على الصاوى يكتب: لا تعجلوا بالحُكم على أحد

ذات مصر

عندما بدأ الدكتور مصطفى محمود في مقتبل حياته في البحث عن الحقيقة، وكشف ما وراء الماهيات الإلهية وحقيقة الكون والله والإنسان لم يَسلم من الانتقاد والملاحقة والاتهامات بالردة والزندقة، حتى عندما أصدر كتاب الله والإنسان تمت مصادرته، وعُقدت له جلسة محاكمة سرية بحضور مشايخ الأزهر، ورغم أفكاره الجريئة وتجاوز تساؤلاته الخطوط الحمراء إلا أنه نال إعجاب كثير من العلماء فقال أحد علماء الأزهر آنذاك بعد أن قرأ كتاب الله والإنسان: "نحن أمام مفكر عظيم سيكون له شأن في المستقبل"! حتى أن المبدع الكبير كامل الشناوي قال له: يا مصطفى أنت تُلّحد على سجادة الصلاة؛ تعبير مجازي بليغ يقصد منه أن مصطفى محمود ترك كل الموروث والمُسلّمات وبدأ طريق البحث بتجرّد تام ليس للإساءة بل للإيمان بيقين وشواهد قطعية، وفي النهاية وصل بيقين وعلم، وألّف كتابا بعنوان رحلتي من الشك إلى الإيمان، إذ إن الحق فطرة لكنه بحاجة إلى استواء عقلي وبحث طويل ومجهود دون ضغط أو كراهة.

وقد برزت فتاة صغيرة في مقتبل عمرها في ناحية، تحمل أفكارا جريئة رغم حداثتها وتطالب بإعادة النظر في كثير من الأمور الدينية التى يراها الناس قطعية وليست بحاجة إلى نقض أو إبرام، فقوبلت بهجوم شديد واتهامات من الكثيرين وهؤلاء معهم عذرهم وهى أيضا معها عذرها، فكل إنسان يختار طريقة البحث التي تناسب فكره وأهدافه، شريطة أن يكون الحق هو مبتغاه في النهاية، فبعض العقول لا تؤمن إلا بالشك كما قال ابن تيمية، والشك هنا ليس الغرض منه الهدم والتسفيه بل التساؤل بإلحاح وتجاوز المسلمات وإعادة النظر في الموروث.

قد يكون هناك بعض الأخطاء التى ترافق من يبدأ البحث بهذه الطريقة وهذا له ما يبرره، مثل حداثة السن أو تأثير المحيط أو الصحبة لكن في النهاية حين يتحرر الإنسان من كل تلك القيود سوف تتغير أفكاره ومعتقداته، يقول تشرشل: "إن الثبات على الأفكار فضيلة لكنها فضيلة العقول الصغيرة". التغيير فلك يدور فيه الجميع بلا استثناء.

إن حياة الإنسان العقلية تتقلب بين نار التجديد والتجريب، وكنت قد أدليت برأيي على رأى تلك الفتاة حين تحدثت في لقاء تليفزيوني عن التعدد في الإسلام ثم تراجعت وحذفته لاعتبارات منها عام ومنها خاص، رغم ما نالني من إساءة شخصية غير مبررة من أحد القريبين منها، لذلك ترفعت وانسحبت، فكرامة الإنسان أكبر وأعز من أن تُبذل وتُبعثر على الألسنة، لا تعجلوا بالحكم عليها مهما حملت من أفكار فما زال أمامها الكثير من الوقت والعمر والجهد لتكنز من العلم أكثر، وتخوض تجارب الحياة العملية فهى خير معلم، كما قال المفكر الألماني هنرش بول: " لقد علمني الطريق إلى المدرسة أكثر مما علمتني المدرسة".

إن الإكراه لا يصنع انسانا مؤمنا ولا مفكرا رصينا، بل الحرية هى أساس الفكر والإبداع والوصول، دعوا الجميع يفكرون ويتساءلون فالطريق تصنعه الأقدام وقد تكون وجهتنا واحدة لكننا نسلك طرقا مختلفة، في النهاية العبرة بالوصول، فلا تحكموا على الرحلة من بدايتها، ولا تعجلوا بمدح الناس ولا بذمهم
فلعل ما يسؤوكم منهم اليوم يسرّكم غدا.