هشام النجار يكتب: شخصية 2023م!

ذات مصر

تأخذ الأحداث حجمًا أصغر أو أكبر من حجمها إذا تم فصلها عن ظروف زمان وقوعها، لذا لا ينبغي الحكم على شخص أيًا كان موقعه خارج سياق ظروف مرحلته وعصره.

حتى لا نترك فرصة للاستخفاف بالشخصيات واستسهال إطلاق أحكام عليهم دون ضوابط ودون وعي ينبغي تطبيق نظرية النسبية الزمانية التي تعنى بدراسة الحالة والظروف المحيطة والتحديات التي قابلت هذا الشخص أو ذاك، وكذلك بقياس مواقفه على من سبقه ومن لحقه للوقوف على مدى ما أسهم فيه من تطوير.

هذا مهم جدًا لأنه يمنح أجيالنا مناعة وحصانة ذاتية ضد المناهج التي تصدر الأحكام جزافًا على الشخصيات سواء عامة أو خاصة، ولأنه من شأنه حفظ المقامات والمكانة وصيانة المنجزات من التشويه والتحريف وفق المصالح والأهواء الشخصية أو وفق مصالح جماعات وتنظيمات وقوى خارجية طامعة.

دعونا نتأمل هنا جيدًا:

في الكلام عن يزيد بن معاوية ذكر الذهبي كثيرًا من مساوئه وقتله الحسين رضي الله عنه، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عند هذا الحد إنما وضع الأحداث في سياقها الزماني والتاريخي حتى لا تأخذ حجمًا أكبر من حجمها، فقال (وله نظراء أمويون وعباسيون، بل فيهم من هو شر منه، وإنما عظم الخطب لكونه ولى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وأربعين سنة والعهد قريب والصحابة موجودون كابن عمر الذي كان أولى بالأمر منه ومن أبيه وجده).

ويقول ابن تيمية -وهو أستاذ الذهبي- عن معاوية رضي الله عنه: (لم يكن من ملوك المسلمين خيرًا من معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده، وأما إذا نسبت أيامه إلى أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل، ومعاوية على ذنوبه لم يأت بعده مثله ملك).

إذن لابد من وضع الشخصية في سياقها التاريخي ثم الحكم عليها، لا كما تفعل جماعات التطرف والتكفير؛ حيث ينزعون الشخصية عن سياقها التاريخي ويعزلونها عن واقعها والظروف المحيطة بها قبل وبعد توليها منصب ما، ثم يصدرون حكمهم عليها بما يحقق هدف الجماعة من تشويه صورة هذه الشخصية بالكامل وشيطنتها وتقديمها بلا إيجابيات ولا انجازات، فقط لأنها وقفت في وجه مصالحها في السلطة أو تبنت وجهات نظر مخالفة لها.

وإذا كان الذهبي أنصف يزيدًا رغم جرائمه الكبرى بقياسه إلى من جاء بعده ممن هم أشد شراسة وجرمًا بقوله (وله نظراء أمويون وعباسيون، بل فيهم من هو شر منه)، وإذا كان ابن تيمية قد أنصف معاوية على ذنوبه، مقارنة بمن جاء بعده لا بمن كان قبله قائلًا ( لم يأت بعده مثله ملك)، فإن الحكم على الشخصيات ينبغي أن يكون منضبطًا بهذه القياسات وهذا الشمول وهذه التساؤلات ومن ثم الإجابة عنها.

فهل الشخص المُراد تقييمه والحكم عليه كان يمكن القيام بأفضل مما قام به بحسب ظروف عصره وتحديات مرحلته؟

وهل إذا قارناه بمن بعده ومن قبله سيظل تصورنا وحكمنا المبدئي عليه كما هو؟ 
هناك الكثير من النماذج والأمثلة التي يمكن التطبيق عليها هنا والتي تفرضها الأحداث المصيرية التي تمر بها الأمة اليوم، وسنكتفي بإثنين:
مثال أول:

جماعات التطرف والتكفير تنجح في استقطاب وتجنيد العديد من الشباب المضحوك عليه باستخدام حيلة مكررة مفادها أن يزعموا أمام واحد ممن يُراد استقطابهم أن الحاكم العربي الفلاني مناهض للإسلام ولا يهتم بأمر القضايا الإسلامية ولا يملك القدرة على استعادة الحقوق والمقدسات وتحرير الأراضي العربية والإسلامية المحتلة كما كان حال القادة المسلمين قديمًا الذين قادوا الغزوات وحاربوا الصليبيين واليهود أمثال محمد الفاتح وصلاح الدين والمعتصم، لذا فهو (حاكم علماني كافر ساقط الشرعية) ينبغي خلعه بالقوة والسيطرة على الحكم من خلال الجماعة لتتمكن هي من القيام بذلك.

نقول: إذا كان هؤلاء القادة المسلمون قديمًا قد استطاعوا وتمكنوا من القيام بهذه الأدوار والمهام الضخمة في ظروف مواتية وفي عصور كانت الغلبة الحضارية والمادية خلالها في جانب المسلمين، فكيف نقارنهم بحكام هذا العصر الذين يحكمون بلادًا في واقع يتفوق فيه الغربيون حضاريًا وماديًا وقد تراجع بشكل كامل مركز العالم الإسلامي والعربي عسكريًا وتقنيًا واقتصاديًا وعلميًا ومعرفيًا (بل وأخلاقيًا)؟

وهل ورث الحكام العرب سلطانًا عريضًا وإمبراطورية تحكم المشرق والمغرب وجيوشًا لا يُرى أولها من آخرها (كجيش المعتصم) ومثلما كان حال الأمة قديمًا، أم ورثوا بلادًا ممزقة وجيوشًا منهارة واحتلالًا مباشرًا وغير مباشر لأكثر من دولة وصراعات داخلية وفوضى أمنية وشبه انهيار إقتصادي وفقر وتشرد وبطالة وجوعى ونازحين ولاجئين بالملايين؟

للوقوف على مدى متانة وصلابة وتفوق المجتمعات التي يحكمها الحكام العرب أخلاقيًا وفكريًا (كما أراد الله لهذه الأمة) من عدمه لابد من العودة لمقال كتبه الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود بعنوان (جنة العبيط) في أربعينات القرن الماضي؛ حيث عالم عربي وإسلامي موهوم وراض بأوضاعه المتخلفة، ظانًا أن ما وصل إليه الغربيون من حضارة ليس بالشيء الخطير والمعجز، فالمسلمون لديهم علماء (بارعون في قراءة الكف وحساب النجوم وتفسير الأحلام وحساب درجات الفضيلة بالسنتيمتر حسب طول الفستان وقصره وحسب تغطية الشعر من عدمه).

(كما تكونون يُول عليكم) وقوة حكام العرب والمسلمين مستمدة من قوة مجتمعاتهم وشعوبهم، ولا يزال الكثيرون في مجتمعاتنا غارقين في الوهم على الرغم من أن المشهد كاشف؛ لأن من تفوق فعليًا وتقدم وأعلا من شأن حضارته هو من طبق احترام القانون والوقت واتقان العمل وعدم الكذب ورفض الفساد والمحسوبية داخل مجتمعه، وهو الجانب المهم الذي يؤدي إلى تقدم الأمم والشعوب.

لدى الغرب مؤسسات تقوم بمهمة (الإحسان للفقير) وتنفق على مراكز البحث العلمي ودور الأيتام ورعاية المسنين والمستشفيات والجامعات–وهي قيمة إسلامية ودينية وإنسانية عامة)، وليس هنالك ثري –كما لدينا- ينفق بسخف على مظاهر فارغة لإشباع عقدة الاستعلاء المريض على البشر.

تفتقد مجتمعاتنا كثيرًا من القيم (الصدق، الأمانة، الإتقان، شجاعة الاعتراف بالخطأ والتصويب، التواضع، تطوير المواهب الذاتية والاشتغال على النفس وعدم التدخل في شؤون الآخرين وقلة الكلام وكثرة العمل) وجميعها كان بمثابة المواد التي رصف بها الغربيون الأرضية الأخلاقية الصلبة التي أوصلتهم لهذه المستويات من الرفاهية والتقدم والتطور العلمي والمعرفي.

وبعدها يأتي أحدهم اليوم في مصر أو غيرها يتحدث عن (أخلاق الجنس)، نعم وأهلًا وسهلًا ومرحبًا وعلى رأسي، لكن مجتمعاتك أيضًا ينتشر فيها بشكل واسع جرائم التحرش الجنسي والخيانة الزوجية والاغتصاب.. الخ.

كما أن المجتمعات العربية والإسلامية التي تدعي التفوق الأخلاقي تأتي في مقدمة ركب الأمم من حيث انتشار الفساد والرشوة والنفاق الاجتماعي والكذب والحسد والحقد والضغينة وعدم التقدير والاحترام والتوقير للشخصيات الكبيرة وذوي المكانة والقيمة.

نعم تقع على عاتق الحكام مسؤولية كبرى لكن مسؤولية الشعوب والمجتمعات وأفراد الأمة أكبر؛ فلا تجلس يا هذا متخاذلًا جاهلًا لا تعرف الفرق بين كيف ولماذا، وبين الألف وعمود الإنارة، ولا بين شعر ابن الرومي والجبنة الرومي، وبين مشروع الإصلاح لمحمد عبده و(المعازيم) لمحمد عبده، وبين سلفية ابن عبد الوهاب و(يا وابور قوللي) لمحمد عبد الوهاب، ولا تعرف ما الذي يحدث بالدول العربية وفلسطين ولماذا يحدث وكيف وصلنا لهذا المصير، ثم تضع رجلًا على رجل قائلًا: (هذا الحاكم العربي كافر وذاك متخاذل وأولئك خونة والغرب يتآمر ضدنا)!
نحن من سمحنا للغرب وأميركا وإسرائيل أن يتآمروا علينا ويفكروا ويجهزوا ويخططوا ويمضوا في تنفيذ خطط محونا وإبادتنا من الوجود، ولو كنا أقوياء فعليًا ما جرؤوا على ذلك، والمؤامرة الخارجية أحد نتائج وتداعيات تخلفنا وليس العكس؛ فالتخلف الذي نعاني منه ليس صدفة ولا نتيجة لمؤامرة دبرتها قوى معادية، إنما هو وليد الحالة العقلية البائسة التي نعايشها ونحياها.
مثال ثان.. ياسر عرفات وحسني مبارك:

حكم البعض حكمًا مجتزءًا متعسفًا على القائد الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس المصري الأسبق حسني مبارك (بغض النظر عن الاختلاف حوله بين مؤيد ومعارض).

هذا الحكم المنزوع من سياقات الظروف والتحديات وغير الخاضع لضوابط نظرية (النسبية الزمانية) سيختلف تمامًا في حال تمت مقارنته بما حدث تاليًا، مع وضع السؤال الرئيسي المتمثل في (هل بنينا على إيجابيات تلك الشخصية وعلى مُنجَزها الرئيسي الذي نتفق جميعًا بشأنه، أم إنشغلنا بتشويه صورته وإبراز عيوبه وربما اختلاق عيوب ليست فيه وتضخيمها، بهدف التوظيف السياسي وترجيح كفة تيار مقابل تيار آخر على غير استحقاق؟

مُنجَز ياسر عرفات أنه أولًا تحلى بالواقعية وبعد نضال طويل بالمقاومة والسلاح جلس وفاوض وناضل بالسياسة ووضع لبنة دولة مستقلة وسط ظروف عاتية مواجهًا عدو شرس مخادع.

فهل بنى الآخرون ومن جاءوا بعده على مُنجَزه هذا وبدأوا من حيث انتهى ليكبروا أساسه الذي وضعه ويقيموا فوقه أعمدة الدولة وسقفها؟ أم أنهم نسفوا كل شيء وبدأوا من نقطة الصفر، لا لشيء إلا ليقولوا (نحن فقط من في المشهد والساحة وليس معنا أحد)؟

ومُنجَز ياسر عرفات أيضًا –وهذا هو الأهم والأروع) أنه نال الشهادة لتمسكه بثوابت القضية ولم يقبل التنازل لا عن القدس ولا عن حق العودة، وقال :شهيدًا شهيدًا فقتلوه.

فهل بنى من جاء بعده والآخرون على مُنجَزه هذا (وهو المُنجَز الأهم) أم تسببوا لا أدري بقصد أو بغير قصد ولا أدري أهو سوء تقدير أم غفلة مقيتة في تكريس واقع يضر جدًا بهذه الثوابت ويمكن العدو من مواصلة تهديدها بشكل أخطر أضعافًا مضاعفة مما كان عليه الحال خلال مرحلة القائد ياسر عرفات؟

بالنسبة للرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك وعلى الرغم من كل السلبيات التي يتفق الكثيرون ويختلفون حولها، لكن الرجل له مُنجَز كبير وهام وهو مشاركته في الانتصار العربي والإسلامي الوحيد على العدو الإسرائيلي في العام 1973م، ومكانة من شارك في نصر أكتوبر لدى المصريين تشبه مكانة من شهد بدرًا في جيل المسلمين الأول.

والمُنجَز الثاني لمبارك –وهو الأهم- هو التمسك بثوابت الأمن القومي المصري والعربي، فلم يضيعها ولم يفرط فيها أو يتسبب في النيل منها والإضرار بها.

وفقًا لنظرية النسبية الزمانية التي طبقها الذهبي وابن تيمية في الحكم على الأشخاص لن يقدر أحد على إصدار الحكم الصحيح المُنصِف على الرئيس الأسبق حسني مبارك وتقييمه، إلا بالنظر لما فعله وتخاذل وتخلى وتهاون وتنازل فيه من جاء بعده.

بعهد حكم القيادي بجماعة الإخوان الدكتور محمد مرسي في العام 2012م، ذهب الحكام المؤدلجون والمتمذهبون الجدد في مصر بعيدًا في الرضوخ للغرب وإبداء تقديم تنازلات في ملفات حساسة تمس الأمن القومي العربي والمصري للغربيين وإسرائيل نظير نيل الرضا عنهم ودعمهم في السلطة.

في المقابل كانت لدى حسني مبارك خطوطًا حمراء من هذه الزاوية لا ينبغي تخطيها وتجاوزها والمساومة والتفاوض بشأنها.

وإذا كان مرسي والإخوان قد أخلوا بالعلاقة التاريخية بين مصر ودول الخليج العربي مقابل التحالف مع قوى إقليمية مذهبية لديها أطماع توسعية مهددة للأمن القومي العربي، فإن مبارك حافظ على ثوابت العلاقات المصرية العربية ولم يقبل بإحداث تحولات من شأنها تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح القوى الإقليمية غير العربية.

وإذا كان الدكتور محمد مرسي والإخوان قد قبلوا الدخول في صفقات على حساب تصفية القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل (جزء من سيناء يُضاف إلى غزة لإستقبال الفلسطينيين) فإن مبارك قد رفض تمامًا وحافظ على الأمن القومي المصري وعلى الثوابت الفلسطينية والعربية ولم يقبل أي تفاوض عليها.
أرى أن شخصية عام 2023م وكل الأعوام، هو كل رجل وإمرأة يمتلك الوعي والمعرفة والإدراك؛ فلا يطلق أحكامًا وتوصيفات وتقييمات جزافًا على أحداث وشخصيات.

[email protected]