علي الصاوي يكتب: العمّ صاو والهارب الطبقي

ذات مصر

في رواية "الجاسوسة" للكاتب العالمي باولو كويلو، أمسكت أم بطلة الرواية ماتا هاري زهرة التوليب، وقالت لابنتها  قبل أن ترحل إلى مدينة أخرى لتدرس: "انظري إلى زهرة التوليب هذه، لن تتحول يوما إلى وردة أو دوار شمس مهما تاقت إلى ذلك، فإن حاولت إنكار وجودها فستحيا حياة مريرة وفي النهاية ستموت ولن تتحول إلى وردة أبدا"، كانت تنصحها بأن ترضى بأقدارها ولا تسخط على واقع قد لا تتقبله بسبب أنه جاء عكس ما كانت تحلم به. نصيحة غالية كانت من الممكن أن تُشكّل حاجزا وقائيا بين ماتا هاري وبين التمرّد على أقدارها، والتذمّر من طبقتها، نصحتها أمها بأن تتكيف مع ظروفها بدلا من الهروب والارتماء في أحضان عوالم أخرى فضفاضة، قد لا تناسب مقاسها الاجتماعي فتتعثر فيها وتموت، لم تعمل ماتا هاري بنصيحة والدتها، دفعها الاحتياج والطمع إلى الدخول في عوالم مظلمة من أجل الشهرة والمال، فكانت ضحية نزواتها وألاعيب رجال السياسة، في النهاية أُعدمت رميا بالرصاص بعد أن اتهمتها فرنسا بالتجسس لصالح الألمان في الحرب العالمية الأولى. 

ذكرني هذا المشهد من الرواية بمصطلح "الهارب الطبقي" الذي انتشر إبان الثورة البلشفية وحذرت منه قيادات اليسار لسرعة انقلاب الشخصيات التي تتخلق به، وهذا المصطلح يُطلق على الأشخاص الذين يهربون من طبقتهم الاجتماعية وينسلخون من جذورهم ولا يدينون لأرحامهم بالولاء، يتنكرون لماضيهم ويشتدون في التعامل مع كل من يُذكّرهم بأصولهم، ينبطحون أمام من هم أكثر منهم وجاهة ونجاحا وسلطة، يبالغون في تملّق من يأخذ بأيديهم نحو القمة، يحرقون لهم بخور الطاعة، ويذبحون لهم قرابين الولاء، يشعرون بزهو وكبرياء إذا اصطحبوهم في أى نشاط اجتماعي، وليتهم يظفرون بالوجاهة الاجتماعية التي يطمحون إليها، بل لا يزيدهم التنصل من أصولهم ومسقط رؤوسهم إلا احتقارا في أعين الناس، فلا هم شرفوا بقومهم ولا هم كسبوا احترام غيرهم. 

العم صاو كان رجلا شديد الصلافة، اتصفت شخصيته الشحيحة بمصطلح الهارب الطبقي، كان يسأل نفسه دوما: لماذا ألقت بي الأقدار وسط هذه الفئة المهمشة وجعلتني منهم؟ أفاء الله عليه بنعم كثيرة، وكلما تدرج في المكانة الاجتماعية ازداد هروبا من أصله وطبقته، وحنقا على قرابته والإمعان في إهانتهم، كان يولّي وجهه دائما شطر العائلات الرفيعة، خيّل إليه شعوره بالنقص أنها عائلات ذات أصول نجيبة وقد يُعوضه القرب منهم نقصه الاجتماعي، كان يتودد إليهم، يجالسهم ويؤانسهم ويفرد لهم صفحات وجهه بالضحكات ولسانه بالنِكات، وحينما يلتقي بأرحامه تراه عابسا مكفهر الوجه ومقطب الجبين، وفجأة تنزل على وجهه سحابة سوداء تسدّ مسام البسمات وتغلق عن فمه الضحات، لا قول ميسور ولا يد منبسطة ولا ضيافة كريمة، إلى أن يأتي دور التقريع بالكلام الذي يسمّ بدن من يجالسه من أقاربه لينفروا منه ويغادرون المكان كاسفين مدحورين. 

عاش هذا الرجل في قرية تاريخية بعيدة، اتخذ من أطرافها سكنا كونه يَعد نفسه من الشرفاء ويبعد عن الحرافيش ممن يتشارك معهم في الدم والرحم، كان يردد دوما: "الأطراف منازل الأشراف". أفرغ ساحة بيته لنسب زوجته الرفيع من النبلاء وعلية القوم، كان يتصاغر أمامهم ويُسارع بتقديم خدماته لنيل رضاهم ليبدو نِدّا لهم، بينما كان يُضيّق على أرحامه البسطاء، وإذا قدّم لهم شيئا في غفلة من نفسه عايرهم وفضحهم وأراق ماء وجوههم أمام الجميع ليظهر بصورة الرجل الكريم صاحب الفضل والخير مع أهله. لم يكتف العم صاو بحمل أوزاره وحده بل أورثها لأولاده الذين نسجوا على منواله والتزموا نهجه، فمالوا إلى نسب أمهم الرفيع وافتخروا به، فانطبق عليهم المثل القائل: "سألوا البغل من أبوك فقال: خالي الحصان" وكلنا نعلم أن البغل يأتي نتيجة تزاوج الحمار مع الفرس، فالبغل يتنصل من نسب الحمار رغم أنه أبوه، لكنه يفتخر بنسب خاله الحصان الذي لا يعبأ به في الواقع. 

مرّت الأيام وتقدم العمر وراح الخبر، دبّ في جسد العم صاو الضعف والشيبة، تمكن منه المرض وأقعده في الفراش، وليس هناك مثل المرض من قاهر قوي يكسر غرور الإنسان ويُشعره بنقائص نفسه وحقيقة دنياه، كان ينتظر ممن وقّرهم وشرف بهم وقدمهم على أرحامه أن يشاركوه آلامه ويدعمونه نفسيا، لكنهم تجاهلوه ولم يُعره أحدا اهتماما، تركوه يلفظ أنفاسه ولم يحضروا العشاء الأخير، لم يقم على خدمته إلا أولئك الذين تنصل منهم وأضعف أواصره معهم، كان يقول لأصغرهم الذي أهانه كثيرا وسخر منه بصوت مبحوح: أدعو لى بالشفاء وأن يعافيني الله، فكان يدعو له ناسيا كل إهانة وسخرية بحقه مشفقا عليه وعلى إرادته المسلوبة أمام سلطان الموت. 

بقى هذا المسكين يعاني المرض، وحوله مَن كان ينتكر لهم، يخدمونه بحب ونقاء، إلى أن توفاه الله، خُتمت حياته بدرس قاسٍ ربما كان يشعر بوجع الضمير، كم ضيع من سنوات عمره لإرضاء من لا يستحقون، اشترى الوجاهة من عند غيره بثمن من خدموه قبل موته وبكوا عليه، نسوا له كل إساءة وعجرفة وتكبّر في حقهم، فهل لو عاد هذا الرجل مرة أخرى إلى الحياة سيصلح ما أفسده ويُرضي من أهانه وأساء إليه ويخفض لهم جناح الذل من الرحمة؟ أم سيصدق فيه قول الله في سورة الأنعام: (ولو رُدوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون).