د. هشام الحمامي يكتب: انتصرت تركيا .. من هٌزم.. وكيف هٌزم؟؟ (1)

ذات مصر

كم هو سعيد ذاك الفائز في الانتخابات الرئاسية التركية التي تجرى جولة الإعادة لها يوم 28 مايو القادم .. ذلك أن اليوم التالي مباشرة لفوزه سيكون من أعظم أيام الأتراك في تاريخهم كله، وهو ذكرى فتح القسطنطينية (29 مايو 1453م) ..

 واذا قرأنا مدونات التاريخ لعرفنا أنه لم يكن من أعظم أيام الأتراك فقط ولكنه كان من أعظم أيام العالم الإسلامي كله .. إن المؤرخين يعتبرونه أحد أكبر وقائع التاريخ العالمي كله، وإنه يمثل حدا فاصلا بين تاريخ وتاريخ جديد تماما ..وإن ذلك لصحيح تماما ..لذلك فمن الطبيعي أن يتفاءل الأتراك كثيرا برئيسهم  القادم الجديد الذى سيعلن فوزه يوم 29 مايو القادم.. وحق لهم أن يتفاءلوا.

العالم كله تابع الجولة الأولى من الانتخابات والتي انتهت إلى الإعادة بين رئيس حزب الشعب الجمهوري (تأسس سنة 1919م) وبين رئيس حزب العدالة والتنمية (تأسس عام 2001م) ، الرمزان الكبيران خاضا الانتخابات البرلمانية في نفس توقيت الانتخابات الرئاسية وخسر الأول مع تحالفه المعروف بـ(الطاولة السداسية) الأغلبية ..ذاك التحالف الذى ضم (حزب الشعب الجمهوري، والحزب الجيد، وحزب السعادة، وحزب المستقبل، وحزب التقدم والديمقراطية والحزب الديمقراطي) 

وكسب الثاني وتحالفه المعروف بـ(تحالف الجمهور) الذى يضم (حزب العدالة والتنمية، وحزب الحركة القومية، وحزب الاتحاد الكبير، وحزب الرفاه الجديد وحزب الهدى) .

***

جريدة الجارديان البريطانية قالت في تغطيتها للانتخابات أنها خطوة نحو الاستبداد؟ وهم يشيرون بالطبع إلى الفوز المتوقع للرئيس الحالي لفترة ثالثة وأخيرة .. فهل الوصف المقصود يشير إلى الولاية الثالثة أم يشير إلى ما تحويه الدهاليز الداخلية في(المخزن)الإنجليزي العتيد عن السياسة والمصالح ..وهو بالمناسبة أقوى وأخطر (المخازن) السياسية والاستراتيجية في التاريخ الحديث .. ولذلك حديث أخر.

لكن الرئيس الحالي (أردوغان/69 عاما) قال في تعليقه على نتائج الجولة الأولى: أن الفائز بهذه الانتخابات هو شعبنا وتركيا من خلال تمسكها بالإرادة الوطنية.. وأنه مهما كانت نتيجة الانتخابات فأنا أتوجه بالشكر إلى (56 مليون) مواطن تركي بصرف النظر عن اختياراتهم.. وأشار الرجل إلى أن نسبة المشاركة في الانتخابات التركية لا مثيل لها في العالم ..وهي الأكبر في تاريخنا السياسي ، وهذه حقيقة ..وهذا هو انتصار تركيا الحقيقى.

***

ذلك أنه بعد(الإبعاد) التدريجي الهادئ للمؤسسة العسكرية في تركيا عن السلطة وهى التي حكمت من سنة 1923م ، وقامت بفرض رأيها من خلال (المدرعة والدبابة ) على مساحة زمنية مديدة (أكثر من 80 سنة) رأينا خلالها خمسة انقلابات عسكرية قامت بها هذه المؤسسة (سنة 1960/ سنة 1971/و سنة 1980/ سنة 1997/سنة 2016 ..وهى المحاولة الانقلابية الشهيرة التي أفشلتها إرادة الشعب ونجح بعدها في فرض تعديلات جوهرية على دور جيش بلاده .. وتوجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح .. حماية حدود البلاد). 

كان طبيعيا إذن بعدها أن تتسع رقعة السياسة والمشاركة الشعبية ..وهذا طبيعي ، بحكم منطق الأشياء وقوانين الاجتماع الإنساني .. وقانون الحضور والغياب في الفراغ.. الذى يستدعى ما يملأه ..                           

 يقولون أن هناك حضور يٌبنى عليه غياب.. وغياب يٌبنى عليه حضور.. وصديقنا الجميل محمود درويش (ت/2008م) له في ذلك تجليات رائعة وكتابه الأشهر (في حضرة الغياب) أشهر من أن يٌعرًف ..

لكن الفلسفة تساعدنا كثير في فهم بديهيات مدهشة.. ودهشتها في بداهتها !! 

بداهات من الممكن أن يصل إليها الأعمى بعكازه وبسهولة ساهلة للغاية.. كما قال لنا صاحب الطريق.. الصوفي السنى الفيلسوف الشهير شهاب الدين عمر السهروردى(ت/ 1234م) صاحب كتاب ( عوارف المعارف) .. 

حديث التصوف والسياسة والسلطة والناس .. أحد أهم مفاتيح الحالة التركية... ولهذا حديث أخر !!                   

لكنه سيكون حاضرا رغما عن المراغم نفسها في معادلة (الحضور والغياب) التي سبقت .. 

كيف كان ذلك؟

***

نعلم جميعا أن الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية(1937/1945م) تميزت فيها منظومة الحكم في كثير من البلدان المهزومة بالدور الواضح للمؤسسة العسكرية في الحكم والسياسة، وكان على رأس هذه البلدان تركيا والبلاد العربية التي كانت تتبعها في الإطار التاريخي للخلافة العثمانية ..وأيضا وبحكم الجوار الاستراتيجي كانت ايران أيضا داخل الحزام نفسه(انقلاب أغسطس 1953م) .. 

وعِبرة العبر في النصف الثاني من القرن العشرين.. وإن شئت سمها (العبرة الغائبة) هو أن تفاهم المصالح الذى تضطر اليه الدولة القوية مع الدولة الضعيفة لا يمكن أن يتم لصالحها إلا في وجود المؤسسة العسكرية على رأس الإدارة السياسية .. وقد رأينا ذلك بوضوح شديد في أمريكا اللاتينية.. وأيضا في الشرق الأوسط .. 

***

وعلى ذلك فاستخلاص عِبر من تكرار أحداث بعينها.. لهو أمر بالغ الأهمية، ليس هناك (حتمية قدرية) في ذلك، ولكنها ستبقى في نهاية الأمر حركة في دروب التاريخ .. ويحتاج الأمر هنا إلى تفاهمات مع كل الأطراف التي لها أصبع في العجين كما يقولون..

إن شاء الله سيكون لنا وقفة اعتبار مع جملة الرئيس السادات(ت/1981م) الشهيرة: قلت وأقول إن بيد أمريكا 99% من أوراق اللعبة..ولم يكن يقصد بها عملية السلام فقط .. السادات رحمه الله حاول أن يفعل شيئا خالصا لله أو للتاريخ ..بكثير من المواقف والمقولات(يبرئ بها نفسه على الأقل) مما حدث في مصر والعالم العربي سنة 1952م والرجل كان مركزيا بقوة في ترتيبات حدوثها ، وهو ما قاله الزعيم الخالد ( ت/1970) بوضوح شديد لمصطفى أمين( ت/1997م) بعد استقرار حكم الضباط الأحرار. .حين سأله عن من سيخلفه .. وأكده بتعيينه نائبا له سنة 1969م ..                                                                                                     

     مشكلة مثقفينا وسياسيينا أنهم لا يقرأون الأحداث إلا مرة واحدة، في حين أنها لابد أن تٌقرأ مرتين ..! 

***

حزب (العدالة والتنمية) حين تقدم لخوض هذه الجولة التاريخية الهامة تفاهم مع ثلاثة أطراف خطيرة.. أمريكا .. وفتح الله جولون/82 سنة (جماعة الخدمة) .. والجيش. الأمر كان أشبه بعملية جراحية معقدة للغاية وطويلة للغاية لكنها حدثت.. نعم حدثت.! على رأى جاليليو (ت/1642م)عن كوكب الأرض: لكنها تدور .. نعم تدور ..

والمؤكد أن هذه الجولة وتفاهمتها تخللها ما يتخلل هذه الاتفاقات عادة من (الثغرات)التي تكون هنا وهناك، والعاقل الحصيف الأمين على مصالح بلاده وأفكاره وأهدافه .. هو الذى يستطيع الاستفادة من هذه الثغرات.. (الأعمى وعكازه) ! .. 

أكثر طرفين شعرا بالخسارة من هذا الاتفاق واتساع ثغرات مواقفهم فيه، كانت جماعة الخدمة، والجيش التركي .. وشاهد ذلك ما حدث في عام 2016م .. 

***

في هذه الجولة الخطيرة جدا وقفت أمريكا على ذاك الجانب الشهير الذى تختاره دائما (الحياد الخبيث) ليظهر كل طرف قوته الحقيقية التي ستكون قوة مضافة لها في نهاية الأمر بشكل أو بأخر.. بطريقة أو بأخرى ..أيا ما كانت.

إن الأمر حسم الأمر سريعا وقتها .. وإنها لفرصة العمر تلك التي وجدها الشعب التركي أمام عينيه لحل معضلة الجمهورية العسكرية (1923م) ..أو الحضور غير المبرر للجنرالات في الحكم والسياسة .. 

وقد رأينا أيامها حالة (الغيظ المسعور) الذى كان عليه (فتح الله جولن) وجماعته بعد نهاية هذه الجولة الأخطر .. لأنه كان له دور كبير جدا جدا في تعظيم انتصار حزب العدالة والتنمية في هذه الجولة.. دور كان أشبه بدور اللواء (محمد نجيب) في حركة الضباط الأحرار في مصر سنة 1952م مع فوارق كثيرة بالطبع .. الحاصل أن اخانا فتح الله جولن شعر أنه قد تم استخدامه جسرا للعبور عليه إلى ما يحدث الأن في تركيا ..وتم الاستغناء عن خدماته المريبة .

***

إن ما حدث كان خطيرا للغاية .. وإنه لمن تحولات التاريخ الكبرى في هذه البقعة الأخطر من كوكب الأرض وهو التحول الذى شهد الحضور الساخن لأكبر المفاعيل الكبرى في التاريخ (الدين والجيش والسلطة).. ولأمر ما حدث ما حدث .. لكننا نعلم يقينا ان الله غالب على أمره.. 

ومن يرى وزير الدفاع (كنعان ايفرين ت/2015م) في معاملته الراحل نجم الدين اربكان(ت/2011م) وهو رئيسا للوزراء (30/6/1996م) في هذه السنة الطريفة الظريفة التي تدعو للابتسام الطويل والتأمل الأطول.. 

لا يرون وزير الدفاع (خلوصي أكار/71 عاما) في معاملته للرئيس رجب أردوغان في عام 2016م .. عشرون عام

 بين الزمنين .. عشرون عاما بين الرجلين ..

أردوغان كان تلميذا نجيبا لأربكان .. وفتح الله جولن كان خصما غليلا لأربكان .. وكنعان كان خصما للأثنين..  أردوغان كان يرى و يتعلم .. وخلوصي أخلص لنفسه ووطنه وجيشه .. وانتهى الدرس الذى لم يتعلمه أحد. 

***

لكنه سيبقى درسا عظيما في مدرسة (التاريخ الشعبي للسياسة والسلطة).. فقد تم الحضور الطاغي لأهم رقم يحرص جميع الماكرين على استبعاده من معادلة السياسة والسلطة (الشعب) .

والاستبعاد والحضور هنا له ألف لون ولون.. (ونكمل).