هشام النجار يكتب: رد الاعتبار لسليمان خاطر!

ذات مصر

هل تعلمون ماذا كنت أفعل حتى أخرج من حيرتي الخانقة وأنا أرى إسرائيل تقتل وتدمر وتجتاح وتُهجر وتُجوع وتسفك الدماء البريئة بلا رادع وبدون خوف من عقاب ومساءلة؟

ذهبت إلى مكتبتي وأخرجت (خريف الغضب) لأقرأه مجددًا، لا لأعلم ما جرى ما بعد حرب أكتوبر 1973م المجيدة إلى مقتل الرئيس السادات، فقد قرأت الكتاب أكثر من مرة وغيره من المراجع، لكن لأغضب غضبًا مضافًا على الرئيس الذي أحبه.

ربما أنجز الرئيس السادات رحمه الله إنجازًا عظيمًا بتحقيق النصر والسلام، لكنه وفقًا لرؤية هيكل التي قد يؤيده فيها ويعارضه الكثيرون أسهم في تراجع القرار العربي والالتفاف العروبي القومي حول قائدة العرب مصر، ما كان يمثل الرادع الأكبر لإسرائيل فتفكر ألف مرة قبل إيذاء أشقاء في لبنان أو الأردن أو سوريا أو فلسطين، ناهيك عن ارتكاب مجازر وجرائم إبادة جماعية.

بالطبع الفلسطينيون ملومون ويقع عليهم الجانب الأكبر من المسؤولية بسبب فرقتهم وانقساماتهم، وقد كتبت هنا العديد من المقالات الناقدة بشدة لتصرف حماس الأحادي وهاجمت الانعزالية الفصائلية وتكريس الفصل بين غزة والضفة والبدء من نقطة الصفر وعدم البناء على ما حققته منظمة التحرير الفلسطينية وعدم مشاورة باقي أطياف النضال حتى لو كانوا لا يحملون السلاح، لدرجة أن البعض قال لي: على رِسلِك لا تنتقدهم الآن ريثما تضع الحرب أوزارها.

لكن يقع اللوم أيضًا على العرب، فهل هم موحدون، وكيف تفرقوا هكذا، وما الذي يمنعهم من العودة ككيان موحد متماسك، تردع وحدتُه من يحاول الاستفرادَ بعرب ضعفاء عزل ليبيدهم ويستولي على ثرواتهم وممتلكاتهم وأراضيهم؟

 هل تدرون بمن فكرت وأنا أتابع تصريحات وتغريدات ومقالات وظهورات إعلامية لقادة وعناصر من الاخوان والقاعدة وداعش ومن شابههم ممن يحاولون الهرب من شبح انكسار أمام آلة إسرائيل المتوحشة ليهاجم الدول العربية ويحرض على غزو سيناء وفتح بوابة المعبر بالقوة ويدعو للانقلاب المسلح على حكام الدول العربية؟

فكرت بسليمان خاطر، وربما لا أوافقه فيما فعله لكني لا أعلم ماذا كنت سأفعل لو كنت مكانه وتعرضت للاستفزاز الذي تعرض له وهو حارس بسلاحه على الحدود في برجة بجنوب سيناء في أكتوبر 1985م؟

قلت في نفسي على الأقل سليمان وجه سلاحه في الوجهة الصحيحة باتجاه عدو محتل، في الوقت الذي توجه فصائل تدعي أنها إسلامية سلاحها لضرب استقرار وأمن بلاد عربية وإسلامية، فيما أسميته في السابق (الحَوَل الجهادي).

وقد أعجبَ هذا المصطلح(الحَوَل الجهادي) زميلتي الإعلامية المتخصصة في الحركات المتطرفة نهاد الجريري، فطلبت إجراء مقابلة تلفزيونية معي حول هذه الظاهرة وغيرها فيما يتصل بالصراعات القائمة.

ربما كنتُ في السابق أتردد في التعاطف مع موقف سليمان خاطر بسبب قتله لمدنيين أبرياء، وديننا يوجهنا إلى أن علاقتنا بأبناء الرسالات السماوية ليست عدائية إنما عداؤنا فقط لمن اعتدى علينا وحاول بالقوة السطو على ما ليس له.

لكن بعد قتل إسرائيل للآلاف من الأبرياء وأعداد كبيرة منهم أطفال ونساء ومنهم لا يزالون مفقودين تحت الأنقاض، بدأت أفكر في سليمان وأسأل: هل ما قام به صحيح وهل ما فعله ضد أبرياء عزل مشروع، وإذا كنا لا نقبل نحن ولا يقبل ديننا قتل مدنيين يهود عزل أو المساس بهم، فكيف تقبل إسرائيل وأميركا وكثير من الأوربيين قتل مدنيين عزل فلسطينيين؟

وكما أخرجت (خريف الغضب) لا لأقرأه إنما لأغضب، أخرجت من أرشيفي مقالًا نادرًا كنت قد احتفظت به بمكتبتي للروائي العالمي نجيب محفوظ بجريدة الأهرام اليومية العريقة بتاريخ 23 يناير 1986م تحت عنوان (حقيقة سليمان خاطر)، لأستحضره الآن بيننا ولنعرف: إلى أين نحن من هنا؟

قال الأديب الكبير الراحل (ظهر سليمان خاطر فى حياتنا ليكشفها، وإن لم تكن فى حاجة الى كاشف، ولولا التواء بنائها وتهلهله لما كان الرجل إلا خبرًا من أخبار الحوادث المفجعة يهز النفس يومًا ثم يتلاشى فى زحمة الأحداث؛ فثمة (جريمة) على الحدود يتناولها التحقيق ويقضى فى القضاء بما هو قاض).

أتساءل هنا: لو كان محفوظ رحمه الله معنا وبيننا اليوم وشاهد جرائم إسرائيل الشنيعة على الحدود وحال أكثر من مليون نازح في رفح بين جائع ومشرد ومجروح ومهدد بالقتل وما فعلته إسرائيل في القطاع طوال الأشهر الماضية، فهل كان ليصف ما فعله سليمان خاطر بأنه (جريمة على الحدود)؟

ويتابع محفوظ: (وعند ذلك تتكشف الملابسات والدوافع وتنجلى الحقيقة، فيعرفها كل مواطن بدون حاجة الى تأويل أو اجتهاد، أما ما حدث فى واقعنا فهو ما يدعو للذهول والعجب؛ فقد تفجر الخلاف حول الرجل وفعله بصورة لا ترد عادة إلا حول المشكلات الميتافيزيقية المعقدة: فهو إنسان (غير سوى) قتل بدون أن يدرى كيف قتل، وقيل: بل هو حارس أمين تصدى للدفاع عن الحدود، وثالث يقول: انه بطل وطنى تحدى الاستفزاز الإسرائيلي، ورابع يعلن أنه مجاهد إسلامى رفع راية الإسلام).

وأقول هنا: إذا اختلف الناس وتنوعت انطباعاتهم وآراؤهم بشأن سليمان وصنيعه بين الخلل النفسي والقيام بمسؤولية الحراسة والنضال الديني، فهل هناك اختلاف بشأن صنيع إسرائيل الهمجي ضد مئات الآلاف البشر، وإذا كان هناك من تريد معاقبته فما هو مبرر تعميم العقاب والقتل الجماعي؟، لأن سليمان قتل فقط من استفزوه وخالفوا أوامره العسكرية واعتلوا الهضبة ولم يقتل غيرهم.

ويتابع الراحل الكبير نجيب محفوظ رحمه الله في مقاله: (وعن نهايته الأسيفة يقول البعض: انه انتحر، ويؤكد آخرون أنه قُتل، ويعتقد غير هؤلاء وأولئك أنه سيق الى الانتحار، وقد خرجت من الضجة المثارة بنتيجتين: 

الأولى: أننا نعيش فى جو يفتقد الصدق والثقة ويسبح فى ظلمات مدلهمة؛ جو انتزع منه أساس التفاهم والمنطق الذى يجب أن يقوم حد أدنى منه بين الناس مهما اختلفت رؤاهم.

الثانية: أن شعبنا قد تلقى ضربات موجعة لم يكن يتوقعها ولا يتصورها، جرحت كبرياءه فى صميمها، فبات ملهوفًا على تضميد جرحه واستعادة توازنه، فلما أن نادى قومه ببطولة الجندى تعلقت به الأفئدة، والتمست فيها بعض الشفاء مما تعانى من قهر؛ فها هو ذا بطل يرد بعد أن وقفت دول الرفض والتصدى تتفرج على غزو لبنان والاغارة على تونس).

وأعقب هنا على هذه الجزئية الأهم في مقال محفوظ  رحمه الله وأقول: ماذا لو كان سليمان خاطر قد فعل ما فعله وأقدم على ما أقدم عليه الآن وليس في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، بعد أن شاهد العرب والعالم كله جنون وهوس القتل وسفك الدماء بالجملة والقطاعي، فهل كان الاختلاف حول ما فعله سليمان خاطر قائمًا، وهل كان بمقدور أحدهم أن يصفه بالجنون أو بأنه يعاني من خلل نفسي وسط هذا الجنون الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء في غزة والضفة.. لا أدري!

يختم الأديب الكبير نجيب محفوظ مقاله بهذه الجملة وهذه الخلاصة: (وهكذا فالجندى الراحل (لم يكن رجلًا) ولكنه كان ظاهرة أراد بها الحكيم العليم أن يذكرنا بأنفسنا وحياتنا، وعلينا أن نبادر الى تنقية جونا من السموم الهائمة فيه، قبل أن يُبعث سليمان خاطر من قبره ويصوب مدفعه نحونا هذه المرة).

يا الله يا محفوظ، يا لها من خلاصة.. علينا أن نبادر الى تنقية جونا من السموم الهائمة فيه، قبل أن يُبعث سليمان خاطر من قبره ويصوب مدفعه نحونا هذه المرة!

لم يكتب نجيب محفوظ هنا شيئًا عن حقيقة سليمان خاطر، انما كتب عن حقيقتنا نحن؛ لأن حراسة الحدود والأوطان ليست جنودًا فقط برشاشات موزعين على كمائن، إنما مجتمع وشعب يقظ واع متماسك، لا يغفل لحظة ولا يتشتت ذهنه وفكره بعيدًا عن عدوه الحقيقي.

أكدها محفوظ وقالها سليمان خاطر لزملائه من الجنود الذين يحرسونه في المحكمة (روحوا احرسوا سينا، سليمان مش عاوز حراسة).