هشام الحمامي يكتب: أيام الله في غزة.. وانتظروا ما سوف يجيء

ذات مصر

بعد 20 يومًا فقط من (محرقة رفح) التي شهدها كوكب الأرض الأحد الماضي، سيكون ما يقرب من مليوني مسلم وقوفا على جبل عرفات، في يوم من أفضل الأيام عند الله، في مشهد مهيب جليل عظيم تشاهده الدنيا كلها، مشهد ينطق بما تضيق عنه كل الأوصاف والعبارات.

ومن رأى الجماهير المخطوفة أول أمس، في مباراة الكرة، وسمعهم وهم يرفعون أصواتهم فداء لفلسطين، على صوت (الغناء) الذي كان في ميكروفونات الاستاد، له أن يتخيل ما الذي سيكون عليه الحال، وجبل عرفات يقف عليه ملايين المسلمين الذين جاءوا إلى ربهم شعثا غبرا.

وقفتهم هذا العام بكل تأكيد لن تكون كأي (وقفة)، ولن تكون كأي عام، وفى كل الأحوال تكفينا أيديهم المرفوعة إلى رب العالمين، وتكفينا قلوبهم الطاهرة التي تضيق عنها صدورهم من حبهم لربهم.

***

في شهر رمضان الماضي وبعد ستة أشهر من (طوفان الأقصى) كانت أحاديث (رؤوس الفساد) في العالم تتحدث وهي مرعوبة، من أن يكون الشهر الذي يجمع ملياري مسلم على (عبادة واحدة)، قد يجمعهم على (أمر واحد) له صلة بما يحدث في الأرض التي بارك الله حولها، (غزة).

لكن الشهر مضى كغيره، ولم يحدث ما كانوا يخشونه في أرجاء عالم الإسلام، إلى حد أنهم كانوا يصرحون بضرورة إتمام (هدنة) في رمضان، وهي الهدنة التي لم تحدث.

إذ يبدو أن هناك من طمأنهم من أن (السبات أعمق) من أن ينتبه الناس إلى ما انتبهوا هم إليه (رؤوس الفساد) ويخافونه.

ورحم الله شوقي الذي أوصى من يذهب إلى الحج بأن يبلغ الرسول الكريم السلام ويقول له:

قل لرسول الله يا خير مرسل ** أبثك ما تدري من الحسرات

شعوبك في شرق البلاد وغربها ** كأصحاب كهف في عميق سبات 

بأيمانهم نوران ذِكر وسٌنة** فما بالهم في حالك الظلمات

(سُنة؟! سُنة إيه يا شوقي بك؟ ح تحرجنا مع مدام تكوين كده، ناقص تتكلم عن السيرة النبوية أيضا!!).

***

ويا ليت كانت الشعوب فعلا كـ (أصحاب الكهف) والذي كان سباتهم العميق رحمة من ربهم، ليكونوا شهودا عبر كل العصور على مجتمعات الفساد التي رفضوها، ورفضوا أفكارها وأخلاقها، وحولوا هذا الرفض إلى موقف، وغادروا المدينة.

ويبدو أن(كلبهم) التقط ما يعرفه جيدا، ويعرفه هو بالذات أكثر من غيره، إنه (الوفاء)! فلم يتركهم، ليبق شاهدا هو أيضا على وفاء ومن وفى.

لقد أوفوا بعهدهم مع ربهم (والمسألة هنا جد مفيهاش هزل)، إنه عهد الله، رب الوجود، الذي خلق وعلم وقدر وهدى، وهم قطعة من قلب هذا الوجود، فإن يكونوا، أو لا يكونوا، وقرروا أن يكونوا، فكان ما كان من سيرتهم النبيلة الوفية.

ابك إن كنت من أهل الدمع الفياض كصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال له (لا تحزن، إن الله معنا)، ولعل الله أن يجعل من دمعى ودمعك بردا وسلاما على من(يٌحرقون) إلى جوارنا، لا لشيء إلا لأنهم من أهل (الوفاء)، لم يغدروا ولم يخذلوا، حفظوا وصانوا، وصبروا ورابطوا.

***

وأعطوا فتيانهم، أعظم ما يٌعطى من شعب لمقاومة، هي أصلا قبس من روحه، وقطعة من ذات نفسه وحَبة قلبه، وقالوا لهم إذا كنتم أنتم بإيمانكم وصمودكم وشجاعتكم (أهل البطولة والشهادة)، فنحن بإيماننا ورباطنا وثباتنا (أهل الصبر والسكينة).

ولن يعرف معنى (السكينة) إلا من تنفس هواء غزة في هذه الأيام، وخطت أقدامه تراب غزة في هذه الأيام، وأي أيام، إنها بالفعل (أيام الله)، وهذا هو الرعب كله، الذي يملأ شرق الأرض وغربها، الجميع يريد لهذا(الأنوار)أن تطفئ سريعا سريعا، (أخرجوهم من قريتكم) لماذا؟ ما خطأنا ما الذي جنته أكٌفنا؟

***

لكن عدى وفات، وصدق من قال إن هذه أول حرب في التاريخ تكون نتيجتها معروفة قبل نهايتها، إذ مرت وعبرت في سيرها نورا ونارا ودما وعرقا ودموعا على (محطات الهزائم) كلها، وطهرتها تطهيرا.

ليست هزائم الأمس القريب فقط، بل هزائم قرن بأكمله! هزائمنا عندنا، وهزائمنا عندهم، وهزائمنا على أعتاب كل باب.

***

لقد هٌزم الموساد، المنظمة الأكثر تكتيكية والأكثر استعدادا وقدرة وغموضا والتي هزمت جميع أجهزة الاستخبارات في الشرق الأوسط وحتى العالم، هزمت للمرة الثالثة في 8 أشهر من قبل جهاز استخبارات كتائب القسام.

هذا ما قاله رئيس الموساد السابق (يوسي كوهين 63 سنة) تعليقا على عملية اسر جنود إسرائيليين أول أمس في (جباليا).

كوهين من أقرب الشخصيات لنتنياهو ومعروف عنه (الغندرة) ويطلقون عليه (الموديل)، ومتهم بالفساد المالي الأخلاقي.

ويبدو أنه جزء من الشبكة الدولية الخفية التي تستنسخ نفسها من نفسها، وتحكم وتسيطر وتهدد وتمنح وتمنع (كم قال لنا المفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي/ 96 سنة)، وله ارتباطات عربية وأمريكية هامة، وهو يتقن العربية أيضا، الحاصل أن كل هذا جعله (فتية الأنفاق) تحت الشبشب، والفضائح العارمة قادمة.

***

والحقيقة أن ما جرى كان حرفيا، شيئا أقرب للخيال، عملية تتم في ظروف معقدة وتضليل استخباراتي هائل، وإيهام بوجود أسرى في النفق، ثم تتم وتكمل بتوفيق من الله العلى القدير.                                      

إخفاء الأسرى تم بنجاح، التواصل مع القيادة تم نجاح، ليتم كتابة وتسجيل كلمة (أبو عبيدة)، وبعد ساعات تظهر في الإعلام!!

ما هذا أيها الناس، جلعاد شارون (ابن الجنرال شارون) يقول: ليسوا فقط لا يخافوننا كما كان، أنهم يحتقروننا.

***

ورحم الله د/ عبد الوهاب المسيري الذي قال لنا ذات يوم: المقاومة أدركت أن الإعلام قوة ضخمة جدا ولا يمكن تجاهلها، فالفضائيات تبث ما يحدث في نقطة ما في العالم إلى بقية أجزاء العالم.

مسألة الصورة الإعلامية أصبحت مسألة مهمة للغاية، ولا سيما في حالة إسرائيل التي تستمد قوتها وشرعيتها من صورة إعلامية كاذبة قامت بترويجها) كما ذكر رحمه الله رحمة واسعة، في الجزء الرابع من الحوارات.

واضح طبعا أن تطوير الجهاز الإعلامي لدى حماس كان يسير بنفس قوة تطوير جهاز الاستخبارات ونفس قوة جهاز التسليح، والعملية الأخيرة في جباليا ظهرت فيها هذه القوة على كمالها وتمامها.

***

لكن الأكمل والأكمل هو هذا التجرد والصدق والإخلاص الذي يتجاوز ما هو طبيعي في البشر، وأتصور أن هذا هو ما يصح وصفه بـ(الشرط الإيماني) فعلا، وما كان فيض البركات من هذا الطوفان ليتحقق إلا بهذا الشرط، شرط (ما بأنفسهم).

وستكون هذه المحطة من (محطات الهزائم) وأروع وأعظم تلك المحطات التاريخية التي مر عليها الطوفان، وطهرها من أسوأ ما فيها.

***

أقترب الصبح، وإن شاء الله ستكون (طوفان الأقصى) مثالا لما قاله الراحل (وديع سعادة) في وصفه بالغ الشعور والتأثير عن العابر الغائب الذي يرجوه أن يعود: مرت على الحدائق وصار فيها زهور، ومرت في الشوارع وصار فيها ناس، ومرت في الليالي وصار فيها قمر، ومرت في النهارات وصار فيها شمس، وانتظروا ما سوف يجيء.