أحمد أمين يكتب: السياسة القعيدة في أزمة غزة

ذات مصر

القوة العسكرية هي إحدى الوسائل الهامة التي تستغلها السياسة والسياسيين في تحقيق مكاسب سياسية أو تقليل مخاطر أمنية أو فرض قواعد جديدة على الأرض يترتب عليها مكاسب سياسية في النهاية. وعادة ما تلجأ الدول والكيانات السياسية إلى استخدام القوة العسكرية عندما تفشل الوسائل السياسية الأخرى كالمال أو الإعلام على سبيل المثال في تحقيق نتائج ملموسة على الأرض. 

هذا هو الدارج والمعروف في ميادين العلوم السياسية والعسكرية والعلاقات الدولية والاقتصاد التي يفني الباحثين والمتخصصين جل أعمارهم لدراستها واستثمار نظرياتها وربما صياغة نظريات جديدة تتناسب مع مستجدات وسياقات لا يمكن فهمها أو توصيفها. أما في المشهد المشتبك الآن فلا يبدو لنا معاشر المتخصصين ما الذي يمكن فهمه مما يجري.

لأول مرة على الجانب الإسرائيلي يتأكد للإسرائيليين أنفسهم وداعميهم في الولايات المتحدة وفي الغرب ضبابية – وربما عدمية – أي مكاسب سياسية داخلية في المجتمع الإسرائيلي - وفي مجتمعات الدول الغربية الداعمة لها - من استخدام القوة العسكرية المفرطة في قطاع غزة. 

على الرغم من العدد الكبير جداً من مراكز الأبحاث المتخصصة في الدول الغربية وفي جامعاتها والتي تقوم بفحص ودراسة كل التفاصيل مهما صغر أو كبر حجمها لوضع سيناريوهات مختلفة وصياغة سياسات من قبل المؤسسات في الداخل الإسرائيلي تجاه المنطقة، يبدو المشهد عبثياً ولا يستند إلى أي منطق ينطلق من تحقيق أي مكاسب حتى الآن. فالخسائر الاقتصادية والتي تعد المحرك الأساسي والرئيسي لمشروع إسرائيل نفسها تخطت خمسة وخمسين مليار دولار منذ إعلان إسرائيل حالة الحرب. وعلى المستوى السياسي فحتى أكبر الدول الداعمة لإسرائيل أصبح دعمها يتآكل يوما بعد يوم بسبب انعدام الأهداف الإسرائيلية من هذه الحرب. ويجب الإضافة أن مشروع الديموقراطية الإسرائيلية والعالمية كلها أصبح في ذمة التاريخ في الغرب وفي مشروعها الديموقراطي الوحيد في الشرق الأوسط. وأصبح الحديث عن أي قيم ديموقراطية أو حضارية غربية أو إسرائيلية في المنطقة وفي العالم في هذا الوقت مثاراً للاشمئزاز من دول العالم في الشرق وفي المنطقة. 

وتحولت الديموقراطية في نظر كثيرين إلى أداة تستخدم للتطهير العرقي وقتل الأطفال والنساء والتهجير القسري. وقد ذكرت سابقاً في مقالات عديدة أن إسرائيل أصبحت عبئاً ثقيلاً على داعميها الدوليين وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. والآن يمكن القول أن تبعات ذلك على الولايات المتحدة ستكون ذات تأثير سلبي عميق في المستقبل القريب. فالولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة في تاريخها تشهد استقطابا سياسياً حاداً في مجتمعها السياسي. 

بقاء بايدن في الرئاسة ضريبته غالية، وغالية جداً، على مستقبل الولايات المتحدة كقطب عالمي أوحد ومؤثر في ظل صعود روسي وصيني مستمر في السنوات القليلة الأخيرة. وإذا ما استطاع ترامب الوصول للرئاسة مرة أخرى فستكون نتائج ذلك كارثية ربما على معسكر الرئيس بايدن وحزبه، والذي يجر معه حلفاؤه الداخليين والدوليين في الشرق الأوسط وأوروبا وغيرهما، فالولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة تراجع وأفول مهما امتلكت من وسائل وأدوات اقتصادية وعسكرية، ولكنها مسألة وقت ليس أكثر.

أما على الجانب الآخر من الصراع في فلسطين، حركات المقاومة وداعميها في المنطقة - تحديداً إيران -، فإن الصورة قاتمة وأكثر ضبابية وعدمية. فالمشهد السياسي الفلسطيني لا يشذ عن المشهد السياسي في دول المنطقة ومجتمعاتها. فقد دأبت الأنظمة الحاكمة في دول المنطقة وتحديداً في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية ومصر على محاربة الوجود الإسلاموي لعقود متوالية. وأبرز هذه المحطات كان العقد الماضي منذ ما عرف بالربيع العربي حتى الآن، والذي شهد استئصالاً لجل حركات الإسلام السياسي وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين في مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا وغيرهم. ولم يحدث هذا في المقام الأول إلا لافتقار كل هذه الجماعات مهما كبرت أو صغرت لامتلاك أي خبرة وأدوات سياسية تمكنها من الاستمرار، حتى أصبحت أوراقاً للابتزاز السياسي لدول أخرى وتحديداً تركيا. 

جل الحركات الإسلامية لم تمتلك رؤية سياسية ناضجة وفاعلة وواضحة لإدارة المجتمعات التي أرادت أن تحكمها. ولم تضع أي برامج متكاملة للانتقال بمجتمعاتها من التشرذم والتخبط السياسي في ظل أنظمة ما قبل الربيع العربي إلى أنظمة جديدة فكرياً وسياسياً. بل أفضى صعود هذه الجماعات للسلطة إلى حروب أهلية وانقسامات حادة في مجتمعات المنطقة، ناهيك من تحولهم لأدوات تستغلها دولاً أخرى في تزكية الصراعات الداخلية وتدمير القدرات المؤسساتية والعسكرية كما هو الحال في سوريا على سبيل المثال. 

ولا تعد حركة حماس بكل نخبها ومكوناتها استثناءً لهذه الحالة المتردية. ولم لو تكن حماس جزءاً من هذه الصورة القاتمة لما تمترست لما يزيد عن عقد كامل في قطاع غزة محاصرة ومستضعفة ومعزولة عن محيطها المتهاوي. فمنذ عشر سنوات فقط، كان يتم بالزج بحركة حماس في سجال سياسي ضخم وعميق في مصر في صراع أجنحة الدولة والمكونات السياسية المختلفة مع جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها السياسية. 

هذه الأجنحة والمكونات السياسية هي ذاتها التي تصطف خلف حركة حماس الآن ليس حباً لها بل دعماً للقضية الفلسطينية، في مساعي حثيثة لوقف أنهر الدماء من الأبرياء. 

وحيث إن حركة حماس هي صاحبة الريادة في المشهد الآن هي وحركات المقاومة الفلسطينية فيجب عليها إدراك موقعها وتحسس مواطئ أقدامها في هذا الصراع التاريخي والديني والسياسي، وأن تبني على ما حققته من انتصارات تكتيكية واستراتيجية في السابع من أكتوبر، حتى تخرج هي وأهل القطاع من هذا المستنقع. 

وأول هذه القرارات أن تدرك في مخيلتها أن جماعة الإخوان المسلمين قد انقضت ولقت حتفها منذ مدة، وأن التمسك بالانتماء للجماعة عبءٌ على الحركة وعلى قدرتها على المناورة السياسية. فلا يمكن لأي جيش أن يقاتل أو أن يربح معركته بدون سياسة وساسة تستثمر كل ما يتم إنجازه على الأرض لتقليل الخسائر أو إنقاذ شعبه من الإبادة. فالحل الأمثل الآن هو إعلان الانفصال التام عن جماعة الإخوان المسلمين وأنها جزء من المقاومة الفلسطينية فحسب، والتي تسعى لاسترداد الحقوق الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية القومية في هذه المرحلة التاريخية العصيبة في عمر الشعب الفلسطيني وفي عمر هذه المنطقة، وفي السياقات الدولية الحالية التي تتسم بالضبابية هي الأخرى. فالإعلان عن هذا الانفصال أكبر مكسب سياسي يحفظ هذه القضية من الضياع والاندثار بعد فشل المشروع الإسلاموي كله خلال القرن الماضي وحتى الآن. 

ويترتب على هذا تبني خطاب وطني خالص يستهدف القضية الفلسطينية فحسب، والمجتمع الفلسطيني بكل مكوناته الدينية والأيديولوجية والقفز من هذا المجهول إلى لحمة وطنية جديدة تجمع كل أبناء الشعب الفلسطيني. والملف الهام الذي لابد من العمل عليه بصورة جدية وعاجلة وهامة هو وضع برنامج متكامل للعلاقات الدولية مع الدول الصاعدة في العالم اليوم، حتى وإن اختلفت الأهداف إلا أن المشترك هو اتفاق وتشابك المصالح مع سعي الصين وروسيا لكبح هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وتقليص نفوذها خاصة في منطقة الشرق الأوسط. 

وقد أتت خطوة زيارة قيادات حركة حماس لروسيا مؤخراً كخطوة إيجابية لها رمزيتها السياسية التي لا يمكن إغفالها. فكما تبنت حركة حماس تكتيكات واستراتيجيات جديدة على الأرض في صراعها مع إسرائيل، فإن للسياسة تكتيكاتها واستراتيجياتها ودروبها والتي تفتقدها حماس حتى اللحظة، وأصبح امتلاكها فرض عين عليها وعلى قادتها وساستها.

وأخيراً، يجب أن تدرك حركة حماس جيدا أنها في خضم معادلة صعبة فيما يخص أمن دول المنطقة ودور كل من تركيا وإيران في زعزعة هذا المشهد، وحالات سوريا والعراق ولبنان واليمن لا تحتاج لكثير من الشرح والتفصيل، فالقاصي والداني يعرفها. ولا نرجو لحركات المقاومة في الأراضي المحتلة أن تتشابك مصالحها مع إيران وتركيا، فهما لاعبان لا يسعيان سوى لتحقيق أجنداتهما المستقلة والتي تخدم الكبار في كل معسكر ينتمي إليه كل من الدولتين. وهو ما لا يتفق مع أمن واستقرار ومصلحة مجتمعات ودول هذه المنطقة.