أحمد أمين يكتب: غزة الكاشفة.. وسقوط قيم المجتمع الدولي

ذات مصر

كأن التاريخ والواقع قد اتفقا سوياً أن يتوليا تعرية القيم المُؤَسِسَة للنظام الدولي على الدوام. فمنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة كقوى عالمية مهيمنة على النظام الدولي - وتغلغلها في دول أوروبا المنهارة على إثر تدمير ألمانيا النازية لها – تأسست القيم الدولية على عدة أسس أهمها حقوق الإنسان والديموقراطية المكونان لصورة الغرب في العالم. وانفردت الولايات المتحدة ومن ورائها دول أوروبا بغنائم انتصارها في الحرب لتؤسس مصطلحاً يتم تداوله حتى الآن: "المجتمع الدولي". 

وعلى الرغم من تأسيس جمعية الأمم المتحدة كامتداد لمنظمة عصبة الأمم، هيمنت الولايات المتحدة ودول أوروبا على المشهد العالمي منذ تلك اللحظة حتى الآن. وفي كل حادثة أو صراع أو نكبة أو كارثة تقع في أرجاء المعمورة يكون المجتمع الدولي حاضراً مهما كان نوع وحجم تأثيره، سلباً أو إيجاباً. إلا أن المجتمع الدولي طالما يمتلك أكبر التأثيرات السلبية في المنطقة العربية ودول الشرق الأوسط. 

فقد دعم المجتمع الدولي إنشاء كيانٍ يعربد كيفما يشاء في المنطقة، تارة في سوريا، وأخرى في العراق، وفي السودان والصومال واليمن ولبنان، وفي إيران وتركيا إذا اقتضت الحاجة، ويفعل ذلك دوماً في الأراضي التي احتلها في فلسطين.

 وفي كل مرة يتم امتحان واختبار القيم العالمية وقيم المجتمع الدولي، وفي كل مرة تسقط سقوطاً مدوياً ينبئ عن تعالي وكبر وعنجهية وإفساد وعنصرية تجاه قضايا المنطقة كلها، بل حتى على شرائح كبيرة جداً في مجتمعات الدول الغربية التي ترفض سياساتهم المتوارثة والمستمرة في التنكيل بشعوب هذه المنطقة منذ الحقبة الإستعمارية. 

وأحداث غزة الأخيرة التي لمَّا ننتهي منها بعد، قد وضعت مسماراً في نعش هذه القيم، وربما في نعش النظام العالمي الذي يدخل في مرحلة من التحولات الكبيرة قد تفضي إلى انهياره لاحقاً. 

في الوقت الذي انتفض فيه المجتمع الدولي منذ اللحظة لإنقاذ أطفال أوكرانيا ونسائها ورجالها منذ الهجوم الروسي منذ أكثر من عام ونصف، لم يكن ليفوت الفرصة في دعم العربدة الإسرائيلية في غزة من اللحظة الأولى. وهذا مفهوم بالطبع لدى بقية شعوب ودول العالم التي لا تصنف ضمن المجتمع الدولي في القواميس الغربية.

 فكيف يمكن أن يُتَركُ الأطفال والنساء والرجال ذووا العيون الزرقاء والشعر الأصفر ليواجهوا مصيرهم أمام الآلة العسكرية الروسية؟ - والتي تمتلك مبررات لا يستهان بها في حربها على أوكرانيا بالمناسبة وإن اختلفت دوافع كل اللاعبين في التعاطي من الملف الأوكراني -. فالمجتمع الدولي قد وضع أسساً منذ الحرب العالمية الثانية وهي عدم تغيير الأنظمة السياسية بالحروب طبقاً لمعايير الأمم المتحدة. لكنه فعل ذلك في العراق، وفي أفغانستان، وفي سوريا وليبيا.

 لكنه لا يسمح بذلك في دول أوروبا وامتداداتها الجيوسياسية والثقافية والأمنية. فالمنطقة العربية دولاً وشعوباً خارج معايير الأمم المتحدة ولا تنطبق عليها كل قيم المجتمع الدولي، إلا بما يحقق مصالح الدول الغربية فقط. وفي حالة غزة هذه المرة أصبح الأمر أكثر فجاجة وقبحاً عن كل ما سبق. 

نعم، يمتلك الفلسطينيون كل المبررات في الدفاع عن أنفسهم في كل المعايير الدولية والأخلاقية والتاريخية والثقافية والدينية والحضارية. فالرواية عن القضية التي يبدأها الغرب دائماً من الفقرة الثانية ليدعم هؤلاء المرتزقة في الأراضي المحتلة، تمتلك هذه الرواية فقرة أولى تروي حقيقة هذا الصراع.

 فالصراع سببه احتلال الأراضي وطرد سكانها منها قسراً وقتلهم والتنكيل بهم إذا لم يقبلوا هذا التهجير. والحقيقة في الفقرة الأولى وجود الآلاف من المعتقلين والأسرى من الأطفال والنساء وكبار السن تستخدمهم إسرائيل على الدوام كأوراق ضغط على الفلسطينيين كلما تقتضي الحاجة. والحقيقة أيضاً أن سلطات الاحتلال أفرغت منظمة التحرير الفلسطينية من أسس بقائها واستمرارها في السعي وراء مصالح الشعب الفلسطيني والدفاع عنه في كل المنابر. 

والحقيقة الأهم والتي يجب أن تروى أن إسرائيل بعد كل هذا السلوك المنحرف والشاذ دولة ديموقراطية في المعايير الغربية وتعبر عن التطور الحضاري الغربي. فقد طار بايدن – الرئيس الأمريكي الأكبر عمراً منذ استقلال الولايات المتحدة - ليعلن دعمه لإسرائيل الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة العربية كما تصر دوائر الإعلام والأكاديميا البحثية الغربية دوماً على هذا المصطلح. 

طوال أكثر من سبعة وأربعين يوماً من الحرب على قطاع غزة، لم تنتصر الآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة غربياً إلا على خمسة آلاف طفل ورضيع، و أربعة آلاف امرأة. هذا هو الإنتصار العظيم الذي حققته إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. فمنذ اللحظة الأولى أعلن الرئيس الفرنسي "كيف يمكن لهؤلاء الرعاع أن يهجموا وينتصروا علينا؟" في إشارة إلى هجوم حماس على غلاف قطاع غزة. 

ولا أرى أن تبدل وتقلب تصريحات الرئيس الفرنسي حتى الساعة إلا في إطار المناورات السياسية الداخلية والخارجية لتجميل الصورة القبيحة من الأصل لفرنسا الاستعمارية في المشهد الدولي.

 ناهيك عن صورة الولايات المتحدة المتهاوية والتي تتآكل شرعيتها الدولية يوماً بعد يوم في المنطقة وفي العالم. فلم تعد دول العالم بحاجة لإثبات ازدواجية المعايير الغربية في كل مرة، فقد رأوها رأي العين في الحالتين الأوكرانية والغزية.

وعلى حسب تعبير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في إحدى لقاءاته أن الولايات المتحدة تمتلك العديد من القتلة ومجرمي الحرب، ولكن لا يمكن لأحد أن يحاسبهم لما لهم من نفوذ اقتصادي وسياسي في الولايات المتحدة. ولم أجد في هذه الحالة وصفاً أكثر انطباقاً على سلوك الولايات المتحدة وحلفائها سوى مقولة الإمام محمدة عبده الشهيرة : "لعن الله ساس ويسوس وسائس ومسوس". 

فسياسة المجتمع الدولي تجاه المنطقة وتجاه القضية الفلسطينية أدت لانهيار وسقوط القيم التي يتجمل بها، وربما إلى الأبد في مخيلة مجتمعات المنطقة، بل وفي مجتمعات دول العالم الأخرى التي لا ترتقي أن تتصف "بالمجتمع الدولي" طبقاً لدوائر الإعلام والسياسة والدبلوماسية الغربية.