشكل عام ، مما يعطي دلالة أن جاذبية نظرية المؤامرة تستند إلى التحيز أو الإدانة العاطفية أو عدم كفاية الأدلة. تختلف نظرية المؤامرة عن المؤامرة

وتتجلى قدرة الروائي فى الجمع بين إدوين دريك الذي ابتكر تقنية لاستخراج البترول من الأرض، لتخطيط الرجل العجوز أو السيد الأعظم أو  المرشد لجماعة الأقدام السوداء وتوظيفه هذا الكشف لصالح التلاعب بمقدرات البلاد والعباد إلى البدو وطموحاتهم التوسعية فى الإغارة يقف المهندس حسن عبد الكريم محاولا الهروب مع حبه داليا بن بركة عالمة  الجيولوجية.

ويحسب للروائي أنه قام بتهميش المتن السردي الخليجي، ووضع فى متن الرواية الهامش التاريخي لريادة مصر فى هذا المجال، إنها رؤية سردية أخرى مخالفة لما يتم الترويج له الأن فلم يحكي لنا ما هو معلوم عن ما حدث فى تداعيات صفقات البترودولار الذي استخدم على نطاق واسع في منتصف سبعينيات القرن العشرين عندما أدت أسعار النفط المرتفعة إلى توليد فوائض تجارية وحسابية كبيرة للدول المصدرة للنفط"الخليج" بل غاص بنا عبر سردية تم تهميشها عن عمد لصالح تصدر تلك الدول فى التاريخ.

ربما الوقوف أمام عمل محمد فايز حجازي بإزاء الروائي الكبير عبد الرحمن منيف هو إنصاف لما وجدناه من تطور لجيل من الكتاب لهم عالم روائي حقيقي، ورؤية ثاقبة لمستقبل الرواية الذي أصبح ضبابي وسط ركام من الروايات التى لا تستحق الالتفات إليها، وبعد هذة الرواية أصبح التحدي أكبر لأننا ننتظر عبد الرحمن منيف جديد.