هشام النجار يكتب: فلسطين: وحدة الساحة.. لا وحدة الساحات

ذات مصر

لست من هواة جلد الذات ولا الصياح بعد فوات الأوان (يا ليت ما جرى ما كان)
ولا أن أجلس على كرسي جلسة المنعزل عن الواقع واضعًا ساق على ساق، مُكتفيًا
بالتنظير وإبداء النصح وكشف السقطات لمقاتلي الميدان.

ما أقوله هنا ذكرته قبل هذه الحرب بسنوات مرارًا ليس من موقع الكاتب والمنظر
والمحلل السياسي فقط، إنما من منطلق خبرة تجارب سياسية خضتها ومعرفة قريبة
ومعمقة بالمجريات.

أنا أكتب وأتكلم قدر استطاعتي معايشًا الحدث كأنني أحد عناصره وصناعه، وقد
أُجري معي حوار بتلفزيون فلسطين قبل سنوات بعيدة، ذكرت خلاله الكثير مما
أنوي كتابته بتركيز شديد في هذا المقال... لا لنقد حماس أو فتح أو الفصائل أو
إيران أو الإخوان أو حزب الله أو غيرهم ولا لمدح أحد أو الثناء عليه، فما نحن فيه
ونعانيه لا يتطلب هجاءً ولا مدح ولا يحتمل، إنما فقط يحتاج لمن يصيح للصحوة
ويدعو للوعي وينبه لمواطن العثرات ويدل بصدق وتجرد تام دون أي غرض أو
هوى أو مرض على طريق التحرر والخلاص.

ركزوا رجاء معي في هذا المشهد الأول تحت عنوان (وحدة الساحة الفلسطينية):
بعيدًا بعيدًا تمامًا عن الخلافات والانقسامات والأيديولوجيات تجمع ثلاثون شاب
فلسطيني في الضفة الغربية (وتحديدًا في نابلس) وكلهم تحت سن الثلاثين، وأطلقوا
على حركتهم (عرين الإسود).

لابد وأن يكون قادة حماس قد سمعوا بهم؛ فهؤلاء (الثلاثون) يا سادة الذين نشأوا
تحت الاحتلال والفصل العنصري في جنين ونابلس والخليل دوخوا الجيش
الإسرائيلي!

يا سيدي أنا لا أكره إيران ولا الإخوان ولا سيد المقاومة في لبنان و(مش شايل في
قلبي من حد) لكن لا تحدثني عن الآن أحد، وقد كتبت عن عرين الأسود قبل أشهر
وقلت (هؤلاء هم طريق الخلاص) وليس أحدًا غيرهم سمعنا منه مرارًا أنه قائد
القضية وهو من سيحرر الأقصى وينقذ فلسطين.

هل تعلمون سيداتي سادتي أن العنوان الرئيسي في صحيفة (جيروزاليم بوست)
الإسرائيلية الذي لا يروي أكثر من جزء صغير من القصة هو أن (عرين الأسود)
–وهم فقط ثلاثون شابًا فلسطينيًا تحت الثلاثين- هي صداع لا نهاية له لإسرائيل؟!
وهل تتخيلون أن جيش الإحتلال الإسرائيلي نشر آلاف الجنود الإضافيين في الضفة
الغربية استعدادًا لمعركته معهم، وكشف وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها أن جيشه زج
بنصف قوته كاملة في الضفة، ووضع هدفًا استراتيجيًا لهذه القوات بتصفية مجموعة
(عرين الأسود) التي تنفذ عمليات جريئة ضد الاحتلال.. هل هذا معقول؛ أن تحشد
إسرائيل كل هذا القدر من جيشها عددًا وعدة فقط لمحاربة ثلاثين مقاتلًا في نابلس؟

وقبل أن أكمل لابد من أن أسأل هنا قادة حماس: ألم يكن هؤلاء هم الأقدر على
تشتيت انتباه العدو وشغله لتخفيف الضغط عن غزة وعن فصائل المقاومة فيها؟
(عرين الأسود) هي باختصار ما كنت أتمناه وأريده للساحة الفلسطينية منذ زمن..
ومع أن غالبية نشطائها ينتمون إلى كتائب (شهداء الأقصى) التابعة لحركة فتح،
فإنها في منشوراتها واجتماعاتها تمجد القادة التاريخيين الشهداء من كل الفصائل،
بدءًا بالرئيس المؤسس ياسر عرفات، إلى مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين وقائد
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى، وقائد (الجهاد الإسلامي) فتحي
الشقاقي، وغيرهم من قادة النضال الفلسطيني.

وقالت (عرين الأسود) في بيان لها إنها لا تتبع لأي فصيل وإنها أدارت ظهرها
لجميع الخلافات والانقسامات وحددت بوصلتها منذ اليوم الأول، رافضة الانقسام
والتشظي مجسدة الوحدة على الأرض.

استمعوا كيف كانت تخاطب المجموعة المشكلة من ثلاثين مقاتلًا فقط قادة إسرائيل
وكيف كانت ترد على تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي ومحاصري نابلس.. قالت:
(نحن نتابع تحركات جنود الاحتلال ونقاطهم وتوزيع جنودهم، سواء على الطرق
الالتفافية أو على الحواجز، ونحذرهم بأنهم سيخسرون أرواحهم، إذا ما تحدوا
المقاومة ودخلوا مدينة نابلس، إنهم يحكمون على أنفسهم بالإعدام).. ولماذا هذه
الثقة ولماذا هذا التحدي؟ الإجابة: لأنها مجموعة جسدت الوحدة الفلسطينية التي
ترعب العدو.

صدمت مجموعة عرين الأسود الساحة الإسرائيلية بسبب نوعية نشاطاتها ورسائلها
وجرأة عملياتها العسكرية، التي استهدفت بها معسكرات جيش الاحتلال الإسرائيلي
ومعابره وحواجزه والمستوطنات، ومركبات وحافلات المستوطنين.. لكن تأملوا هنا
جيدًا: (عندما دخلت امرأة يهودية مع ابنتها إلى مدينة نابلس، امتنعوا عن المساس

بهما وسلموهما إلى القوات الفلسطينية، التي أعادتهما إلى إسرائيل(. (هل تدركون
هنا ما أعنيه) ؟

لم تكن مجموعة (عرين الأسود) حالة معزولة، ونشطت إلى جانب كيانات مسلحة
أخرى مثل (كتائب جنين) و(سرايا نابلس) ومجموعات أخرى منتشرة في شمال
الضفة الغربية، ردًا على قتل الفلسطينيين بمن فيهم الشيوخ والأطفال.
وليس صعود (عرين الأسود) والجماعات الفلسطينية المسلحة الأخرى سوى مظهر
صغير فقط للتغيرات الدراماتيكية الجارية في الضفة الغربية؛ فهي مجموعات
متعددة الفصائل تجلب معًا، لأول مرة مقاتلين من ‏‏حماس‏‏ وفتح وغيرهما حول
برنامج واحد، وهذا ما يفسر الإعجاب الشعبي بها خاصة بمدن الضفة.

وكان المناضل من المجموعة يُقتل فلا يعرف أحد إلى أي تيار ينتمي؛ هل هو من
حماس أم من فتح.. ليس هذا وقت ولا مكان تصنيفات.. إنه فقط فلسطيني خرج
من (عرين الأسود)، ويا للعجب فقد قُتل في كمين على مشارف نابلس عضو في
المجموعة يُدعى سائد الكوني، وادعى البعض أنه كان عضوًا بارزًا في كتائب
فتح بينما قال آخرون إنه كان مقاتلًا معروفًا في حماس.

هذا هو.. كان حمساويًا فتحاويًا معًا، لقد اختار أن يوحد الصف الفلسطيني
والساحة الفلسطينية بطريقته الخاصة في الوقت الذي يعمل كل طرف منهم في
اتجاه وفي واد مختلف، وحمل سلاحه وترك الجميع ومضى لملاقاة العدو.
وهذا هو ما كنت أريده؛ ألا تنفصل وتنعزل (المقاومة) في بقعة جغرافية محددة
يعلمها العدو ويستهدفها بطيرانه وجبروته وشراسته وبطشه سواء في غزة أو أي
مكان.. ففي مقابلة مع صحيفة (‏‏يديعوت أحرونوت)‏‏ ترجمتها‏‏ صحيفة
(القدس)‏‏، وصف قائد إسرائيلي ما شاهده في جنين خلال غارة هناك:‏ (عندما
ندخل (جنين)، ينتظرنا مقاتلون مسلحون ورماة حجارة في كل زاوية، الجميع
يشارك.. أنت تنظر إلى رجل عجوز… وتتساءل، هل سيرمي الحجارة؟ ويفعل
ذات مرة، رأيت شخصًا ليس لديه ما يرميه (علينا).. هرع إلى سيارته وأمسك
بعلبة حليب وألقاها علينا).‏

هذه هي المقاومة التي نريد بطول فلسطين وعرضها وكل فلسطيني (وفلسطينية)
فهو مقاوم ومشروع شهيد.. تلك هي المقاومة التي تؤلم العدو المحتل وتقلقه حيث
لا يعلم من أين تأتيه الضربة ولا ممن ولا متى ولا بأي سلاح، فسلاح المقاومة
يتشكل ويتجسد في كل شيئ متاح، في ملعقة، في كوب، في حجر، في قلم حبر،

في علبة حليب، في مزهرية، في فأس، في مضرب كرة، في مسدس.. حيث
يشعر بأنه مهدد في كل لحظة ومن أي شيء ساكن أو متحرك.. سلمي أو حربي..
مدني أو عسكري.

لابد من أتساءل هنا وأسأل حماس وقادتها.. لماذا لم تبحثوا عن الثلاثين مقاتلًا من
مجموعة عرين الأسود، لتضعوا معهم لبنة وحدة الساحة الفلسطينية المقاومة بين
الضفة والقطاع، قد فعلوا هم ما عليهم وشكلوا حالة تنذر باندلاع ثورة مسلحة
واسعة النطاق في الضفة الغربية، يديرونها هم من موقعهم في نابلس؟

لماذا لم توحدوا الساحة وتضعوا أيديكم في أيدي إخوانكم المناضلين في قلب
المعركة وفي عمق ساحة النضال –وليسوا في الأطراف ولا الأكناف ولا الحدود
ولا على جبهة شرقية أو غربية- إنهم بالداخل حيث المواجهة قائمة والمشاركة
فعالة ونشطة وبدون معايير ولا قواعد اشتباك، وقد سئموا الاحتلال والاختلال في
الرؤى وعلى استعداد لوضع كل شيء على المحك؟

لو كانت فعلت حماس ذلك ولو كانت جلست مع قادة المقاومة الجدد في الضفة
ونسقت معهم بدلًا من التنسيق في اجتماعات في طهران أو بيروت مع أناس
يسمون أنفسهم (سادة المقاومة)، لكانت غزة اليوم عامرة مزدهرة بالأمان والحيوية
والحياة، ولعاست المقاومة خلال الديار والشوارع والميادين في كل مدن وقرى
وزقاقات فلسطين المحتلة، ليعجز المحتل الغاصب عن تحديد مصدر الخطر
ولصار ضربة منطقة بعينها غير ذي جدوى لأن البلد جميعها تقاوم والمناضلون
والفدائيون في كل بيت وشارع ومدينة، وقد صارت (فلسطين) كلها (غزة).

المشهد الثاني لا يحتاج لكثير شرح، فعلى الرغم من ‏‏التعبير عن التضامن‏‏ مع
قضية الشعب الفلسطيني من خلال الولاء لمفهوم (وحدة الساحات)، وهو مبدأ
أساسي لـ(محور المقاومة) كما هو معلن، يبدو أن الطرف اللبناني (والمركز في
إيران) متردد في الانخراط الكامل، في ما يرجع أساسًا إلى عوامل محلية وداخلية
يمكن أن تعيق قدرته على خوض حرب واسعة النطاق ضد إسرائيل.

لم تحصل حماس على ما أرادته منذ البداية من (وحدة الساحات) وهو تنويع
الجبهات بشكل منسق ومتزامن وفعال لتخفيف الضغط عن غزة وعدم الاستفراد
بها.. أما وقد تم الاستفراد بغزة ويكاد يُقضى على حماس، فهذا يُساءل عليه قادة
المحور ومنسقو ومهندسو مسار (وحدة الساحات).

حدث ما حدث ونسقت حماس مع الخارج واجتمعوا مرات ومرات في بيروت
ونشبت الحرب بعد أن استحثوا الحركة الفلسطينية على المشاركة وأن تكون هي
رأس الحربة في هذه الجولة.. والآن يسأل حزب الله نفسه: هل يشارك فيخسر
ويُستنزف كما تخسر وتُستنزف حماس؟ وتخسر إيران ورقتها المهمة التي تعدها
منذ العام 1982م؟

بالطبع تتضارب وتتناقض وتختلف الحسابات في (وحدة الساحات)، لكن ما كان هذا
ليحدث وما كان هذا التردد والتلكؤ ليقع وما كانت تلك الأسئلة لتطرح من (عرين
الأسود) ومن (وحدة الساحة الفلسطينية)، فالحسابات داخل الساحة الواحدة واحدة
والمصير واحد والهدف واحد.. ولا مجال لتفاهمات ولا ملفات ولا مناورات ولا
صفقات، ولا احتمال هناك لخذلان ولا تردد وتلكؤ لحظة واحدة.

أطرح هنا تصوري وقد كتبته وقلته في برامج قبل الحرب بسنوات مرارًا، ليس لنقد
حماس ولا لومها، فقد حدث ما حدث وكان ما كان وتغيرت جميع المعادلات، ولم
يعد الوضع كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر.. لكني أطرحه للدراسة وللنقاش
المستقبلي من منطلق التنقل بين العديد من الأسئلة: هل وحدة الساحة الفلسطينية
أولى وأجدى أم ما عُرف بوحدة الساحات؟ وهل ربحت القضية الفلسطينية أم
خسرت من الرهان والتعويل على أطراف خارجية؟

والسؤال الرئيسي: ماذا لو وجدت جذوة المقاومة ضد الاحتلال في الضفة من
يرعاها وينميها ويؤججها، خاصة وأن الكثير من الشباب الفلسطينيين قد أبدوا على
نحو متزايد دعمهم لفصائل المقاومة المسلحة، وانضم بعضهم إلى صفوفها نتيجة
مواقف الحكومة الإسرائيلية المتشددة أكثر فأكثر خلال العامين الماضيين؟
ماذا لو كانت حماس قد احتضنت (وحدة الساحة) ووضعت لها الاستراتيجية
وطورت قدرات مقاتليها ليصبحوا على نفس مستويات احترافية مقاتلي فصائل
غزة؟ وماذا لو تشكلت هذه الوحدة بين المقاومين في الداخل.. فهل كان ليحدث ما
حدث لغزة ولحماس.. وما هي فرص مقاومة (وحدة الساحة) في تحقيق النصر
والانجاز.. وما هي الرؤية السياسية المناسبة لمشروع كهذا، وأخيرًا كيف يمكن
توظيف هذه الحالة لجلب التأييد والتعاطف مع القضية حول العالم؟