هشام النجار يكتب: يا فنانين.. حدثونا عن النبي!

ذات مصر

بمناسبة ذكرى مولد الرسول الخالد، أذكر أن الدكتور علي جمعة – حينما كان مفتيًا– إفتتح معرض (رؤية تشكيلية للسيرة النبوية) للفنان الدكتور طاهر عبد العظيم في قاعة (الكلمة) بساقية عبد المنعم الصاوي، وأذكر غناء الفنان والملحن المصرى هاني شنودة عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وفضائله، وشاهدت في تلك الأثناء (أوبريت رسول الله)، بخليط بين الأغاني الروحية والراب.

واستمتعت كثيرًا بغناء مولانا الشيخ إمام عيسى رحمه الله صاحب الصوت الثوري العذب الجسور(يا رسول الله يا رمز الفلاح)، و (شهدت بربي جل علاه) و (الحمد لله مولى الخلق بالنعم).

وقبل هؤلاء كتب العملاق الراحل محمود عباس العقاد رحمه الله ملحمته الخالدة (عبقرية محمد) إنفعالًا في لحظة غيرة، وكتب قصة ما حدث في مقدمة الكتاب؛ عندما تحدث أحدهم عن الرسول بما لا يليق في مجلس كان فيه العقاد، فعزم المفكر الاسلامى الكبير على تأليف كتابه، وفعل ذلك غيرة وانفعالًا وحماسة لقضية الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب الذي يعد من أروع ما كتب عن الرسول.

وقرأت أن المخرج السوري الشهير مصطفى العقاد رحمه الله صاحب التحفتين الفنيتين الخالدتين (الرسالة) و(عمر المختار) كان قد حضر بروفات وتصوير فيلم (الشيماء) الذي كتبه الأديب على أحمد باكثير وأخرجه صديق العقاد وزميل دراسته في جامعات أمريكا حسام الدين مصطفى.

أكد الناقد محمد صلاح الدين على لسان حسام الدين مصطفى أن الراحل الكبير مصطفى العقاد قد أمضى معه عشرة أيام ملازمًا له طوال فترات تصوير فيلم (الشيماء) بدافع أن موضوع فيلمه الأول (محمد رسول الله) أو (الرسالة) قريب من موضوع فيلم الشيماء، وقد كان حضوره هذا ذكاءً منه؛ لأنه اعتبر (الشيماء) بروفة مصغرة لفيلمه الكبير (الرسالة).

خرج فيلم الرسالة بصورة أكثر إشراقًا لحضارة الإسلام، هذا الدين العظيم الذي أهدى الحرية والكرامة والعطف على الفقير والضعيف والخير للبشرية، وقد اشترك في صناعة هذا العمل الفني العالمي العملاق مع الراحل العقاد قامات فنية وأدبية سامقة، منهم الممثل العالمي القدير أنتوني كوين، واشترك في كتابة الفيلم توفيق الحكيم وعبد الحميد جودة السحار ويوسف إدريس وأحمد شلبي وهاري كيغاف، وأبدع موسيقى الفيلم التصويرية الفنان الفرنسي موريس جار، الذي استوحاها من صوت الآذان أثناء زيارته للقاهرة للبحث عن موسيقى مناسبة للفيلم.

أذكر أيضًا أن الأردن شاركت قبل سنوات بفيلم قصير باللغة الفرنسية، تحت عنوان (رحمة) يحكي عن أخلاق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المهرجان الفرنسي الذي أقيم تحت شعار (حدثونا عن النبي) لتعريف العالم بالدين الإسلامي.

رنا صوالحة مخرجة الفيلم تقول (الفيلم يعكس أخلاق النبي من خلال رحلة فكرية لخطاط أراد أن يرسم الصورة الصحيحة للإسلام من خلال مخطوطة بالخط العربي، وذلك عن طريق مواقف مر بها في حياته).

وسرد الدكتور سعد الدين الهلالي خلال فقرة الفكر الديني بأحد البرامج مساء الإثنين الماضي سيرة الرسول بطريقة مبدعة غير تقليدية متحدثًا عن حلمه الذي حققه في حياته، لكنه جرى إجهاضه جزئيًا وعدم إكماله من قبل أمته بعد ذلك، وهو أن يُترك الدين لله جل في علاه كما أمر (ويكون الدين كله لله)، وأن يكون التنافس بين البشر في العمران وبذل الخير والمعروف وتحقيق الكرامة للإنسان، لا أن تستمر العادة الجاهلية بوجود جماعات تختطف الناس وتفرض الوصاية عليهم (كل يدعو لصنمه) فارضة عليهم معتقدًا بعينه.

تساءلت في نفسي وأنا أستعيد هذا الشريط من الأحداث التي تحتل من وجهة نظري قمة السمو في الإبداع الفني، كونها تحكي وتخبر عن رسول الله خير البرية ورحمة الله للعالمين.. قلت: أين من يحكي لنا اليوم عن الرسول من خلال الفن؟

أطفال كثيرون وصبية لو سألتهم عن الرسول وأخلاقه وتفاصيل سيرته لا يكادون يعرفونه، فيما تجدهم محترفين في معرفة كل شيء أكثر حتى من الكبار لأنهم يتلقونه عبر الوسيلة الأكثر تأثيرًا ورواجًا سواء عبر الفضائيات والدراما أو اليوتيوب والتيك توك.. الخ.

وقلت في نفسي أين سيرة الرسول الكريم في الدراما بطريقة عصرية مؤثرة ومبتكرة، ولماذا لا نشاهد أفلامًا ومسلسلات طويلة وقصيرة تتناول هذه السيرة الملحمية المدهشة من زوايا مختلفة وبالتطرق لموضوعات شتى ولتكريس تصورات ومفاهيم نحن أحوج ما نكون إليها اليوم؟

أرى أن هذا الملف الحيوي يتلخص في فكرتين أساسيتين: 

الأولى: أن الإسلام العظيم لا يجد من أبنائه ممن هم على مستوى تقديم وعرض وتوصيل أعظم هدية للبشر فى أنحاء العالم، كما قال الأمير تشارلز الذي صار ملك المملكة المتحدة: (إن العالم الإسلامى يحوى واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية الموجودة لدى البشرية، وهى تشكل فى نفس الوقت تراث الإسلام البديل وهدية لا تقدر بثمن لباقى البشرية).

يضع تشارلز المسلمين جميعًا أمام مسئولياتهم الحضارية الكبرى كجسر تواصل إيجابى بين الإسلام والعالم، يقول: (فإننى أحب أن أضع أمامكم لو أمكن تحديًا آمل أن يصل إلى ما وراء الحضور اليوم؛ وهذا التحدى يكمن فى تحفيز العلماء والشعراء والفنانين والمهندسين والحرفيين المسلمين لتحديد الأفكار العامة، ومعها التعاليم والتقنيات الكامنة فى الإسلام، والتى تشجعنا على العمل بالإنسجام مع الطبيعة).

ثم يقول تشارلز موجهًا خطابه للعالم الإسلامى بأسره: (إننى أدعوكم كى تبينوا لنا كيف يمكننا الإستلهام من الفهم العميق للثقافة الإسلامية إزاء عالم الطبيعة، لمساعدتنا على رفع التحديات الجسيمة التى نواجهها).

فهل وعت رموزنا الفنية والثقافية والدعوية والفكرية تلك الرسائل جيدًا وهل قدرت حجم ومقدار المسئولية الملقاة على عاتقها تجاه العالم الذى يمد يديه طالبًا التكامل والتعاون، وأن ينهض مبدعونا بتعريف العالم برسولنا وقيمنا الأصيلة، على طريق نهضة البشرية وإقرار السلام في العالم؟

الفكرة الثانية: أن الظروف مهيأة للكشف عن كنوز الإسلام وإيصال تعاليمه ومفاهيمه الصحيحة لأبعد مدى ولجميع قاطنى الأرض، بسبب ما توفر من أدوات ووسائل الإتصال والإعلام والثقافة والمعرفة العصرية من إنترنت وسينما ومسرح وتلفزيون .. الخ، ولأنه لم يعد محتمًا قتال دول وسلطات – كما كان فى السابق – لكسر القيود التى تحول دون وصول الدعوة للبشر ولمنح الناس جميعًا حرية الإعتقاد والإختيار؛ فالدعوة اليوم متاحة وسهلة ومأمونة بدون ردات فعل عنيفة، بينما كان دعاة العهود الماضية يُواجَهون بالقتل والإضطهاد "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجميعين".

رنا صوالحة مخرجة فيلم (رحمة) إشتغلت إيجابيًا على هذين الملفين من خلال الإسهام فى توصيل رسالة صحيحة عن الإسلام وإظهار كنز من كنوزه القيمية من خلال زاوية بعينها، حيث تعرض على الفرنسيين والأوربيين الصورة الصحيحة للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم من خلال معايشة أحد الفنانين للناس العاديين ورؤيته لإنعكاس أخلاق الرسول وتعاليمه على حياتهم، بما جعله ينجز لوحته المتكاملة بالخط العربي الفخيم وبالخلق الإسلامي العظيم(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

هناك زوايا ورؤى ومعارف وقيم وموضوعات شتى لم تعالج وتنتظر من يبدع فى إبرازها فى كافة القضايا الإنسانية والإجتماعية والقيمية والكونية، بحيث يظل جهد رنا صوالحة ومصطفى العقاد رحمه الله وغيرهما – رغم أهميته - ضئيلًا جدًا بالمقارنة بحجم ما هو مطلوب بذله ونشره وتسليط الضوء عليه.

وتتضاعف المسئولية وتتعقد المهمة لأن هناك جهلة وحمقى بأسماء وعناوين إسلامية يقومون بمهمة مضادة فى إتجاه مناهض، حيث يضعون عراقيل بتشويه صورة الإسلام والإساءة لتعاليم رسوله، وللأسف الشديد شهدت الفترة الماضية إنتاجًا فنيًا عبر تقنيات احترافية للترويج للإسلام كونه دينًا دمويًا يستلذ بذبح البشر وحرقهم أحياء بجهود المسؤولين عن الإعلام والثقافة بتنظيم داعش الإرهابي.

(اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاجر وعجز التقي) –كما قال الفاروق عمر- لأنه مع تقصير أصحاب الشأن الحقيققين وغيبة مبدعينا عن الساحة وتخاذلهم عن أداء مسؤولياتهم تجاه تناول سيرة الرسول الأصلية والترويج لإسلام المحبة والتسامح والرحمة، يصبح الإسلام فى ضمير الغرب والأمم الأخرى مرادفًا للإرهاب والكراهية والدموية والهمجية والعنف، ليس بجهود الإرهابيين فحسب إنما بتقصير أيضًا ممن تقع عليهم مسئولية التبليغ، وليس التبليغ التقليدي بالوعظ والخطب المنبرية، بل الإبداع فيه عبر إعادة كتابته وصياغته وحبكه في مشاهد فنية مؤثرة منثورة في أفلام ومسلسلات.

السؤال: كم من البشر يموتون يوميًا ولديهم فكرة سلبية عن الإسلام ورسوله بسبب نشاط الحمقى وكسل أصحاب المسئولية من مفكرين ومبدعين؟

كثيرون جدًا .. بالملايين يوميًا يغادرون الدنيا وهم يحملون أفكارًا سلبية ومفاهيم مغلوطة تجاه الإسلام والرسول، ويجهلون الإسلام الحقيقى وتعاليمه ومفاهيمه وقيمه.

تحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن مهمته الإنقاذية فى الدنيا برمزية مبدعة؛ فالناس فراشات تتساقط فى النار وهو يحاول بكل ما أوتى من إمكانيات إنقاذهم.. فحدثونا أنتم يا مبدعين عن الرسول برمزية مبدعة وحدثوا الأطفال والشباب والعالم كله عن رحمته وانسانيته ونضاله من أجل البشرية والضعفاء والمظلومين والمقهورين في أفلامكم ومسلسلاتكم.

ألا تلاحظون أن الإنتاج الإبداعى والفكرى الذى يخدم هذا المسار دون المستوى ومتواضع بشكل مؤسف ومحزن، فى مقابل إنتاج إعلامى تكفيرى إرهابى على مستوى عال من التقنية والدعم.

ولو كان هذا الرسول العظيم يخص حضارة أخرى في آسيا أو أوربا لصنعوا كل يوم فيلمًا أو مسلسلًا يمجده ويحكي عن مآثره وكيف صنع هذا التحول الكبير في التاريخ، وكيف قضى عمره على الأرض سياسيًا ومناضلًا وهاديًا وزوجًا وأبًا وجدًا.

يا فنانين مصر والسعودية والإمارات والأردن ولبنان وتونس وكل العالم العربي والإسلامي.. حدثونا عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحدثوا العالم كله كما هو في صورته الأصلية –لا كما نسمع عنه في أفلام داعش-.. 

صوروا هذا المشهد المبدع –ضمن آلاف المشاهد الأخرى- أنه كلما طلب منه أحد تلامذته الدعاء على أحد من الكافرين أو الفاسقين بالشر والسوء سارع عليه السلام بالدعاء له بالخير والهداية.

صوروا أيضًا هذا المشهد المدهش ليعرف العالم من هو رسولنا، ولا زلت أذكر هذا الحديث بسنده عن أبى عبد الرحمن بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم من وجهه وهو يقول: (اللهم إغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).