هشام النجار يكتب: «حديث السنوار عن كربلاء والحسين.. هل سمع نصيحة الأخ الأكبر»؟!

ذات مصر

أثار ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال بشأن مضمون رسائل قائد حركة حماس يحيى السنوار وأيضًا البروفايل الذي نشرته له صحيفة الفايننشال تايمز الكثير من الجدل، وغالبيته مشروع، والبعض منه مطلوب حيث يطرح أسئلة في صلب المنهج دافعًا إلى بلورة مراجعات بشأن العديد من القضايا الفكرية التي تشتبك مع المقاومة ومع حركة التحرر عمومًا، وهي التي ينبغي أن تُنجز إذا أردنا فعلًا نجاحًا لمقاومة وإذا أراد الفلسطينيون حقًا أن يتحرروا.

أرى وجوب التأسيس لصيغة مقاومة تستوعب دروس الماضي والمرحلة الحالية وتعظم من أرباح حركة التحرر الوطني وفق برنامج مدروس يدخل في صلب مشروع الدولة المستقبلي والذي من المُفترض أن يتحقق تدريجيًا عبر نضال مبدع يزاوج بين البناء والمقاومة الخلاقة.

المراجعات واستيعاب الدروس وتلافي الأخطاء للخروج بتأسيس منهجي متماسك لحركة مقاومة وطنية فاعلة يلزمه وضع طرح السنوار في سياق البحث والدرس والمناقشة الفكرية المُعمقة من كبار مفكري وخبراء الأمة، ليدقق من تصدى للشأن العام ولقيادة تيار والاشتباك مع قضايا الأمم والشعوب في ماهية هذه القضايا وأبعادها وخلفياتها الفكرية وما يتسق ويتناسب معها من مصطلحات ومفاهيم وما لا يتسق.

تهمني جدًا المعالجة المنهجية لما طرحه السنوار فيما يتعلق بتشبيهه ما يحدث في غزة بمعركة كربلاء، عندما قال (علينا المُضي قدمًا في نفس المسار الذي بدأناه أو لتكون كربلاء جديدة)، حيث رأى أن المزيد من الدماء سيصب في مصلحة حماس في النهاية.

نسأل: هل الدماء والدمار والمزيد منها يصب بمصلحة حركة المقاومة؟ وهل تقديم الشهداء بأعداد هائلة هو ما يحل القضايا ويعيد الحقوق بشكل عام؟ أم أن هناك أساليب أخرى مبدعة تقلل الخسائر في أوساط المدنيين لأدنى حد وتحقق الهدف وإن طال الزمن؟

لن تنتهي المقاومة ما دام الاحتلال قائمًا ولم تُسترد الحقوق، وينبغي على كل من يناصر المقاومة أن يُسهم في وضع تصور مغاير ومنجز لمستقبلها، يمدها بالقدرة

على تحقيق أهدافها ويأخذ في الحسبان حسابات الربح والخسارة بين الشعب والاحتلال؛ بحيث يكون التحرك وفقًا لبرامج وخطط كفاحية وثورية مدروسة، في سياق مقاومة منسقة موحدة الجبهة بطول فلسطين المحتلة وعرضها، تحافظ على مواردها وتستنزف عدوها ولا تمكنه من استنزاف شعبها وتضع في اعتبارها وأولوياتها وحساباتها الدقيقة قدرة شعبها على التحمل، مُراعية موازين القوى والمتغيرات المحلية والإقليمية- وهذه الأفكار المهمة ليست ترفًا بل من أساسيات الحراك، لذا طرحناها وكررناها مرارًا منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى اليوم-.

أذكركم أنني قلت مرارًا أيضًا أن تجارب التحرر الوطني على مستوى العالم وأي مشروع مقاومة لا ينجح وعُرضة لتضييع كل التضحيات الكبرى وعدم إنتاج واقع مختلف على الأرض إذا كان فصائليًا عشوائيًا بدون إستراتيجية وطنية شاملة، وإذا رهن إرادته وقراره ومصير الشعب الذي يدافع عن حقوقه بأجندات خارجية توظف قضية التحرر لمصالحها القومية، كما قلت إن الانقسام لا يحقق أي أهداف وما حقق الفيتناميون إنجازهم التحرري سواء ضد الفرنسيين أو الأميركيين إلا من خلال جبهة مقاومة موحده متماسكة.

غزة وكربلاء

نأتي إلى الشق التاريخي، فهل يعي السنوار حقًا معنى ربطه بين غزة وكربلاء وهل يصح هذا الربط، وإذا كان يقصد صناعة المظلومية والتضحية بأعداد كبيرة أخرى من الفلسطينيين بالإضافة إلى الأعداد التي قُتلت وشُردت وجُرحت حتى تستخدم للضغط أو للتوظيف الإعلامي أو السياسي أو لأي هدف كان، فهل كربلاء التاريخية تصلح لتكون مرجعًا لهكذا تصور ولهكذا غاية؟

دعونا نفكك ونتعمق أكثر وأكثر لأن المسألة جد مهمة بل مصيرية والتبصير بشأنها من شأنه أن يصحح العديد من الأخطاء والتصورات التي فُهمت خطأ بشأن العديد من الأحداث التاريخية، وجرى استدعاؤها واستحضارها لتوظف في الاتجاه الخطأ، حيث طالما سمعنا من هذا التيار أو ذاك وهذه الميليشيا أو تلك عبارة (النضال تحت راية الحسين) و (لتكن كربلاء جديدة).. الخ، فما موقع الحسين رضي الله عنه وموقع كربلاء مما يجري اليوم؟

ما أورده الطبري وغيره بشأن قضية الحسين بن علي رضي الله عنهما مختلف عن الذي يلقيه الشعراء والوعاظ، والحقيقة التي غابت عن كثيرين ممن تحركهم العواطف والشعارات أن العمل السياسي الذي أقدم عليه الحسين لم يكن إلا اجتهاده الشخصي، في حين رفضه جميع الصحابة الموجودون وكبراء مكة والمدينة بمن فيهم شقيقه الأكبر الحسن رضي الله عنه.

بالطبع القضيتان عادلتان فالحسين يطالب بحكم حر وبمنع التوريث وبحقه في الشراكة السياسية بناءًا على اختيار قطاع من الشعب، ومقاومة الاحتلال قضية لا يختلف اثنان حول عدالتها؛ لكن أدرك الحسن بن علي (الأخ الأكبر) خطورة الموقف بكل أبعاده وكتب في وصيته لأخيه الصغير يحذره من الوقوع في شبكة خداع الكوفيين: (قد ثبت يقيني على أن النبوة والخلافة لا يمكن أن تجتمعا في قبيلتنا والأفضل أن تلتزم الصمت فيما يتعلق بهذا الشأن) –هكذا قال وهكذا تحدث الحسن.

ويكأني الآن أخاطب يحيى السنوار الذي أراه في الصور دائمًا متحفزًا تلمع عيناه ببريق يشي بسمات العناد والتعجل والحدة؛ وها أنا أستحضر التاريخ بطريقتي فأضع السنوار مكان الحسين رضي الله عنه وأضع قادة العرب وحكماؤهم (الشقيق الأكبر لفلسطين) مكان الحسن (الشقيق الأكبر للحسين) وأضع الإيرانيين وقادة الحرس الثوري ونصرالله مكان الكوفيين؛ فهلا سمع السنوار قبل أن يتحرك وقبل أن يقرر نصيحة الشقيق الأكبر حتى لا يقع في شرك الخداع، الذي تحدثنا عنه مبكرًا جدًا (راجعوا الفيديوهات والمقالات) والذي اتضح جليًا في مراحل لاحقة في لحن قول الإيرانيين وفي اعترافات بعضهم.

لنفهم القضية أكثر من زوايتها التاريخية أولًا وهو ما سيسهل علينا جدًا التطبيق على الواقع المعيش، لابد أن نقارن بين الحسن (الأخ والشقيق الأكبر) والحسين (الشقيق الأصغر) –وكلاهما ابنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وحفيدا الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام- 

لو فعلنا سنكتشف ونتعرف يا للعجب على رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من الملفات والقضايا السياسية المطروحة حاليًا.

كيف نتعرف على رأي الرسول في الأحداث السياسية التي تلت موته؟

هل فطن شبابنا لهذه الفكرة العبقرية المستنبطة من هذه القصة تحديدًا؛ وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رجح نهج الحسن السياسي عن نهج الحسين؟!

كيف ذلك؟ فلننظر..

الحسن بن علي الذي كانت له تجربة مماثلة بل كان جيشه مقاربًا لجيش معاوية ووصف بأنه كتائب كالجبال وبايعوه على الموت لكنه تنازل لمعاوية عن الخلافة وأنقذ الإسلام من الضياع والاندثار في قرنه الأول، وتحولت بفضله الفترة بعد 41 هجرية من احتمالية نشوب نزاعات وصراعات إلى استقرار ونهضة للدولة الإسلامية وتفرغ للدعوة وتوسيع رقعة الإسلام في الخارج بعد ما كانت الفتوحات قد توقفت خلال الحرب الأهلية منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

الدليل على أن الرسول أيد منهج الحسن أن الأحاديث الصحيحة التي وردت في الحسين تشير لحب النبي له الحب الفطري كونه حفيده، مثل الذي رواه أسامة بن زيد أنه سمع الرسول يقول (هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما).

في المقابل الأحاديث المروية في الحسن بن علي ليست فحسب قوية السند، بل فيها ثناء على مواقفه السياسية وتنبؤ بانجازه التاريخي مع معاوية، عن أبي بكرة قال (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).

أيضًا هناك رواية عن أنس بن مالك أنه قال إن الحسن كان أشبه الناس بالنبي، وفي رأيي هو (شبه في الشكل والعقل).

عندما تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية ظهر أمام بعض من شتموه وكفروه ومزقوا ثيابه وكادوا يقتلونه من أتباعه انه تنازل عن ساحة العمل، لكنه في الحقيقة فتح الطريق لميدان العمل بأرقى أسلوب؛ أنه وجه قوى المسلمين مجتمعة للميدان الذي يحقق مصالح الأمة العليا حتى لا تُستنزف في صراعات داخلية، ولذلك أسموه (عام الجماعة).

بعد عشرين عامًا أصر الحسين على الخروج للكوفة ومواجهة جيش يزيد بن معاوية في 61 هجرية وفشلت كل محاولات منعه ولما أحس بخطورة الموقف متأخرًا راجع نفسه ونزل على الرأي الذي توصل إليه شقيقه الأكبر (الحسن) بقوة تنبؤه التي تشبه قوة تنبؤ جده عليه السلام.

حصلت مفارقات أدت في النهاية لمأساة الحسين المؤلمة في كربلاء في 10 محرم 61 هجرية، ولو كان يزيد بن معاوية المقيم في عاصمته دمشق حاضرًا مع جيشه في ساحة كربلاء لقبل اقتراحات الحسين بدون أدنى شك؛ أنه يُترك ليُقاتل ضمن جيش المسلمين ضد أعدائه أو يعتزل للعبادة أو يقبل ببيعة يزيد، لكن شمر بن ذي الجوشن وعبيد الله بن زياد وجدوها فرصة للتخلص من الحسين إلى الأبد، فكان ما هو مشهور وفُصل رأسه الشريف عن جسده.

رسالة مهمة للمناضلين والمقاومين وشباب الأمة

لا كربلاء ولا اسم الحسين يعني التضحية بأعداد كبيرة من المسلمين لخدمة قضية عادلة كما يتصور البعض مع عدم الأخذ بالمشورة وبرأي الحكماء وبموازين القوى على الأرض؛ فالحسين عندما شعر بالخداع طلب ممن كانوا معه العودة فعادوا، ولم يتبق معه إلا أهل بيته وحتى هؤلاء طلب منه أن ينصرفوا فأبوا.

نعم منهج الحسن بن علي رضي الله عنهما الأقرب لجوهر الإسلام والذي أثنى عليه الرسول، لكن حتى الحسين رضي الله عنهم أجمعين -لو فعلًا نقتدي به- لم يضحي بالشعب ولم يسعَ لصناعة مظلومية وكربلائية يوظفها لحصد مكاسب سياسية، لأنه لما تيقن من أن موازين القوى مختلة وليست في صالحه بعد تخاذل شيعته دعا الناس للانصراف وقال: (من أحب أن ينصرف فلينصرف) فتفرق الناس عنه يمينًا وشمالًا، ولم يتبقَ معه إلا أهل بيته.

وأيضًا طلب ممن تبقوا معه من أهله الانصراف (أنتم في حل من طاعتي) لكنهم أصروا وثبتوا معه حتى الاستشهاد.

الشقيق الأكبر يا سنوار.. الشقيق الأكبر يا مناضلين ويا قوى تحررية ووطنية.. الشقيق الأكبر يا شباب العرب والمسلمين في كل مكان.

خذوا منه النصيحة واستنطقوه واستهدوا برأيه وبحكمته..

واعلموا أنه لو كان الحسن بن علي هو بطل المسلمين سنة وشيعة اليوم، ولو قرأنا تاريخ الحسين وحادثة كربلاء قراءة صحيحة واعية لكان هناك إبداعًا في مقاومة الظلم والظالمين بتكتيكات متطورة، ولكانت الأمة متماسكة ومستقرة ومزدهرة.

لكن للأسف تُرفع الآن شعارات الكربلائية والنضال المزعوم تحت راية الحسين في الفضاء السني والشيعي، لأن هناك قوى لا تريد عمرانًا ولا حياة ولا حتى انتصارًا وإنجازًا للمقاومة وعلى مستوى التحرر الوطني، هي فقط تريد حربًا دائمة وصراعًا دائمًا لا ينتهي، وتصنع تقنية الموت والمسيرات والصواريخ كي تهيمن على الشرق الأوسط على جثث ملايين الأبرياء.