هشام الحمامي يكتب: المغزى الهام لـ (حالة الإنكار) في إسرائيل والغرب

ذات مصر

تعرف (حالة الإنكار) بأنها اختيار ضروري لإنكار الواقع كوسيلة لتجنب الحقيقة المؤلمة من الناحية النفسية أو الواقعية، وهي تعد عمل (غير عقلاني) يمنع تأكيد وقوع تجربة أو حدث ما ليس هذا فقط بل والإصرار على رفض قبوله كحقيقة مؤكدة بدليل.. وهذا هو ما يحدث بعينه في (غزة)هذه الأيام بعد 85 يوما من بداية المعركة (قبل الأخيرة) بين الشرق والغرب! ..في (حالة إنكار) أعمى للحقيقة كما يجسدها الواقع.
ليس هناك مبالغة في وصف المعركة أنها بين الشرق والغرب، فهو توصيف (تاريخي) باعتبارات التتابع من الماضي البعيد والأقرب وحتى الوصول إلى الحاضر، وتوصيف (استراتيجي) باعتبارات التعبئة والواقع والأطراف المنخرطة في تفاصيله وتطوره واستباق نتائجه، وتوصيف (حضاري) باعتبار مخزون القيم والأفكار التي تظلل المشهد بأكمله، زمانا ومكانا. 
***
سيأخذنا ذلك سريعا إلى التصريح الاستراتيجي الكاشف لشلومو جازيت (ت/ 2020) رئيس جامعة بن غوريون ورئيس الوكالة اليهودية السابق: (إن المهمة الرئيسة التي تضطلع بها إسرائيل لم تتغير على الإطلاق، وما زالت تشكل أهمية حاسمة، والواقع أن موقع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط العربي المسلم، يجعلها بمثابة الحارس المخلص للاستقرار في كل البلدان المحيطة بها، ويتمثل دورها فى حماية الأنظمة القائمة: منع أو الحد من عمليات التطرف، والحيلولة دون توسع التعصب الديني الأصولي).
كما ورد في مقال د/ بشير أبو منة الأستاذ بجامعة برنارد نيويورك والباحث المعروف في الدراسات ما بعد الاستعمارية.. مقال: (إسرائيل في الإمبراطورية الأمريكية). 
وسيلفت د/ بشير نظرنا في مقاله الهام إلى نقطة بالغة الأهمية في (ماهية) الواقع الفكري/ السياسي العربي منذ تأسيس إسرائيل بقوله: ما كان هدف الولايات المتحدة المتمثل بدفع (النخبة العربية) إلى المجال الأميركي والقضاء على أي حركة تحررية وتقدمية ليتحقق، لولا أداة ناشطة ومقاتلة، تساعدها في أداء هذه المهمة، هذه الأداة هي (إسرائيل) وقد كوفئت مكافأة كبيرة على هذه الخدمة.
المكافأة التي يصدق عليها القول بأن: إسرائيل حالة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط، فهي ممولة من الغرب من دون أن تستغلها اقتصاديا، وعلى عكس ما كان في الماضي، لقد استخدم الغرب إسرائيل لأغراضه السياسية ودفع ثمن ذلك دعماً اقتصاديا هائلا.
***
هذا التصريح الدقيق لشلومو جازيت يشير بأصبع الحقيقة إلى (مغزى)ما قد سبق وقاله وزير الدفاع الأمريكي أوستن: أننا (لن نسمح لحماس بأن تنتصر ).. 
لكن حماس انتصرت بالفعل كما قال (دانيال كيرتزر/ السفير الأمريكي السابق في مصر وإسرائيل) في مجلة فورين بوليسى الأمريكية الشهيرة، زد على ذلك ما أوردته الـ (سي إن إن) في 21 ديسمبر الجاري من أن التحليلات الجديدة التي أجرتها وكالات استخبارات أميركية حذرت من أن مصداقية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتأثيرها زادا بشدة في الشرق الأوسط وخارجها بعد (طوفان الأقصى) .
وهذا صحيح تماما، وبكل ما حملته (طوفان الأقصى) من رسائل تاريخية كبرى تتمثل في القدرة والإرادة والجرأة والشجاعة واليقين، والذي يتعارض بشكل رهيب مع ما ذكره شلومو جازيت، وبالإمكان أن نستخلص منه قراءة حقيقية تفسر لنا هذا الإنكار العنيف لهزيمة إسرائيل ، والذي حدث بالفعل من يوم 7 أكتوبر.
التصريح الأخير للخارجية الإسرائيلية بأن (إسرائيل/ أمريكا) تحارب حماس لا غزة!.. وبقدر ما فيه من كذب بواح وتضليل سخيف، إلا أنه يشير إلى ذلك بوضوح، ويمثل مختصرا موجزا بليغا لما يدور الأن في العقل (الأمريكي/ الإسرائيلي) من أن هذه الحرب إنما هي في حقيقتها وجوهرها، صراع الغرب وعلى رأسه أمريكا مع حماس (الفكرة والتصور) الراسخ الجذور في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر والحديث.. والموصول بألف قرابة وقرابة بتاريخ الحركة الإصلاحية الكبرى، من منتصف القرن الـ 18، والتي أسس لها عميقا الثلاثي العظيم (الأفغاني وعبدة ورضا) ومدرسة (العروة الوثقى) الشهيرة.. 
***
حماس في الوعى الغربى بالصراع الجاري، هي (الفكرة) التي تمثل تركيزا خالصا، لكل تجليات هذا المدرسة الكبيرة على مستوى (الفهم والوعى والتكوين والشخصية) والباقي مجرد تفاصيل، من إعداد وتنظيم وتربية.. إلخ 
و(طوفان الأقصى) بعثت، فيما بعثت من كل قديم جديد هذا (التصور)والذي كاد أن يغيب عن المشرق العربي على مدار العقود الخمس الأخيرة، وبما يناسب موقعها تماما، وفيما يعنى الأمة كلها، إنه المسجد الأقصى وإنها القدس.
وهو ما قاله يحيى السنوار في روايته (الشوك والقرنفل) على لسان (إبراهيم) باختلاف القضية الفلسطينية عن غيرها من قضايا الكفاح المسلح الذي خاضته حركات في مشارق الأرض ومغاربها: (قصتنا مختلفة عن الأيرلنديين والفيتناميين والخمير الحمر، لأن بها المسجد الأقصى، يتربع في قلبها).
ويصح أن نقول هنا أن (طوفان الأقصى) كانت أكثر إشعاعات(حماس) تركيزا وتكثيفا وضياء ووهجا ونجاحا منذ تأسيسها، وبكل الدرجات التي تسمح بها اللغة، ستكون حماس وسيكون قائدها في غزة (يحي السنوار) تاريخ شخص في تاريخ أمته، وتاريخ أمة من خلال تاريخ الشخص، الذي ساهم في استنهاض هذه الأمة. 
***
تدرك أمريكا وإسرائيل والغرب إدراكا تاما أن (7 أكتوبر) وبكل ما أتى به من خيرات لم تتكشف بعد أبعادها، والتي ستمتد إن شاء الله إلى ما لا يخطر ببال ولا خيال، والتي سيكون هذا (الإنجاز العسكري) المذهل الذى حدث ويحدث، أقل ما فيها من إعجاز..
وأن ما سيكون مما كان، وما سيأتي مما أتى إنما هو يجري في سياق أخر تماما، سياق يختلف كليا عن (الرواية القديمة) في حكايات القتال والمعارك الشرق أوسطية العربية، سياق يمحو كل ما حدث من سنة 1948م، وعلى كل مستويات (المحو)، إعدادا وقتالا ومعلوماتيا ومخابراتيا.. والمدهش أنه الأن في نموذج مصغر، لكنه نموذج بالغ التركيز.. بالغ الدقة.. بالغ التوفيق.

***
وهو ما يجعلهم إلى الأن ينكرون الواقع الشاهد بإصرار ومكابرة، ورغم كل الخيبات المتتالية في الميدان، والتي لا يستطيعون مواجهتها، فينتقمون بقصف المستشفيات والبيوت كما قالت إحدى الأمهات الفلسطينيات ذلك بمزيج من الفرح والألم..
لكن السهم انطلق والشرق الأوسط كله مقبل على واقع جديد تماما، ليس فقط سياسيا واستراتيجيا ولكن وهو الأهم فكريا وحركيا، ويصح هنا أن نقول أنه سيكون هناك شرق أوسط ما قبل 7 أكتوبر، وشرق أوسط ما بعد 7 أكتوبر.

دعونا نختم بما قاله الصحفي اللبناني جوزيف سماحه (ت/2007م) في كتابه الهام الصادر سنة 1993م (سلام عابر): عندما يتواجه عدوان، يسجل واحد منهما انتصاره الأول على خصمه، متى أرغمه على مغادرة بداهاته وتغيير قراءته للأمور.
وهو بالتمام والكمال ما حدث في (طوفان الأقصى).