علي الصاوي يكتب: من دمشق.. هنا القاهرة

ذات مصر

عندما يخذلنا الحاضر ويسود فيه القبح ويُكرّم أهله على أنقاض القيم والفضائل، يلجأ الناس عادة إلى الماضي، يبحثون فيه عن مَعين عذب ينهلون منه رشفات باردة، تروي ظمأهم وتبرد قلوبهم الحارة من نيران الفرقة والانقسام، يهربون إليه ويقفون على أطلاله يبحثون عن كلمات عزاء لحالتهم المزرية وانحدراهم المؤسف وتفكك قيم تضامنهم، فيجدون مكتوبا على ضفته كلمات تقول:

"ذَهَبَ الَّذينَ يُعاشُ في أَكنافِهِم.. وَبَقيتُ في خَلفٍ كَجِلدِ الأَجرَبِ."

كم من المؤسف أن يُشوه صورة مصر ومكانتها النفسية وصورتها الذهنية في وجدان الشعوب العربية هاشتاج عنصري بغيض، يُعبر عن استعلاء نفسي وقومي تَملّك من بعض المرضى المزايدين وعشاق الفتن، أولئك الذين تنتعش تجارتهم وتنتفخ جيوبهم كلما تفاقمت مآسي الآخرين وضاقت أحوالهم، الهاشتاجات المنتشرة منذ فترة على منصة إكس في مصر تحمل عناوين" ترحيل اللاجئين واجب وطني" وغيره "ترحيل السوريين واجب وطني" وآخر" مصر للمصريين" ولا أدري لماذا الحملة في هذا التوقيت؟ ومن يقف وراءها؟ ولماذا كل الحسابات التى تتفاعل مع الحملة متشابهة وتروج لسرديات واحدة مع إغلاق ميزة التعليقات في كل حساب؟ ألا يقرأ هؤلاء التاريخ لربما تأثروا ببعض المناقب الطيبة لأشقاءنا السوريين وغيرهم من اخواتنا العرب؟

عندما شن العدوان الثلاثي الهجوم على مصر وضرب خطوط إرسال الإذاعة المصرية ولم يستطع الناس سماع خطبة الرئيس جمال عبد الناصر آنذاك، ماذا فعلت دمشق؟ قام الإذاعي عبدالهادي البكار وصدح بصوت جلل هز المشاعر وحرك الوجدان وعكس متانة الوحدة والتضامن بين البلدين، فقال: "مِن دمشق: هنا القاهرة" مؤازرة ومساندة لمصر على عدوانها الثلاثي وأنها ليست وحدها، العبارة خُلّدت في ذكراة المصريين إلى وقتنا هذا، ومن المحال أن يعرف أيا من مروجي هذه  الهاشتاجات القميئة تلك الحادثة الخالدة في الوعي الجمعي للمصريين، ألم نكن يوما نحن وسوريا والسودان دولة واحدة؟

هل يعلم هؤلاء أن مصر نقلت مقر الكلية الحربية المصرية إلى منطقة جبل أولياء في العاصمة السودانية الخرطوم بعد نكسة 67 حماية من غارات الطيران الإسرائيلي بعد تدمير دفاعات مصر الجوية؟ هل يعلم هؤلاء أن أهمية السودان وسوريا بالنسبة لمصر كأهمية دمياط ورشيد بالنسبة لنهر النيل؟ ما الدافع من وراء هذا الهجوم؟ وما الفائدة منه؟ تقولون إنكم تريدون مصر للمصريين وغايتنا هي الحفاظ على الهوية المصرية، ومنذ متى وهوية مصر تغيرت أو تأثرت لاستقبال الضيوف والوافدين منذ فجرها؟ لقد مرّ على مصر الكثير من الأمم والحضارات من شتى جنبات الأرض، أقاموا فيها ودافعوا عنها وعمّروها وأضافوا إليها وعرفوا قيمتها، ثم رحلوا وبقيت مصر وهويتها، ومكانتها كما هى تتفاخر بتعدد حضارتها وتنوعها الثقافي.

يُروّجون فيديوهات لسوريين منزوعة السياق لإذكاء الفتنة وتأكيد سردياتهم الكاذبة، ولا ندري هل أصحاب هذه الفيديوهات في مصر أم خارجها، وهل هم سوريون بالأساس أم مندسين ومأجورين مثلهم؟ يقولون نريد تقنين أوضاع اللاجئين، وهل الهاشتاجات باتت بديلا عن الدولة ونظامها الحاكم لتوصى وتقلّب وتُحرّض؟ أليس هناك قانون ينظم حياة الوافدين والمقيمين ويجري على الجميع؟ يأتيك أخاك مصفوع على خده الأيمن ظلما وعدوانا، وبدلا من تضميد ألمه تصفعه أنت على خدّه الأيسر!

لا والله إنها كلمة حق يُراد بها باطل، فتوقيت الحملة وتشابه الحسابات والشخصيات المروجة لها تُثير الشك وتدعو لإعمال العقل، فهناك جهات مستفيدة من هذا التحريض وهم لا يُعبرون عن الرأى العام المصري بجوهره النقي وكرم ضيافته المتأصلة في نفسه وإن ضاقت عليه، هؤلاء مجرد ذباب صغير يخدم أسياده من الدبابير الكبيرة، ولا خاسر إلا الوطن وأهله ومنطقتنا العربية بعروبتها وقوميتها وقيمها الإسلامية، يريدون نقض آخر خيط يربط بين الشعوب من إخوة وتآزر، هل تقبلون أن يحدث هذا الهراء مع المصريين في الخارج؟ وما هو موقفنا إن كنا مكانهم؟