فلتستعمرنا السودان ..إن لم نستعمرها (1-2).

ذات مصر

 

 

 

يحكون عن الأمير عمر طوسون(ت/1944) وقد كان احد أفضل و أهم أمراء الأسرة العلوية أنه قال فى رده على قول بعض من كان يردد بأن اتحاد مصر والسودان ما هو إلا استعمار مصري للسودان.. رد بمقولة غاية فى الأدب والفهم العميق للتاريخ والجغرافيا والاستراتيجية  وقال (فلتستعمرنا السودان إن لم نستعمرها). 

سنرى أيضا بعدها أن أهمية السودان فى الجغرافيا السياسية لمصر جعلت أحد الزعماء التاريخيين الكبار (الزعيم مصطفى النحاس) يتصور أن يده من الممكن قطعها لكن قطع السودان عن مصر وقطع مصر عن السودان لا يمكن.             

كان الرجل زعيما تاريخيا كبيرا محكوما بنظر استراتيجي للمستقبل البعيد، ومنذ ظهور مصر كفاعل أساسى فى الشرق الأوسط كانت العقيدة الوطنية الثابتة أنه لا يُمكن فصل البلدين.. ويكفى ذاك التشبيه الذى ذكرناه أولا(تقطع يدى ولا تفصل السودان عن مصر). ومشهورة استقالة سعد باشا زغلول سنة 1924حين استغلت إنجلترا مقتل السير (لى ستاك سردار) الجيش البريطانى فى السودان لتعديلات اتفاقية السودان 1899 م لتسحب الجيش المصرى منها تماما..فرفض سعد باشا وقدم استقالته .

***

ومن المهم هنا أن نعرض رأى الأستاذ الراحل محمود أمين العالم(ت/2009م) المفكر الماركسي الشهير في مسألة فصل السودان عن مصر على (حركة الضباط)والذى نشر في موقع( مصر 360) بواسطة الأستاذ رائد سلامة .. ماذا قال الأستاذ العالم ؟؟ 

قال أن أمانة البحث العلمي تقتضى إماطة اللثام عن (أكذوبة تاريخية) تتداولها الأجيال ببراءة لا تستند إلا لمرسَلِ الكلام دون سند أو وثيقة من أن ضباط يوليو 1952 هم من فَرَّطوا في السودان بعدما كانت مصر والسودان دولة واحدة!  ... 

وقال: في البدء تجدر الإشارة سريعًا إلى أن دخول مصر للسودان لأول مرة كان قد تم بناءً على أمر من الخليفة العثماني لوالي مصر “الألباني” التابع إداريًا له محمد على باشا ليستمر بقاء كل من السودان ومصر تحت الولاية العثمانية. 

مرت بعد ذلك أحداث جسام اختلف فيها الوالي مع الخليفة لدرجة المواجهة العسكرية التي انتهت بهزيمة الخليفة ثم تدخل الأوروبيون فهزموا جيش الوالي ليتوصلوا بعد ذلك معه لاتفاق وضعوا بموجبه السودان تحت الولاية المصرية مقابل تفكيك جيشه وهذا أمرٌ لايُرَتِبُ أبدًا أي حق تاريخي لمصر في السودان. ترسخت تلك المسألة بموجب معاهدة 1936 التي كانت قد نصت على بقاء جنود مصر في السودان لحراستها “كمستعمرة بريطانية”...) 

***

أنتهى الكلام العلمي والتاريخي للأستاذ الراحل محمود أمين العالم .. وهو كما يظهر لنا لا علاقة له لا بالعلم ولا بالتاريخ وا حتى بالوطنية.. ولم يذكر لنا الأستاذ مثلا لماذا لم يطلب(الخليفة) الوالى الذى كان موجودا قبل (الوالى الألباني) ان يضم السودان للولاية العثمانية ؟؟ ثم أين هذا الأمر وثائقيا ؟؟ وكل الوثائق والمراسلات عن ما كان بين الوالي الألباني (يقصد مؤسس مصر الحديثة محمد على باشا) وبين الاستانة عاصمة الخلافة  .. موجودة ومحفوظة، والعلماء المتخصصين في (علم التاريخ) لم يتحدثوا عن أي شيء له علاقة بذلك .. كم عمر الدجل يا ناس .. ؟؟ المهم هنا أننا نعلم يقينا أن الأستاذ العالم هنا يقول ما لا يؤمن به.. وأنه يطوى الحقائق طيا ..كما يقولون كى يبرر أسوأ فعل استراتيجى قامت به حركة الضباط .. يا سيدى يكفى فقط هذا الإصرار المرعب الذى كانت عليه إنجلترا في اشتراطها (الفصل) ثم تأتى وتدلس علينا بكلمات الخليفة والالبانى .. والوالي .

كل ما في الأمر أن الرجل الاستراتيجي الكبير(محمد على ت/1840م )أراد أن يكون قريبا من منابع النيل .. نقطة ومن اول السطر!! .. نهر الخيرات الذى يرتوى منه الوادي وأهل الوادي .. هذا ما حدث بكل بساطة . 

لكن عليك أن تتأمل في طريقة الحديث والثقة والجرأة الذى يستحى (الكذب) نفسه من أن يتصف به ..وكل هذا الكلام الذى هو ضد العلم والتاريخ والمصالح العليا للوطن ..كان فقط من اجل أنه وزملاؤه سلمتهم حركة الضباط ، الإعلام والثقافة بعد الإفراج عنهم مكافأة لهم على حل تنظيماتهم السرية والاندماج في النظام .. 

***

إن يكن من أمر فعلتها حركة يوليو 1952م..!!؟؟ وفصلت السودان التي تضيع من أهلها الأن، بعد ضاعت من منبتها وجذورها ..من فعل ذلك، فعله ليس لأنه لا يفهم فى الجغرافيا السياسية، وليس لأنه لا يفهم فى صراعات التاريخ الاستعمارى.. وقد كان كذلك بالفعل .. ولكن وهو الأهم .. لأنه كان يفهم أنه قادم لحكم مصر وما فى هذا الحكم من(متعة لذيذة ..) لا أكثر !! ولا يريد قصة (مصر والسودان) هذه .. يكفيه مصر وسيعيش على أمجاد الإعلام والإذاعة والأغاني ويحقق هدفه الشخصى .. ويحقق للأخرين هدفهم الاستراتيجي ..                                                                                         

وأيضا لحاجتها القصوى إلى(نصر كبير: الجلاء )بأي ثمن .. ليس ليبرر تحرك الجيش ضد الملك صاحب الشرعية الوراثية والدولية (اتفاقية 1840م) .. ولكن أيضا ليتفرغوا لمتعة الحكم والسلطة ..           

ومن المهم هنا أن نقول، وحتى لو كان الحديث عن فساد الملك وما إلى ذلك ..فكان بإمكانك وضعه في قصره كما حدث في إنجلترا من أيام(الثورة المجيدة) في القرن الـ 17 ميلادي .. والتي أصبح(البرلمان)بعدها هو صاحب الكلمة العليا في شؤون الحكم ..كما كان لها أثر كبير خارج إنجلترا نفسها ، إذ تطلّعت الشعوب في أوروبا إلى تحقيق نظام الحكم البرلماني كما شاهدوه في النموذج الإنجليزي.. وهو ما حدث وتبدت أثاره كما تتبدى الشمس في إشراقات الصباح ..وهو ما كان يمكن أن يحدث في المنطقة العربية بأكملها .. اذا كان فعليا قد بدأ في مصر. 

والتي كانت ريادتها في المنطقة كلها ريادة (النموذج المحتذى) ولا كان سيكون هناك ناصر/عامر و5 يونيو ولا صدام ولا قذافى ولا أسد ولا نميرى ولا بشير.. ولا كل هذه الملاهى الليلية .. كان سيكون هناك شعوب وبرلمانات ووزراء مسؤولين أمام البرلمانات عن حسن إدارة ثروات ومصالح هذه الشعوب .. لكن هذا كله كان يتناقض تماما مع ترتيبات (ما بعد) 1945م في يالطا بين روسيا وإنجلترا وأمريكا .. وفى القلب من هذه الترتيبات الشرق أوسطية وجود إسرائيل لمائة عام في المنطقة على اقل تقدير.

أمريكا وإنجلترا وهما يقوما بالتسليم والتسلم في الشرق الأوسط .. كانوا قد عقدوا عزما قاطعا على أن لا ترى المنطقة حكما مدنيا ديمقراطيا ينظر إلى المصالح العليا للأمة وشعوبها .. وتتناوب فيه الأجيال المسؤولية بالتوافق والاتفاق تحت مظلة البرلمان المنتخب، الذى لا يعنيه إلا الأمة ومصالحها العليا كما سبق.

لذلك فحين قامت الثورة المجيدة في إنجلترا أبقت على البلاط الملكي بعد نزع أغلب صلاحياته التنفيذية وأبقت على العمق التاريخي الذى أوجد المملكة المتحدة ..واصبح الملك بعدها (أي ملك)..يملك ولا يحكم. لكن المسألة كانت على غير ذلك وقد رأينا بعدها من الضباط يؤكد ما قاله الدكتور حسين مؤنس(ت/1996م) في كتابه الهام (باشوات وسوبر باشوات)..الذى صدر في الثمانينيات.

 (ونكمل)