عمار علي حسن يكتب: ثقافة الجوائح.. هل تُحصن الناس ضد عودة «كورونا»؟

ذات مصر

هل صار البشر لديهم حصانة ضد الفزع من متحور جديد لكوفيد ـ 19 وصل إلى درجة أن يعلن الرئيس الأمريكي جون بايدن أنه قد يطلب من الشعب تعاطي جرعة منشطة من اللقاح؟ 

بعد انحسار كورونا تحدثت منظمة الصحة العالمية عن وباء اسمه "جدري القردة"، لكن الناس كانوا وقتها قد اكتسبوا مناعة من تجربتهم المرة مع كورونا، لاسيما أن "جدري القردة" ليس سريع الانتشار، وجاء مع زيادة خبرة مواجهة الأوبئة، التي ستمتد إلى المتحور الجديد لكوفيد إن استفحل.

فالآذان الآن لن تستميلها وسائل الإعلام وتسلبها أي قدرة على التفكير الصافي الرشيد، وكثير من الأوهام التي يُنفخ فيها، لأسباب أو أغراض أخرى، تساقطت تحت أقدام الذين يعرفون أن بوسعهم التحايل على الحياة كي تستمر.

لكن أي حصانة اكتسبها البشر؟

لا أعتقد أنها حصانة اقتصادية، فالأحوال المادية للعالم بأسره كانت أفضل كثيرا عند اكتشاف وباء "كوفيد 19" مما هي عليه وقت الإعلان عن إصابة أول شخص بجدري القردة، حيث الآثار القاسية للحرب الروسية الأطلسية التي تُضرم نيرانها على الأراضي الأوكرانية. ولا أعتقد أنها حصانة سياسية؟ فالعالم أصبح الآن مملوءا بالظنون، ذا ميل إلى الصراع، مما كان عليه، بفعل الحرب نفسها وأشياء أخرى. 

كما لا أعتقد أنها حصانة طبية، فعدد الأطباء والممرضات لم يزد، بل فقدنا كثيرا من أفضلهم وقت جائحة كورونا، كما أن القدرات المطلوبة في علم الطب وطرق الوقاية لم تشهد طفرة في الشهور الأخيرة. وعلى جانب رابع لا يمكن أن تكون هناك منعة أمنية، بالمعنى الشامل للأمن، حيال الوباء الجديد مقارنة بما كان عليه الوضع أيام كورونا، فالعالم كله في ورطة أمنية، يشتد وطأها، وتمتد من الأمن الغذائي حتى الخوف من اندلاع حرب نووية. ومن زاوية خامسة قد لا يكون الأمر يتعلق بحال من "التشبع" حيال ما تبثه وسائل الإعلام من أخبار، لأن فتور الناس إزاء كل جديد، وانصرافهم عنه، يمكن تبديده في زمن وجيز، عبر حملات إعلامية تعيد الفزع إلى مربعه الأول.

إذن، ما الذي يجعل الناس في اطمئنان إلى أنهم قادرون على التعامل مع المتحور الجديد بكفاءة واقتدار؟ ما الذي يجعلهم في تؤدة لا يتعجلون ولا يتزاحمون؟ ما الذي يجعلهم واثقين من أن حيواتهم في أمان نسبي؟

لا يمكن في هذا المقام إنكار ما للوباء من خصائص، فكورونا له من القدرة على الإيذاء ما يفزع حقا، فهو مرض تنفسي، وانتشاره سريع، وإمكانية تجنب الإصابة به غاية في الصعوبة، وقدرة المشافي محدودة في استيعاب الذين يتساقطون تباعا بفعل الوباء. 

لكن هناك ما هو أعمق، راسيا في القيعان البعيدة، يأتي في الوقت المطلوب ليمارس دوره في إمداد كل فرد بزاد يعينه على الاستمرار في خوض معركته الكبرى، ألا هي البقاء على قيد الحياة أولا، ثم العمل الدؤوب في سبيل تحسين شروطها التي تقسو.

إن هذا الراسي في الأعماق لا يكون إلا الثقافة، التي تمتد من المعرفة بالشيء إلى امتلاك خبرة التعامل معه، ثم القدرة على تجنب أذاه، وتحويل محنه إلى منح، ومشاكله إلى فرص. وهذا يكون في حد ذاته جزءا مهما ورئيسيا من الأساليب الأكثر نفاذا، حتى لو كانت خفية، في مقاومة الإنسان للمرض بوجه عام، وللجوائح على نحو خاص.

لقد كان من المعتقد فيه قبل سنوات، ولا يزال قائما عند البعض، أن الثقافة عنصر هامشي في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية، وأننا إذا أخفقنا في إيجاد سبب محدد نحيل الأمر إلى الثقافة. لكنني أتصور، وقياسا على ما يخص وباء جدري القردة، أن ما يعطي الناس منعة في التعامل معه بثقة هو أمر ثقافي، سواء كان يخص الثقافة العامة التي تعني التعامل مع التصاريف التي تطرأ، والظروف التي تستجد، والأخطار التي تحدق، أو كانت أسبابا خاصة تتعلق بمرض خطير أو وباء.

إن الوباء، يبدو بمثابة "أزمة" وللأزمات طرائق في المواجهة، كما يقول علماء السياسة والعسكريون والتجار وحتى المواطنين العاديين حين يداهمهم ما لا يكونوا واضعين إياه في الحسبان. فالأزمة تعني ضيقا في الوقت، ونقصا في المعلومات، ومساسا بشيء جوهري. وحين يسرى وباء شديد العدوى، يريد أن يخطف الناس من الحياة، فلا تأزم أشد وأنكى من هذا، إذ لا مصيبة تحل بإنسان أكثر من الموت، حتى لو كان هناك من يطلب من الله أن يجعله راحة له من كل شر.

ولأنها أزمة لا ينفع الناس فيها أكثر من الخبرة الشخصية، لاسيما إن كانت يد الدولة عاجزة أو مقيدة أو مهملة أو مضطربة، وطالما رأينا مع كورونا كيف اضطرب وعجزت أياد حكومات دول متقدمة، وطالب بعضها الناس بأن يودعوا أحباءهم، في إعلان صريح عن قلة الحيلة، بل العجز التام.

وهذه الخبرة هي مسألة ثقافية بالأساس، فما خبره كل فرد منا في مواجهة "كوفيد 19" بكل نوائبه، أمده، من دون شك، ببعض القدرة، التي تأتي من انفعالات والاهتداء إلى أساليب واتباع طرائق تتحول إلى طقوس أو ما يشبهها أو يقترب منها، وما هذا إلا ثقافة، تبدأ بالمعرفة وتمر بالقيم والتصورات والأفكار لتنتهي بتحديد الاتجاهات وتبلورها.

لقد كانت المعارف التي اكتسبها الناس حيال الأوبئة وقت كورونا غزيرة، اختلط فيها الحقيقي بالمتوهم والضحل بالعميق، لكنها لم تترك تقريبا فردا على وجه الأرض إلا ونال شيئا من حيلة أو مواجهة سافرة ضد الوباء، في معركة سقط فيها الملايين عبر العالم. ومن المؤكد أن هذا سيعين كل منا على مواجهة أخرى أكثر نجاحا مع وباء جدري القردة.

لقد كتب من سبقونا عن الأوبئة، سواء كانوا أطباء أو مؤرخين أو أدباء، وتركوا لنا ما لجأ بعضنا إليه وقت كورونا، فرحنا نستعيده، عارضين إياه، لنطمئن أنفسنا أولا بأنها ليست المرة الأولى التي يجتاح فيها وباء الأرض ويفزع البشر ومع هذا لم تنته الحياة. لكننا في عرضنا هذا إنما كنا نفعل مع شيء لم نعاصره، ولم نكابد منه، فبدا لنا مجرد سطور حزينة في كتب قديمة، نقرأها ونحن جالسين في مقاعدنا أو راقدين في مخادعنا، وقد نلهو بها، مثلما كان يفعل الأباطرة في مقاعدهم الوثيرة وهم يتابعون مجالدين يتقاتلون في حلبات المصارعة من أجل تسلية سادتهم. بل إن حالنا يكون أقل من هذا بقليل، فنحن لا نرى من يتساقطون، ولا نسمع أنينهم، ومهما تخيلناه، نكون في اطمئنان تام إلى أن القراءة لن تنقل لنا العدوى.

أما هذه المرة، فقد التحق وباء بوباء، فجاء الجديد بينما القديم لم يرحل بعد، ولأن اللاحق أقل خطرا من السابق، بدا الأمر لنا أشبه بمن يكون عليه أن يجري ماراثون لا يزيد عن ألف متر، بعد أن تدرب على الجري بنجاح لعدة كيلومترات.

لقد منحت ثورة الاتصالات الرهيبة التي يشهدها العالم فرصة واسعة لتعميق هذه الخبرة، فالناس قد تبادلوا الألم والأمل في آن، حين تحدثوا عن تجاربهم مع الوباء، وتناسل هذا الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فعرفه القاصي والداني، ونقل المنخرطون في هذه المواقع بعض ما فهموه إلى غير المهتمين بها، وصارت المعلومات والأوهام تتدفق إلى أسفل، لكنهما، وفي كلتا الحالتين، خلقتا نوعا من الحميمية بين البشر، وأدرك كل منهم أن مصيره مربوط بمصائر آخرين. وكانت هناك فرصة لتبديد الأوهام، وغربلة المعلومات الهائلة، للوقوف على الصائب فيها، من خلال إطلالات أطباء على القنوات الفضائية وفي الصحف وبعضهم عبر حساباتهم في "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"... إلخ.

يتكرر هذا الأمر مع متحور كوفيد، بعد أن تآلف الناس مع أمثال هذه النوائب، وصاروا أكثر دراية بالمنابع الأصلية للمعلومات حولها، وأعمق فهما للتمييز بين المفيد منها والضار بشأنها، ومنحهم ذلك، من دون شك، حصانة، تبدت في تماسكهم حيال وباء الجدري مثلا، أو غيره من أوبئة قد يشهدها العالم مستقبلا.

إن الفارق بين مواجهة كورونا هذه المرة ومواجهته حين داهم العالم لأول مرة، يتعلق أكثر بمسألة ثقافية، في قلبها خبرة التعامل مع الأوبئة التي اكتسبها جيلنا، والتي ستساهم بالطبع في مقاومة كل فرد منا للوباء، ومساعدة غيره على امتلاك هذه المقاومة، التي إن كان حدها الأدنى والاعتيادي يتعلق بالنظافة الشخصية المطلوبة، فإن هذه الخصلة تبدو مسألة ثقافية بامتياز.