هشام النجار يكتب: في ذكرى 11 سبتمبر.. من بَابُوا لأمريكا: لسنا بن لادن وشركاه

ذات مصر

في لقائنا بالعلامة البروفيسور مصطفى يعقوب قبل سنوات بإندونيسيا قبيل وفاته وكان يحتل مكانة تضاهي مكانة شيخ الأزهر ببلادنا، وأيضًا بالدكتور بويا مبارك (إمام مسجد الاستقلال)، وبغيرهما من علماء ودعاة اندونيسيا الكبار أجمعوا على أن الإسلام دخل اندونيسيا بالسلام والدعوة، لينشئ هذه القوة الجبارة حيث دولة تعتبر أكبر البلاد الإسلامية من حيث التعداد السكاني.

شرفنا العلامة الجليل الدكتور على مصطفى يعقوب باستقباله الكريم بحفاوة تفوق الوصف باندونيسيا، وتناولنا الغداء على شرفه، وعلى هامش الغداء أهدانا فضيلته بعضَ مؤلفاته مترجمًا للغة العربية.

بعد العودة إلى مصر قلبتُ في هذه المؤلفات فوجدتُ من ضمنها كتيبًا صغيرًا عبارة عن قصيدة شعرية مترجمة إلى العربية للشاعر (أحمد عبيدى حسب الله)، يرصد خلالها ببساطة وانسيابية انفتاحَ هذا العالم الكبير (البروفيسور علي مصطفى يعقوب) على الغرب وتواصله مع فعالياته ورموزه، قيامًا بواجب الدعوة ونشر الهداية والدفاع عن الإسلام وحضارته وثقافته وقيمه.

ذكرتني القصيدة بالحديث الذي دارَ بيننا وبين العلامة يعقوب أثناء الغداء عن نفس القضية وعن صحبته للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما أثناء زيارته لمسجد الاستقلال، فقد أكد فضيلته أن الانعزال لا يضر غير المسلمين، وأننا بحاجة لكسب الأصدقاء ومد جسور التواصل، والمسارعة - قبل الآخرين- في جذب الشخصيات العالمية المؤثرة لصالحنا ولتبنى قضايانا، فان لم ننجح في جعلهم يتبنون مواقفنا بصورة كاملة – وهذا بالطبع صعب جدًا – فلا أقل من أن يقفوا على الحياد وأن يتعاملوا مع القضايا الشائكة والملفات المصيرية المشتركة ببعض التوازن والإنصاف.

ترصد القصيدة فلسفة ومنهج العلامة على مصطفى يعقوب وحديثه الإيجابي الذي يحاول به مواصلة وضع لبنات جسور التواصل بين الإسلام والغرب، وعن تطويره لآلياته ووسائله، وذلك في مقابل انشغال الكثيرين من ضيقي الأفق وتركيزهم على أحاديث وخطابات الإساءة والهدم التي تصلنا من مُسيئين وبعض ضيقي الأفق من الغربيين.

نتساءل عن جهودنا مع شخصية منصفة وذات خطابات ومواقف ايجابية تجاه الإسلام مثل الأمير تشارلز (الذي حملت رأسه أخيرًا تاج المملكة المتحدة )! فهل تواصلنا معه وهل قابلنا خطاباته ورسائله الايجابية بمثلها؟  والملك تشارلز ليس بالشخصية الهينة أو الهامشية في ميزان الحضارة الغربية أو الثقافة الأوربية ولا حتى الديانة المسيحية.

يقوم منهج الدكتور على مصطفى يعقوب على معطيات حقيقية وراسخة في المجتمعات الغربية؛ فهناك فى الغرب أيضًا رموز تبعث برسائل ايجابية وتمد يد المشاركة والحوار الحقيقي الجاد الذي يبدأ من تنازل الغربيين عن النظرة الاستعلائية للعالم الاسلامي، وكما أن هناك المسيئين من السياسيين والكتاب ورسامي الكاريكاتير الغربيين وحارقي المصحف وغيرهم، فهناك أيضًا جانب إيجابي وشخصيات منصفة في مختلف المجالات ينبغي التركيز عليها والتواصل معها وتقديمها للإعلام ومنابر الثقافة وللجماهير المسلمة.

يريد العلامة يعقوب أن يقول: ليس على المسلمين الشعور بالدونية والنقص لكونهم لا يمتلكون ما يمتلكه الغرب من مظاهر الحضارة الحديثة والتقدم المادي والعلمي والتقني المبهر، أو لأنهم فقدوا الأمل فى المقدرة على منافسة الأوربيين والدول الكبرى، بل عليهم أن يفخروا بما يمتلكونه من كنوز وما يحملونه من شريعة وتراث وتاريخ وقيم ورؤية شاملة متجانسة للكون والإنسان، وعليهم أن يحسنوا تقديمها للعالم الذي هو فى أشد الحاجة إليها اليوم.

وسبق ونفى المفكر العربي الدكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله أن يحول عدم التكافؤ الاقتصادى دون حصول التكافؤ الثقافي بين العرب والغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فالثقافة الإسلامية من شأنها أن تكافئ بخبرتها الثقافية العريقة العالم الغربي بثقافته الحديثة.

ما حدث طوال أكثر من عقدين في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (التي تمر ذكراها ال 22 هذه الأيام) في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن.. الخ، لم يقع إلا بسبب افتقاد المسلمين والعرب لمنهج القوة المدروس القائم أولًا على امتلاك أسرار وأصول العلم الحديث، للإسهام في بناء دولة عصرية تملك مقومات المدافعة الحضارية (لا الحربية والصراعية)، خاصة أن دول الشرق تمتلك من الثروات والموقع والقوى البشرية التي تؤهلها لذلك.

لا تصمد الدول والكيانات بالسلاح وحده فهو أولًا وأخيرًا صناعة غربية، انما بالتنوع والتعددية والشورى والمساواة والتاريخ والتقاليد والقيم المتوارثة والعلم والتكنولوجيا، والتدافع الحضاري والمدافعة السلمية المبدعة التي تتيح لنا التكامل والتعايش مع العالم والاستفادة منه وإفادته.

وبدون جدال فقد اكتسبت الحياة الفكرية في الغرب خبرة كبيرة في التعامل مع الإسلام وقضاياه، وصار لهذا الدين العظيم حضور قوى ومؤثر ومكانة مرموقة في أوساط الجماهير الغربية بما لا ينبغي تجاوزه أو تجاهله من قادة ورموز تلك الدول، وبما يجبرهم على فتح أبواب أخرى للتعامل مع قضاياه والتفاعل معه غير أبواب الصراع والصدام. 

ليس الأمريكان ولا الانجليز كلهم سواء، وليسوا جميعًا أعداء لنا، ليتحجج البعض أنه لا مجال للقاء ولا حوار؛ وها هو ولى العهد الأمير (الذي صار ملكًا) شارلز لا ينكر في محاضراته وتصريحاته فضل الإسلام ورقى حضارته بل وتميزها على الحضارة الغربية، ومن الأمريكان جورج بوش وتياره المتطرف الاستعلائي واليمين العنصري، ومنهم من يناهض هذا التوجه ويدعو لنقيضه، ومنهم العنصري المتغطرس البغيض، ومنهم المتسامح المرن الودود.

منهم أمثال جولدن براون وتوني بلير وتيار اليمين المتطرف، ومنهم أيضا  جورج جالاوي ورفاقه الذين قادوا قافلة شريان الحياة إلى غزة (فهل نسينا)؟ وقد علمنا إسلامنا هذه القيمة العظيمة في التعامل مع البشر حيث نقرأ في كتابنا المقدس (ليسوا سواءً).

الأولى والأجدى والأكثر اتساقًا مع جوهر الإسلام ومقاصده التفاني في نقل رسالة الإسلام وقيمه الروحية ومناقبه الفكرية والتشريعية ورؤيته المتجانسة المتكاملة إلى المجتمعات الغربية والى أبناء الحضارة الأوربية، لا أن نعرفهم بنسخة تفجيرية دموية لا تمت لديننا بصلة. 

عنوان الكتاب الذي أهدانا إياه العلامة الجليل علي مصطفى يعقوب والقصيدة هو "من بابُوا إلى أمريكا".

و"بابُوا" إحدى مقاطعات اندونيسيا التي تحررت وانتقلت للإدارة الاندونيسية في ستينيات القرن الماضي. 

وبعد الاستقلال والتحرير لم يمنع ذلك اندونيسيا من الانفتاح على الغرب للاستفادة من خبراته وإمكانياته، فوقعت اندونيسيا امتيازًا لاستخراج الذهب والنحاس لمدة ثلاثين عامًا مع شركة أمريكية، فتم بهذا التعاون انجاز غير مسبوق عالميًا، حيث تم حفر أكبر منجم ذهب ونحاس في العالم وهو كذلك أكبر منجم مفتوح في العالم وصاحب أقل كلفة استخراج ذهب في العالم.

ولذلك بدأ الشاعر الإندونيسي قصيدته بالإشارة إلى (بابُوا).

ومضمون القصيدة ورسائلها الرئيسية –كما قرأتها- أن هذا هو ما نحتاجه وهو ما يتسق مع تعاليم ومقاصد ديننا الحنيف (لا وفق تصورات أسامة بن لادن الصدامية الحربية)، فلا نخاف على ديننا وقيمنا فهي محفوظة وراسخة ومنتشرة في كل بقاع العالم، ولنذهب إلى أبعد مدى بثوابتنا، ولنمثل نحن ديننا برحمته وتسامحه وروعة تعاليمه وأخلاقه، لا أن نترك الميدان فارغًا فيتقدم أناس يزعمون تمثيله بالكراهية والأحقاد والتكفير والقتل والغدر وسفك الدماء البريئة.

نذهب مادين أيدينا بالخير والصدق والمعروف والحب (حب الإنسان لأخيه الإنسان) (لا بالمفخخات والمتفجرات والأحزمة الناسفة والطائرات المدمرة)، لنستفيد من خبرات الآخرين ونمتلك أدوات نهضتهم التحديثية ولننهض ببلادنا ونخدم دعوتنا ورسالتنا، ولنستخرج ذهبنا ونحاسنا وثرواتنا الفكرية والعلمية وكنوزنا الحضارية والثقافية، لتلمع في السماء وتهدى الحائرين. 

وهاكم القصيدة أنقلها كما وردت بالكتاب ...

من غابات في بابُوا                                  إلى عصريات أمريكا 

من الجبال في جاوا                                  إلى السهول في أوربا

من الشرق جايابورا                                 إلى المغرب الدار البيضا 

من دار السنة جنوب جاكرتا                       إلى باهانج في ماليزيا

من البوادي والقرى                                 إلى المدن الكبرى 

من الحصيرات السفلى                             إلى المنابر العليا

من أذلة الرعايا                                     إلى أعزة الوزرا 

من شيوخ القبائل في بَابُوا                        إلى الرئيس باراك أوباما

من مشروبات بنجارنقارا                         إلى البنوك شرعيا

من جماعات شعبيا                                 إلى مجلس العلما 

من الأكواخ المائلا                                 إلى القصور العظمى

من الراديو القُصْرَى                               إلى التلفزيون الوُسعَى

من الجوال ووسائلا                                إلى شبكات انترنيت دُنيا 

من المواعظ والفتاوى                             إلى المجلات وجرائدا

من صغير المُصلى                                إلى الاستقلال جاكرتا

من مؤلفات ورسائلا                              إلى كتب ومترجما

من اللهجات المحليا                               إلى العربية والانجليزيا

من الأغاني وقصائدا                             إلى مضحكات وتساليا

من مجالس تعليم النسا                           إلى الجامعات والدراسات العليا

 من الحوارات والمناقشا                        إلى الندوات العالميا 

ذاك مجال دعوتكا                                يا والدنا عليا مصطفى 

نُهدى أزكى تهانينا                               ندعو يرعاك دَوْماً ربنا

جزاك الله إلهُنا                                  عن الإسلام والمسلمينا